ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الجيش المغربي يستفيد من التجارب الدولية في تكوين الجيل العسكري الجديد    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التعريف بمشروع رائد الانقلاب الفلسفي العربي 1-2
نشر في العلم يوم 22 - 12 - 2009

ترحال مُمتع ذلك الذي أتحفنا به الباحث المغربي إبراهيم مشروح، على هامش عرض أهم معالم مشروع طه عبد الرحمن، كما جاء في كتاب حديث الإصدار، ويحمل عنوان: «طه عبد الرحمن.. قراءة في مشروعه الفكري». (صدر العمل عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي. بيروت. 2009.)
وجاء الكتاب موزعا على فصول، تضمن الأول نهج سيرة ومسار طه عبد الرحمن، قبل طرق الحفر البحثي، والموجز في أهم محطات مشروع هذا الفيلسوف المجدد، من خلال أربع فصول، وهي «المنعطف اللغوي المنطقي وسؤال الفكر»، «الحقيقة والمنهج في تقويم التراث»، «فقه الفلسفة وسؤال الإبداع»، وأخيرا، «سؤال الحق ومشروعية الاختلاف».
منتصر حمادة
التوفيق بين الحداثة والأصالة
أبدع طه عبد الرحمن في تفكيك جانب كبير من الإشكالية التي أدمنها الفكر الإسلامي المعاصر، ونقصد بها السعي المؤرق إلى تحقيق توفيق بين المعاصرة أو الحداثة والأصالة أو الإسلام، فهو يتوجه بالنقد إلى التصور التقليدي مثلما يتوجه إلى التصور الحداثي، وتكمن دعوى تأسيس الحداثة الإسلامية في الرهان على روح الحداثة كمطلب يمكن أن يتواءم مع التطبيق الإسلامي باعتباره مجاوزة ممكنة لأعطاب واقع الحداثة الغربية، حيث يدمغ طه في عمله «روح الحداثة» مثلا، المسلمة القاضية بتسييد الإنسان على الطبيعة بالبديل الحداثي الإسلامي الذي يبنيه على مصادرة ما أُطلق عليه «الميثاق العظيم»، قائلا في هذا الصدد: «إذا كان لا بد من ميثاق حقيقي أو اعتباري يعقده الإنسان مع غيره، فلا يمكن أن يكون ميثاقا منحصرا في العالم المرئي كما ذهب إلى ذلك أهل التطبيق الغربي للحداثة، بل ينبغي أن يكون ميثاقا يشمل العوالم كلها، المرئي منها وغير المرئي، وذلك لن الفرد لا يتعامل مع غيره إلا ووسائط تعامله ومتعلقاته تشكل عناصر مأخوذة من عوالم مختلفة.. فيلزم أن تكون هذه العناصر أطرافا سوية في هذا الميثاق العظيم، وهكذا فالتعقيل الإسلامي هو تعقيل يأخذ بهذا الميثاق الكوني الشامل».
يوجز الباحث أهم الدعاوى الرئيسية في المشروع الفكري لطه عبد الرحمن، في مجالين اثنين:
فقه الفلسفة الذي طلب فيه تحرير القول الفلسفي من التبعية والتقليد وذلك من أجل تحقيق الإبداع الفلسفي المنشود بإنتاج فلسفة عربية أصيلة.
تأسيس الحداثة الإسلامية، بناء على النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، وذلك من خلال تقديم الجواب الإسلامي على إشكالات العصر
الدعاوى السبع للمشروع الطاهائي
يحيلنا التفصيل في ثنايا هذا المشروع، على سبع دعاوى، وهي التي ارتحل معها الباحث في هذا العمل التعريفي القيّم باجتهادات أحد أبرز أعلام الفكر العربي الإسلامي الراهن، ونوجز بدورنا هذه الدعاوى كما يلي:
1 دعوى المنعطف اللغوي المنطقي، حيث اعتبر طه عبد الرحمن أن المهمة الأساسية الأولى للمفكر العربي مهمة لغوية، لذلك حشد ما أمكنه من عُدة منطقية ولغوية تزوَّد فيها بأحدث ما جدَّ في الدرس المنطقي المعاصر، وما اسُتحدث من نظريات جديدة في اللسانيات، فكانت المسألة اللغوية منطلق تفكيره ومبتدأ مشروعه.
2 دعوى التكوثر العقلي، وهي دعوى بلورها طه عبد الرحمن في كتابه «اللسان والميزان»،، وبيَّن فيها اشتغال العقل في مضامير منطقية ولسانية ورياضية وبلاغية وأصولية وفلسفية في آن، ومفاد هذه الدعوى تأكيد حقيقة العقل الكامنة في كونه نشاطا وفاعلية وليس البتة ذاتا أو جوهرا قائما في النفس حسب زعم الأقدمين.
