سفير ياباني: الدعم البريطاني للمخطط المغربي للحكم الذاتي ثمرة "سياسة طويلة الأمد" تحت قيادة الملك محمد السادس    مونديال 2030 ينعش النقاش حول التوزيع العادل للمشاريع بالمغرب    الاتحاد العام لمقاولات المغرب يدعو القطاع الخاص لمنح عطلة استثنائية يوم الاثنين        سعد المجرد أمام القضاء مجددا.. أسبوع حاسم للنجم المغربي    جلسة حاسمة في قضية المهدوي… والمطالب تتعالى بإسقاط التهم الجنائية        توقيف أربعيني عرض فتاتين للاعتداء بالشارع العام بأكادير    باحثون يطورون أداة لرصد أمراض معدية في أقل من 10 دقائق    سفينة من "أسطول الحرية" محملة بمساعدات إنسانية تبحر إلى غزة من إيطاليا    قدم أداء مقبولا ويحتاج إلى مزيد من العمل.. الوداد يتعثر من جديد قبل انطلاق كأس العالم للأندية    إتحاد طنجة يتوج بطلا للنسخة الأولى لكأس الصداقة المغربي الإسباني والعصبة الوطنية للكرة المتنوعة تتفوق على نظيرتها الإسبانية    وفد اقتصادي ومؤسساتي من جهة فالنسيا يقوم بزيارة عمل لطنجة    اقتصاد خارج الرقابة…ما الذي تكشف عنه أرقام دراسة المندوبية السامية للتخطيط حول القطاع غير المهيكل؟    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الدرهم ليوم الإثنين    مجازر أكادير تُغلق أبوابها مع إقتراب العيد    تجربة الفنان التشكيلي المغربي: سيمفونية الألوان    فتح باب المشاركة في مسابقة الدورة 9 لملتقى سينما المجتمع    ديستانكت يكشف عن ألبومه المرتقب «BABABA WORLD» بمشاركة نجوم عالميين    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر    حفل تكريم للمناضلين الحزبيين والكفاءات المغربية بالخارج، وعدد من السياسيين البلجيكيين    الحجاج يتوافدون إلى مكة وسط تدابير مشددة ودرجات حرارة مرتفعة    وقفة احتجاجية بآسفي تجسّد مأساة عائلة النجار في غزة    المقاولة المغربية تعيش حالة اختناق غير مسبوقة في غياب التحفيز وضعف التنافسية    توقعات أحوال الطقس اليوم الاثنين    إلموندو: الاعتراف البريطاني بالحكم الذاتي في الصحراء المغربية "آخر مسمار في نعش جبهة البوليساريو الانفصالية"    ماكرون يشيد بأشرف حكيمي بعد التتويج التاريخي بدوري الأبطال    حكيمي يترجم موسمه الاستثنائي مع سان جرمان بلقب ثان في مسيرته الاحترافية    أخبار الساحة    أطباء بلا حدود تحمّل مؤسسة أمريكية مسؤولية الفوضى وسقوط قتلى أثناء توزيع المساعدات في رفح    اكاديميون يناقشون أزمة السياسة والسياسي في لقاء بالرباط    الذهب يرتفع في ظل تراجع الدولار وتهديد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة    نص رسالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في دورة سنة 2025 لملتقى 'إبراهيم لنهاية الأسبوع حول الحكامة'    المغرب تحول إلى عاصمة عالمية للدبلوماسية البرلمانية (رؤساء أربعة برلمانات إقليمية بأمريكا اللاتينية)    تأهل نهضة بركان إلى ربع النهائي بفوزه على الكوكب المراكشي (3 – 0)    محاولة تهريب أكثر من أربعين أفعى توقف رجلا في مطار هندي        الفيضانات في غرب الصين تدمر عشرات المنازل والطرق    79 معتقلا في احتفالات سان جرمان    قافلة "حفظ الذاكرة إقرار للعدالة والإنصاف" تجوب المغرب أواخر يونيو المقبل    تصفيات مونديال 2026: المنتخب الايطالي يفتقد خدمات مدافعيه بونجورنو وأتشيربي    لدغة أفعى تُنهي حياة أربعيني بجماعة بوقرة بإقليم وزان    حادث مروع بطريق الحرارين في طنجة يودي بحياة شاب ويصيب مرافقه بجروح خطيرة    المغرب ينتزع أربعة عشرة ميدالية ، منها أربع ذهبيات خلال بطولة العالم للمواي طاي بتركيا    الماضي حاضر مُتجدد    مع العلّامة الفقيه المنوني .. زكاة العلم إنفاقه    معرض "أخوة الروح بالألوان المائية" يجمع الإبداع والدبلوماسية الثقافية بالرباط    يوميات حاج (2): في الإحرام تتساوى الرتب وتسقط الأقنعة الزائفة    لمنور "أفضل مطربة عربية" بألمانيا    السجائر الإلكترونية المستخدمة لمرة واحدة تهدد الصحة والبيئة!    معهد للسلامة يوصي بتدابير مفيدة لمواجهة حرارة الصيف في العمل    إسبانيا.. مدينة غافا تعيش على إيقاع الأيام الثقافية المغربية    "البوليساريو وإيران": كتاب جديد يفضح أسرار الإرهاب من طهران إلى تندوف    الوفد الرسمي للحجاج المغاربة يتوجه إلى الديار المقدسة    البرازيل تحقق في 12 إصابة جديدة مشتبه بها بإنفلونزا الطيور    موسم الحج لسنة 1446 ه .. الوفد الرسمي للحجاج المغاربة يتوجه إلى الديار المقدسة    العثور على "حشيش" في مكونات حلوى أطفال شهيرة في هولندا    مخترع حبوب الإجهاض الطبي يغادر دنيا الناس    









