بمجرد أن يطأ الزائر رصيف محطة القطار "البراق"، تباغته الحقيقة الأولى لهذه البطولة في طنجة: لا وجود لطوفان بشري يجتاح كل شيء، بل ثمة تسلل ناعم لألوان القارة السمراء إلى شرايين المدينة. الحقائب التي تُجر على الأرضيات اللامعة للمحطة لا تحمل فقط أمتعة مشجعين، بل تحمل لهفة "سياح الكرة" الذين اختاروا بوابة إفريقيا نحو أوروبا لعيش تجربة "شمالية" هادئة. ومن بوابة المحطة، ينساب هذا التدفق البشري بهدوء نحو وسط المدينة، حيث تتجلى ملامح "التعايش" بوضوح في ساحة "9 أبريل" التاريخية. هناك، لا تتغير هوية المكان، بل تتسع لتشمل الضيوف؛ إذ تتجاور القمصان الرياضية فاقعة الألوان مع الجلابيب المغربية التقليدية في المقاهي العتيقة. وتطغى على الفضاء نقاشات خافتة حول خطط التنقل وأسعار الفنادق في أحياء المدينة العتيقة و"مالاباطا"، أكثر مما تدور حول صخب التشجيع، في مشهد يوحي للوهلة الأولى بأن المدينة تعيش يوما سياحيا عاديا. غير أن هذا "الوقار الطنجاوي" ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، أو بالأحرى، الهدوء الذي يحيط ب"بؤرة البركان". فما إن تقترب الخطوات من ساحة "دار البارود" المحاذية للميناء القديم، حتى ينقطع خيط الصمت فجأة لصالح إيقاع إفريقي صاخب. هنا، قررت الجالية السنغالية الكبيرة المقيمة بالمدينة، مدعومة بجحافل مشجعي "أسود التيرانغا" في المجموعة الرابعة، كسر رتابة المشهد العام. وتتحول الساحة التاريخية يوميا إلى "دكار مصغرة"؛ حيث تقرع طبول "السابار" بعنف محبب، وتتشكل حلقات رقص عفوية تجذب المارة والسياح كالمغناطيس. يقول "عثمان"، وهو طالب سنغالي يشارك في الاحتفالات وسط الساحة: "في باقي أحياء طنجة نحن ضيوف هادئون نحترم سكينة المدينة، لكن هنا في دار البارود، نحن أسياد الإيقاع، وهنا نعلن انطلاق المباراة قبل صافرة الحكم". هذا التناقض الصارخ بين "زنقة" المقاهي الهادئة و"ساحة" الطبول الصاخبة يمنح تجربة طنجة تفردا خاصا، حيث يتنقل المشجع بين عالمين نقيضين في مساحة جغرافية واحدة. ومع اقتراب موعد اللقاءات، تتوحد هذه المسارات المتناقضة -السياح الهادئون والراقصون الصاخبون- في اتجاه واحد نحو "ملعب طنجة الكبير". هناك، يبلغ المنحنى البياني للحماس ذروته، حيث يختلط باعة الأعلام بشباب المدينة في محيط الملعب، مشكلين لوحة فسيفسائية تختزل شغف القارة. لكن، وبمجرد أن تطلق الصافرة النهائية وتطفأ الأضواء، تمتص طنجة هذا الزخم بمرونة لافتة تعيد الأمور إلى نصابها. لا مسيرات تعطل المرور، ولا فوضى تعم الشوارع؛ بل انسحاب سلس للجموع نحو الكورنيش لاستنشاق نسيم البحر، أو العودة إلى الفنادق. تلخص مشجعة غانية المشهد وهي تغادر الملعب باتجاه وسط المدينة: "طنجة تمنحك الجرعة المناسبة من الحماس، ثم تهديك السكينة لتستعد لليوم التالي". هكذا، تنجح "عروس الشمال" في تقديم نسخة من "الكان" تشبه طبيعتها: مدينة قادرة على احتواء صخب القارة دون أن تفقد هدوءها الأطلسي المعتاد.