3 دعوى تجديد المنهج في فهم التراث، حيث اعتبر طه أن منظوره الجديد لفهم التراث يشكل منقلبا جديدا قام به على وجهة نظر تكاملية وانطوى على محددات ثلاثة أحصاها كالآتي:
المحدد التداولي، وقد عدّه مظهرا من مظاهر الإنتاجية في التراث المفيدة أو لغة أو معرفة، وهذا المحدد يتجسد في قيود المجال التداولي.
المحدد التداخلي، ومقتضاه اشتراك المعارف في التراث في مسائل إنتاج مضامينها بل ونقلها ونقدها.
المحدد التقريبي، وهو نابع من المحدد الأول، ومقتضاه أن يخضع كل منقول لتحويل يُجرى عليه بمقتضى المحدد التداولي.
4- دعوى تخلف الإبداع عن الإنتاج الفلسفي العربي، وتنطلق من توصيف الاشتغال الفلسفي العربي بأنه اشتغال مقلد لا تجديد معه وتابع لا إبداع فيه، إذ لم يدخل الفيلسوف العربي عهد الإبداع والحداثة الفلسفية، فقصارى ما وصل إليه هو محاكاة المتفلسف الغربي، يجتر المفاهيم التي أبدعها هذا الأخير، ويتبنى مذهبه أو فلسفته أو رؤيته النظرية قاصرا عن أن يطاوله أو يجاريه أو يكون ندا له.
5 دعوى النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، حيث لا يجد طه عبد الرحمن أي حرج في أن يعتبر النقد الأخلاقي أساسا يستند عليه لنقد الحداثة الغربية، ويتوجه بهذا النقد على الخصوص إلى ممارستها القولية والعقلية والمعرفية، تأسيسا على أصول سطّرها هذا الفيلسوف في كتابه «روح الحداثة»، نوجزها في نقاط ثلاث: إن الأخلاق صفة ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة، إن ماهية الإنسان تحددها الأخلاق وليس العقل، إن الأخلاق مستمدة من الدين.
6 دعوى وجوب تأسيس الحداثة الإسلامية، وتتأسس على دعوى شهيرة عند طه عبد الرحمن مفادها أنه: «كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية»، وتتفرع هذه الدعوى على منحين: منحة فلسفي، ويقضي بمجاوزة النظير الفلسفي لمبادئ الحداثة الغربية، ومنحى إسلامي، ويقضي بضرورة الوفاء لمبادئ إسلامية أوسع وأشمل تتحقق بها الحداثة الإسلامية.
7- دعوى الحق في الاختلاف أو سؤال المشروعية، وهي الدعوى التي اعتبرها المؤلف «عمدة الفكر الطاهائي وذرة سنام عطائه»، من منطلق أنها ترتبط بسؤال المشروعية، أي سؤال الحق في الاختلاف، وتنقسم دعوى المشروعية إلى مشروعيتين كرس لهما طه عبد الرحمن عملين من أعماله، وهما تحديدا «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي» و»الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري». وواضح أن غاية ما تصبو إليه دعوى المشروعية هو تحقيق الحرية الفكرية للأمة العربية بتحرير القول الفسلفي من التبعية للفلسفة الغربية، بحيث يقتدر المتفلسف العربي على إنشاء فلسفته وابتكار مفاهيمه، وإيجاد الجواب الإسلامي للأمة الإسلامية، وهذا عين ما اطلع عليه المتتبع على الخصوص في عمله «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري»، والذي تميّز مثلا، ب»اشتباك معرفي طاهائي» مع بيان المثقفين الأمريكيين الشهير الصادر عقب اعتداءات نيويورك وواشنطن.
+++ العقلانية والحوارية والأخلاقية
لو شئنا مع المؤلف أن نختزل المشروع الفكري لطه عبد الرحمن لرددناه إلى عناصر ثلاثة ألا وهي: «العقلانية»، و»الحوارية» و»الأخلاقية»، وهي بالمناسبة، شعار مؤسسة «منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين» الذي يرأسه طه عبد الرحمن، والذي نظم العديد من الندوات والمحاضرات التي تساهم في «الرضوخ» لمقتضيات الحديث عن «العقلانية»، و»الحوارية» و»الأخلاقية».
فمن جهة، استوفى المشروع الطاهائي «العقلانية» من جهة دفاعه المستميت عن توسيع العقل وعدم تضييع آفاقه، كما دعا إلى ربطه بالجانب العملي وتقييده بالغايات والمقاصد السامية، وهذا من شانه أن يحد من تجريد العقل ويحول دون تعريته من القيم بحيث يصير قاعا صفصفا، فيكون لتسيبه الأثر الوخيم على النظر والعمل.
وأما عن مكانة «الحوارية» في المشروع الفكري الطاهائي فنلفيها في الطابع المناظر نسبة للمناظرة الذي يطغى على كتابات طه عبد الرحمن، فهو لا يكف عن استحضار أو افتراض المخاطب.
