محلل سياسي وخبير إستراتيجي تعد الجولة الملكية المفاجئة نحو الإمارات ثم مصر قبل التوجه إلى فرنسا مؤشر سياسي بالغ الدلالة، ليس فقط بسبب توقيتها المتزامن مع مستجدات إقليمية متسارعة، ولكن أيضا لكونها جاءت خارج أي إعلان رسمي، و في غمرة إحتفالات وطنية كبيرة بعد خطاب الوحدة ل 31أكتوبر 2025، والتي ثم تنظيمها في الأقاليم الجنوبية وباقي مدن المملكة . هذه المعطيات تكشف أن الأمر يتجاوز زيارة ثنائية عادية إلى خطوة ضمن مسار واسع يعاد فيه رسم خطوط النفوذ والتوازنات داخل العالم العربي وشمال إفريقيا. فإستقبال الرئيس المصري لرئيس الحكومة الجزائرية، وما رافقه من تحركات دبلوماسية موازية، أثار تساؤلات حول ما إذا كانت الزيارة تحمل طابع وساطة بين المغرب والجزائر أو محاولة لرأب الصدع بين الإمارات والسعودية على خلفية الملف السوداني. غير أن منطق الوساطة يقتضي أن ينتقل الوسيط إلى الأطراف المتنازعة لا العكس، كما أن مشاركة الشيخ محمد بن زايد في جزء من الجولة الملكية ثم إنتقاله إلى القاهرة يسقط فرضية الوساطة الثنائية التقليدية، ويعزز فكرة وجود ترتيب ثلاثي أو رباعي عنوانه الأساسي إعادة تشكيل بنية القوة الإقليمية العربية. لقد بات واضحا اليوم، أن الدول الأكثر تأثيرا بعد تراجع الدور الإيراني والقطري هي المغرب ومصر في إفريقيا، والسعودية والإمارات في الشرق الأوسط. وهذا المحور الرباعي يمتلك شروط التأثير الإستراتيجي والقدرة على صناعة التوازن داخل مسارات الحل في المنطقة، خصوصا في ظل حاجة واشنطن إلى كتلة عربية قادرة على دعم خطة سلام جديدة تلي حرب غزة، تكون أكثر واقعية وقابلية للتطبيق. فبدون مجموعة عربية تمتلك الشرعية السياسية والقدرة الأمنية، لن يقبل المتطرفون داخل إسرائيل بأي تسوية، ولن يجد الفلسطينيون من يؤمن لهم ضمانات الحد الأدنى من الحماية داخل ترتيبات ما بعد الحرب. كما أن إسرائيل، في ظل توسع اتفاقات أبراهام، لم تعد في موقع يسمح لها برفض وساطة دول تتمتع بعلاقات مباشرة معها أو مؤهلة للانضمام إلى المسار لاحقا، وفي مقدمتها السعودية التي يمكن أن تجد في خطة السلام الجديدة مدخلا للانخراط ضمن رؤية إقليمية أوسع. وفي ظل هذا الفرز الجديد لمراكز الثقل، يصبح حضور المغرب جد محوري إذ يتوقع أن يشكل القاطرة في غرب إفريقيا بغطاء عربي واسع، فيما تتولى مصر قيادة شرق القارة، وتتحمل السعودية والإمارات عبئ إعادة ترتيب المشهد الشرق الأوسطي. هذه الهندسة الجديدة تمنح المغرب دور مضاعف في ملفات حساسة، من بينها قضية الصحراء المغربية، خاصة بعد القرار 2797 الذي عزز موقع المغرب دوليا وأضعف الموقف الجزائري الذي يشهد شارعه مؤشرات توتر إقتصادي وإجتماعي حاد. فالتراجع الخطير في قيمة الدينار، وتهالك الإحتياطي من العملة الصعبة، وتصاعد الغضب الشعبي، وإقتراب أجل الضغوط الأمريكية بشأن نشاط البوليساريو التي قد تصنف ضمن التنظيمات الإرهابية، كلها عوامل تجعل النظام الجزائري في وضع هش داخليا وخارجيا، وتدفعه نحو مزيد من الإنكماش السياسي والدبلوماسي. غير أنه ورغم هذا الضعف في السياسة الخارحية الجزائرية، فإن دخول مقاتلات "سوخوي سو-57 إي" الروسية إلى الترسانة الجزائرية قد يمنحها هامش تقني يخل بالتوازن العسكري الإقليمي، مما قد يكون عاملا آخر في التحركات المغربية الهادفة إلى تسريع حصول القوات المسلحة الملكية على طائرات F-35، خصوصا عبر تحالفات عربية قادرة على التأثير في صانعي القرار الأمريكي. ومن هذا المنظور، تبدو الجولة الملكية عمل استراتيجي يروم ضبط الإيقاع الإقليمي قبل الدخول في مرحلة سياسية جديدة قد تشهد تغيرات جذرية في التوازنات العربية، وتحديد مناطق النفوذ، وإعادة ترتيب موقع إسرائيل والفلسطينيين في معادلة السلام. ختاما، إن جمع هذه الخيوط واعادة ترتيبها ، يوحي بأن الأيام المقبلة قد تحمل أحداث بارزة، ليس بوصفها مجرد تحركات دبلوماسية، بل كجزء من هندسة جيوسياسية جديدة تتجاوز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتشمل إفريقيا جنوب الصحراء في إطار رؤية دولية أوسع. وفي هذا المشهد المعقد، تبدو المملكة المغربية ماضية نحو تعزيز موقعها الإستراتيجي، مستفيدة من شبكة تحالفات قوية، ومن لحظة تاريخية يعاد فيها تشكيل الخريطة العربية بما يخدم مصالحها الوطنية العليا.