زمن الحلقة
نشر في تازا سيتي يوم 08 - 04 - 2011


محمد الفشتالي *
نتحلق حوله وعيوننا مثبتة إلى وجهه النوراني، فيزج بنا في فسح نشوى بأحلام باهرة، نعيشها، نستلذ بفصول كل مغامرة يشخصها رشيقا بكل جسده، ونعبق بشجن شخوص تطل علينا عبر صوته الجهوري.؛ إذ يقرع طبول الحرب في إحساسنا الطفولي حد الرهبة، أو يغدو حنونا، ويستبد به طربا لما يتمكن أحد الأبطال من امتلاك سعادة إحدى الدارين طبعا. تلهفنا لحكاياته الخصيبة بلا حدود، وتنامى في عيوننا الصغيرة كراوية جذاب وشخص وقور وواعظ، ولو أن البعض كان يسميه ( الحلايقي ).


إنه كائن فريد غرس فينا فتنة القص، وحفظنا عنه حكايات وحكايات، وعنه تبركنا بقصص الأنبياء هود ونوح وسليمان ويوسف. له حقيبة بدون لون تلازمه كلما توسط حلقة، وإذا ما فتحها بدت مليئة بكتيبات صفراء مربعية الشكل؛ كم حاولنا تهجي عناوينها المسجوعة، أو على الأرجح تلهينا بذلك: " قرعة الأنبياء"، " تمنى الطالب وعز المطلب "، " الروض العاطر في نزهة الخاطر"، "الديوان المحبوب لسيدي عبد الرحمان المجذوب"، "رحلات السندباد" ..." دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار"، ومخطوطات دونت بالصمغ كلما أظهرها تهامسنا: ( هذا الدمياطي؟ ).



