يعيش حياة الرتابة بأقصى مرارتها ،في البيت الذي مل طقوسه الصباحية و المسائية ، نوم عميق و استيقاظ متأخر و اضطراب في أوقات الوجبات ، و صمت المكان القاتل إلا من كلمات متقطعة يبادلها مع الزوجة الموظفة . تقضي ثلثي اليوم في مقر عملها لتعود بعد الرابعة مساءا بجسم متهالك من الإعياء و فكر ملبد بأحداث يومها ، تسردها عليه في غضب و حنق ، فيتظاهر بالإصغاء في فتور جلي ، تدركه بنباهتها فتمسك . و تسأله أين قضى يومه فيرد ردا ألفته "هنا و هناك ، لا جديد" . طار الأولاد من البيت الذي آواهم سنين ، مخلفين الفراغ و السكون و صورا معلقة على جدرانه ، يظهرون فيها صغارا تنضح من وجوههم البسمة الملائكية ، في أوضاع و أمكنة شتى، حاملا لهم على أكتافه ، فوق ركبتيه ، في البادية .. تشده الصور لحظات ، فيتخيلهم حوله ضاحكين صارخين نزقين ، يدخلون و يخرجون في جلبة محبوبة لم يكن ليضيق بها أبدا. كان يدخل حجرتهم ، التي بقيت كما كانت على عهدهم في الزمن السعيد ، يجلس بينهم يقص عليهم قصصا واقعية أو من نسج خياله حتى يداعب الكرى أجفانهم فينامون ،يطفئ الأنوار ليتفرغ بعد ذلك لنفسه و قرينته أو ينجز ما تبقى من عمله اليومي ، كان حريصا ألا يبقيه إلى الغد ، لينام بعد ذلك نوما عميقا. شب الصغار و تفوقوا في الدراسة كما كان يأمل ، ثم سافروا لينقطعوا عن البيت بغرابة لم يجد لها تفسيرا، تذرعوا بمعاذير واهية ، لم تكن مقنعة في معظمها ، تباعدت زياراتهم و قلت رسائلهم و هداياهم ، وقبع هاتف المنزل ساكنا لا يرن هو الآخر . تساءل كثيرا " لماذا هذا الهجر ؟ لماذا تحول كل شيء إلى نقيض؟ أهي عدوى الفردانية استشرت في هذه الأسرة ؟ " حاول ألا يكترث ، فعجز . حلم بهم أياما متتالية ، و قص أحلامه على زوجته فلم تهتم ، باردة كالثلج ، فزادت من لوعته ،و أيقظت روح التمرد في نفسه زادتها رتابة التقاعد لوعة و جنونا . خرج هذا اليوم يريد شلة المقهى ، ربما وجد العزاء بالفضفضة بما يخالجه من كدر ، لكنهم انفظفوا، سأل عنهم النادل ، فأجابه بفتور. أحس العدم يدب في أوصاله بلا رحمة .. زار الحكيم ن لإيمانه الشديد بالطب و العلم و استصغاره لغيرهما . نصحه بقبول واقعه الجديد ، و تكسيره بالسفر بعيدا ، و الانخراط في العمل الجمعوي و استثمار خبراته في ذلك ، و الكتابة . " الكتابة ؟" من أين له بأدواتها ؟ فهو ذو تكوين إداري محض ، لغته جافة صارمة كلها أوامر فجة ، خالية من كل كياسة و أدب . و رغم ذلك راقته الفكرة ، و راح يتجول بين المكتبات و يقتني الكتب التي سمع عنها عرضا أو قرأ عن مؤلفيها ، أنفق في شرائها المال بسخاء ، و من كثرة تردده على الكتبيين ألفوه و تمتنت أواصر صدقاتهم بسرعة أدهشته . شجعوه. على القراءة ثم الكتابة ، سألهم ماذا أكتابة ؟ قالوا " سيرتك ".