قد يبدو هذا العنوان غريبا بعض الشيء، إذ كيف يمكن أن تكون الراحة متعبة، وهل الاسترخاء "أتعب" من العمل ؟ والركض "أتعب" من النوم، وحمل الأثقال أكثر إرهاقا للجسم من الجلوس على مقعد وثير، والسير على الأقدام أكثر راحة من ركوب السيارة والطيارة ؟؟ وهل راحة الفكر مثلا تتعب الرأس والعقل والجسم أكثر من حل المسائل الحسابية الشائكة، وأكثر من التفكير في العلم والاختراع وأكثر من "شغل الدماغ" بأمور البيت والغلاء و "الخناقات" بين الكنة والحماة ؟ الواقع أن هذا صحيح إلى حد كبير… فالراحة والكسل والاسترخاء تولد السأم والضجر، بينما العمل إذا أعقبته الراحة استراح الجسم بعد تعب، واستراح الفكر والضمير إذ يعرف المرء انه قد أدى واجبه كاملا. والواقع أننا نسير نحو الراحة الجسدية كلما أمعنت البشرية في المدنية والتقدم… كان أجدادنا يقطعون المسافات الطويلة سيرا على الأقدام، ويعملون طوال النهار أعمالا شاقة، فطالت أعمارهم، وانتصبت قاماتهم، واختفت "الأملاح" و "الكولسترول" من أجسامهم… أما نحن اليوم وبعد تقدم المدنية صار الواحد منا لا يتحرك بضعة أمتار إلا في السيارة.. فاكتنزت أجسامنا باللحم والشحم.. وتدلت "كروشنا".. وكثرت الأمراض في أجسامنا !! إلى هنا والتعب الذي أقصد هو تعب الجسم، وهذا النوع من التعب راحته "متعبة"… ولكنه أخف أنواع التعب ضررا… ذلك أن تعب التفكير.. وتعب الضمير مثلا هما الأصعب والأشد ألما.. والراحة الحقيقية يشعر بها الإنسان عندما يؤدي واجبه نحو ربه ونحو نفسه ونحو الناس. أنا أفضل أن يؤلمني كتفي أو بطني على أن يوخزني ضميري… أفضل أن تجرح يدي على أن تجرح كرامتي.. فجرح اليد يلتئم.. أما جرح الكرامة فيعجز عن شفائه أنجع دواء. بعض الناس "يتعبون" من التفكير في تدبير المقالب… وفي كيفية استغلال الغير وهضم حقوقهم… وبعض الناس يفكرون في المشاريع الخيالية… فيستريحون وقتا قصيرا ثم يفيقون على الواقع الأليم.. وبعض الناس ما ان يحين موعد تقاعدهم عن العمل وقد أسسوا بيتا وأنشأوا عائلة وحان وقت الراحة عندهم… حتى تأتيهم "الراحة الكبرى"… وهكذا الحياة.. ولعل أبشع أنواع "المستريحين" هم طائفة "المعڭازين".. وهؤلاء لهم فلسفة خاصة في الحياة… لخصها لي أحدهم عندما كنت أحثه على عمل نافع يقوم به في هذه الدنيا.. وإذ قلت له: اعمل يا صديقي.. فهل سمعت أن إنسانا مات من العمل ؟ أجابني بابتسامة ساخرة: وأنت هل سمعت أن أحدا مات من الراحة ؟؟ ومع أن قول صديقي الكسول هذا يعتبر نكتة فهو غير صحيح.. ذلك أن الكثيرين يموتون من الراحة ومن قلة العمل… يندر أن تجد شخصا من المرفهين الذين لا همَّ لهم في الحياة سوى المتعة والطعام الدسم، وقد بلغ سن الشيخوخة إلا والأمراض ترعى في جسده… بينما يبلغ الفلاح أو العامل أو حتى الفقير المعدم مثلا أرذل العمر وهو ما زال ينعم بصحة من فولاذ. ذلك أن العمل في الحقل أو في الحديقة أو المصنع أكثر فائدة للجسم من الاستلقاء على أريكة مريحة، والنوم على خشبة- لا سمح الله – خير من النوم فوق فراش وثير… وحياة التقشف أفضل من حياة الترفه.. والطعام البسيط المتواضع خير من المآدب الدسمة !! وبعض الناس ليس عندهم ما يشغلهم.. فيشغلون أنفسهم بالتحدث عن مثالب غيرهم ونقائصهم… ويشغلون أنفسهم بالكذب والحقد والنميمة.. وهذا العمل إن كان يسليهم فهو يضر بأخلاقهم وطباعهم ويتعب عقولهم ونفوسهم وضمائرهم.. كلما أغادر بيتي صباحا ماشيا ألتقي أحد أصدقائي وهو طبيب متوجها إلى عيادته سيرا على الأقدام… فيشجعني على المشي لأن الطب يقول ان المشي من أفضل أنواع الرياضة.. وأكثرها منفعة للجسم.. فالمشي كالعمل في الحديقة…كالسباحة.. وغيرها من أنواع الرياضة نافع أكثر من حياة الراحة والخمول والكسل… وللعمل فوائد جمة أخرى منها أنه يجعلك لا تشعر بملل الوقت.. فالوقت يبدو طويلا لا ينتهي في ساعات الفراغ.. وقصيرا في أثناء العمل.. كما أن الكسل إذا ما تملك المرء أصبح كالمرض الذي يصعب شفاؤه. لقد تعودت أن أتمدد في سريري بعد الغداء بعض الوقت.. وقد تملكتني هذه العادة وامتدت نصف ساعة الراحة إلى ساعة… فساعتين… حتى وصلت إلى يوم صرت فيه إذا استلقيت على سريري يصعب علي أن أنهض عن طيب خاطر… والإنسان عندما يتمدد على فراشه، إن لم يكن خالي البال إلى درجة عدم الإحساس، تنتابه الأفكار، وتمر أمام مخيلته الصور ويشغل باله وعقله في شتى أمور الدنيا.. وهذه الصور كثيرا ما تتخللها الأفكار السوداء. وبعض الناس ما ان يأويه الفراش حتى يغفو في أقل من طرفة عين ويأخذ في الشخير والنخير.. بل إن من الناس من يغمض عينه قبل أن يصل رأسه إلى المخدة.. فينام مطمئنا خالي البال.. لكن هنالك أكثرية من البشر يتركون همومهم وتخيلاتهم وحل مسائلهم الشائكة إلى ساعة النوم.. وبالتالي إلى ساعة الراحة.. فتأتي هذه الراحة متعبة ويتحول النوم الهنيء إلى أرق وعذاب.. حبذا لو تركنا تفكير أمور النهار إلى النهار نفسه… وإلى حين اليقظة لا النوم.. والعمل لا الراحة.. حبذا لو عرف كل منا كيف يفيد من وقت الراحة… من العطل الأسبوعية والسنوية… مثلا، فالعطلة ليس معناها النوم و"الخمول" فقط.. العطلة ليس معناها أن نسهر حتى الصباح ثم نقضي ثلاثة أرباع اليوم التالي في الفراش. العطلة معناها الراحة.. راحة الفكر.. والجسم معا.. وذلك بالرحلات والهواء الطلق والرياضة البدنية النافعة. أما فيما عدا هذا من أنواع الراحة فهو يقرب الإنسان بسرعة إلى "الراحة الكبرى". أخيرا أرجو ألا يكون مقالي متعبا.. لئلا أتعب معه القارئ وضميري… والله الموفق 03/07/2010