يوم الأحد هو الأمل والشغف للحكاية. فما يكاد نور صباحاته يغمز البيوت الباردة بأزقة المدينة؛ حتى ننتصب بساحة باب الجمعة متحلقين به بالعشرات. نرنو إليه في صمت كاسح تعطشا للبداية، وإذا قصصه تتدفق، فنتيه... نسير في الصحاري والأودية، نصعد منعرجات جبلية، نطل على كنوز ذهبية، نغنم ... نحمل سيوفا وحرابا، نقاتل ... نموت ... نحيا ... نمتطي الفرس، نعانق خليلات ... والرحلة الجامحة لن تنتهي إلا إذا يبست حنجرته أو كادت. آنذاك نبحث في جيوبنا عن ريالات بيضاء؛ نضعها في قعر صاع نحاسي يخرجه من الحقيبة، فيدعو لنا، ونردد دعاءه إنشادا، ونذوب في الدروب. طيلة الأسبوع نتبادل ما رأيناه وعشناه، وقد نلعب أدوار أبطال سلبونا، واستلوا ذواتنا في الساحات ... إلى أن يطل صباح أحد آخر، فيجرفنا إلى حيث يستأنف الحكي، وفرح رحلة جديدة تسجن أنفاسنا تماما. . وكان إذا ما لاحظ تآكل انتباهنا في سفر ما؛ يضع في أيدينا قفازات سميكة ويدعونا للتلاطم - تدريبا لنا على البسالة - فنتلاكم ونترافس حتى الرعاف وتحطيم الأسنان، وهو يحرضنا، والتصفيقات تتعالى إلى أن يهوي المنهزم أرضا، ودمه ينزف، فيمسحه من انتصر، ثم يتعانقان، هكذا علمنا.


لم يكن (السي) سلام يفارق باب الجمعة، باب الحلقة نهارا، وباب لخليط من المتسكعين والسكارى والنشالين ولاعبي القمار تحت جنح الظلام. أكلته المفضلة ( الصوسيس ) مشويا لدى باعته عند الربوة المطلة على البوابة المعتمة، المنفتحة على الأدراج كجسر نزول من المدينة العليا إلى السفلى. كم حلمنا أن نصعد هذه الأدراج طائرين يوما ما على بساط الريح؛ الذي امتطاه شاب في رحلة اقتلع فيها القمر من المجموعة الشمسية، وقدمه مهرا لزواجه من مدللة الملك العذراء، حسب تلك الحكاية التي سمعنا فيها لأول مرة بسلسلة " بساط الريح " تتفجر مدوية من شفتي راويتنا العجيب.

بعد زوال أحد مشمس لم نهتد لحلقته، وحب القص يدفعنا لتقفي أثره. لذلك بحثنا دون كلل إلى أن عثرنا على نعله الجلدي المنقط بالصمغ... تتبعنا مسار خطوه على الأتربة خطوة خطوة، حتى بلغنا الدرج الرابع والخمسين، حيث تراءى لنا شاربه المنفوش خلف شجرة، و بدا شبحه يرقص تحت رشاش الضوء المتماهي بأشعة الغروب ... أصخنا السمع، وإذا مواويله تتراكب مفرجة عن لحن أغرب من ذلك الذي حفظنا به هذه القصيدة عن سوق النساء بالحلقة. مقامه شجي الوقع غريب... لاحت ظلاله تتماوج صحبة تهليلات تخترق هدوء المساء نغما ... صدى صوته يلاعب الأغصان ليرتطم بالسور الأثري، ويتلاشى ليعيد الدورة ... رأينا وجوها صارخة تخرج من ثقب السور، وأخرى راقصة، متطايرة، مقهقهة، ثم وجها مثلثيا بعين واحدة. تسمرنا ... كادت بطوننا تنفلق ... تراجعنا، صعدنا الأدراج بسرعة ضوء، كأننا على البساط فعلا. ظللنا لأيام نتداول الذي كان... ما حدث للقاص الوقور سيد الحلقة. هل يقتل فينا نضج الرواية ؟ أنلح بعد على الاستزادة ؟.

لم نعد نطلب منه قصصا عن سير الأنبياء و الصالحين وعظماء التاريخ، ومع ذلك بقي البحث عن حلقته لعبة مغرية؛ تسقي بذرة اشتهاء القص في مخيالنا. تملكنا شتات ذاك المشهد ونحن متحلقون به مرة، وهو يروي ما كان لشهرزاد مع شهريار في الليلة ما قبل الألف. تهنا في تجاويف صوته، وقد علته نبرة رخيمة باذخة، وأصبعه يشير إلى سيدة في كامل البهاء؛ نراها في كفه مفتوحا تظهر وتخفي بابتسامة وردية لم تكتمل بعد. التقطت آذاننا الصغيرة شعارات أجهضت الحكاية، تتقاطع صاخبة مع صوته، تنبعث من موقع مجاور. سطونا على واحد منها، أقلها طولا، وأنغمها جرسا.. ) ... اليوم أو غدا، التغيير لابد ... (. اجتررناه جميعا صارخين بأعلى ما في حبالنا من قوة ناشئة، رددناه حتى بحت أصواتنا، وأقلقنا شهرزاد في عيونه، فصمتت، وغضب وانسحب وحقيبته على كتفه، ونحن وراءه في صف طويل نحاول إطراءه، ليعود ويستكمل الرواية: )السي سلام السي سلام زد زد في الأحلام... (. لكن لم يعبأ بنا، ودلف عبر البوابة، واختفى عن أنظارنا في جنبات الأدراج، حيث عرشت نباتات برية.

غاب عدة أسابيع، وتخلف عن مواعد الحلقة بالساحة. بلا يأس ظل كل الرفاق يتوافدون على باب الجمعة، يتنقلون بين حلقات يتوسطها رواة آخرون، ويبحثون عن نبض القص الأصيل دون جدوى.

في صبيحة باردة انتهت القصة ... استنفرنا شفيق وتبعناه ... لم نتوقف إلا عند شجر الأوكاليبتوس المنتشر على طول الدرج، حيث كانت الرأس معلقة بوجه شاحب، وعينين شاخصتين، ولسان متحجر بين الفكين . أمارة التقى اعتصرت سوداء تعتلي حاجبيه، وجثته مدلاة قد قوست علو الأغصان، لتترك رجلين متخشبتين تلامسان الحشائش القصبية، وهي تتمايل تحت نواح رياح الشرقي؛ الذي يعصف بدون رحمة كما في الصباحات الخريفية الباردة ... هل يشهد السور الأثري الممتد حصنا خلف البوابة على كل ما كان ...؟ من ؟ متى ؟ لماذا ؟. استفهامات سكنتنا، لكن القص كان قد انحبس في حنجرة ( السي ) سلام إلى الأبد؛ ليستمر لغزا يقطن في كل المرابطين بحلقته.

تطيرنا من باب الجمعة، وتناسينا الحلقة. وبقي شبح الرواة يطاردنا، ويؤجج نار الحكي فينا إذا ما عبرنا الساحة إلى سينما الأطلس العتيقة؛ علنا نستبدل فتنة القص بفيلم يعرض الوجه الصبوح ل (هماملني) على الشاشة، ترقص وتشدو عصفورة طليقة وسط المروج الخضراء، فتلفع عواطفنا الخام حرارة، وتفعهما نشوة. وحده هذا النوع دون سواه كان يقدر على تحريرنا من شبح (السي) سلام، من حصون حكاياته العجيبة، من جثته المعلقة ... ومن قصه المشنوق... لكن أي تحرير حصل ؟ ! ... زمن الحلقة صار يأسر الروح بعذوبة أطيافه، ورهبة تفاصيله، وخبايا قصصه؛ كلما تسنى عبور الأدراج للهابط إلى المدينة السفلى، أو الصاعد إلى العليا. والروائح النتنة نفسها تغمر الساحة، وتختلط بعبير نباتات برية، تكاثفت تغزو العين؛ إذ تخترق البوابة المظللة بعتمتها الأبدية.

* النص منشور ضمن المجموعة القصصية ( قطار المدينة ) الصادرة للقاص محمد الفشتالي عن منشورات وزارة الثقافة المغربية سنة 2005.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.