وأخيرا، يعتبر مظهر»الأخلاقية» من الظاهر القوية في المشروع الطاهائي حتى أنه يُلقب من قبل بعض البعض بأنه «فيلسوف الأخلاق» فهو ينطلق من تجديد مفهوم الإنسان بإخراجه من التحديد اليوناني الذي اختزل الإنسان في العاقلية: الإنسان حيوان عاقل، إلى التحديد الإسلامي الذي اعتبر الإنسان كائنا أخلاقيا، وهو في هذا يلتقي وفلاسفة غربيين أمثال ليفيناس وبول ريكور وغيرهما.
ومعلوم لمتتبع أعمل طه عبد الرحمن أن ما يطبع فكره بشكل جلّي، ذلك التركيز على الجانب الأخلاقي، بدليل، كما أشرنا سلفا، كونه يتبنى من غير أدنى حرج النقد الأخلاقي ويستمد من طرائق المنطق ومناهجه التدليل الأخلاقي، والإحالة هنا خصوصا على كتابه «سؤال الأخلاق» الذي يعتبره، كما جاء العنوان الفرعي «مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية»، لذا نجد النقد الأخلاقي يطال العقل ويطال الممارسة الفكرية وكافة أشكال النظر لأنه إذا كان التصرف الإنساني يتقوم بالقيمة وبالتالي يخضع للنقد الأخلاقي، فإنه، من باب الأولى، أن ينعت الإنسان بكونه كائنا أخلاقيا.
+++ الانتصار لسؤال المشروعية
هناك مكون آخر من دعامات المشروع الفكري لطه عبد الرحمن يتمثل في كون عقلانيته وحواريته وأخلاقيته تنتظم تحت سؤال المشروعية، فدفاعه المستميت عن الخصوصية الفكرية سواء في كتابه «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي»، أو في كتابه «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري» دفعا به إلى تبرير مشروعية الاختلاف وطرح سؤال المشروعية، وتأسيسا عليه، يرى المؤلف أن طه عبد الرحمن يجيب على سؤال المشروعية: مشروعية الاختلاف الفلسفي كما جسدها «فقه الفلسفة» الذي يدعو إلى إبداع فلسفي/عربي متميز يبرز خصوصية التفلسف العربي ويثبت الحق العربي في أن ينتج خطابا فلسفيا مخصوصا يبرز فيه إسهامه الفلسفي في الفكر الإنساني، ومشروعية الاختلاف الفكري الإسلامي الذي يطبعه الجواب الإسلامي على أسئلة العصر مما يدفع عن المسلمين النقد الذي يوجه إليهم بكونهم لا يتوفرون على إجابات مقنعة عن قضايا تطرح على الفكر الإنساني قاطبة.
+++ تقويم القراءات التراثية
لما كان أحد أبرز الأعمال التي عرّفت طه عبد الرحمن للمتلقي العربي، كتاب «تجديد المنهج في تقويم التراث»، حيث جزم مؤلفه حينها بأنه اهتم بكلية التراث وجمعية دوائره، وكونه أعاد الاعتبار لجوانب من التراث طالها «التشييع الباطل»، وإحياء النظر وتجديد الاعتبار لجوانب أخرى من التراث طالها «الإهمال الفاحش»، إضافة إلى فتحه باب الإمكانية استئناف «عطاء التراث من انتحال آليات منقولة».
كان مُسلما به إذن، أن يتوقف الباحث عند الخطوط العريضة لهذا العمل المرجعي، حيث توقف طه عند بعض الدعامات الأساسية للنهوض بالتراث ونلخصها مع المؤلف كما يلي:
- دعامة العناية بآليات إنتاج النص التراثي والتوسل بها في فهم مضامين هذا التراث.
- دعامة استخراج آليات إنتاج النص التراثي وتحديث إجرائيتها بشحذ العدة المنهجية التراثية وتأهيلها لمواصلة العطاء واستئناف البناء.
- دعامة نقد وتمحيص، أي تلقيح وتنقيح الآليات المنهجية المقتبسة من التراث الأجنبي التي ينبغي تسليطها على التراث الإسلامي.
- دعامة جعل تنقيح وتلقيح ينصب على الآليات الغربية مثلما ينصب على الآليات الإسلامية.
والنتيجة، أصبح النظر في التراث عند طه أكثر حداثة من غيره وأوثق تاريخية مما عداه، بحكم أنه لم يطلب من الحداثة إلا أدواتها، أي وسائلها الناجعة، كما طلب مواءمة هذه الوسائل لخدمة إشكالاتنا، حتى إنه فتح طريق الإبداع العربي من خلال تجديد إجرائية الآليات المنتجة للنص التراثي، وهكذا تتحقق تاريخية هذا الموقف من التراث من حيث كونه طلب تجديد العطاء والدخول في إبداعية تمسك بالخصوصية لتمد بها التجربة الإنسانية الكونية بناء على استمداد مقومات الحضارة وإمدادها بما يجعلها موصولة بتراثنا الإسلامي العربي.
وواضح أن كتاب «تجديد المنهج في تقويم التراث»، ساهم في دحض تحامل جل الباحثين المعاصرين، في الغالب على كثير من الجوانب المشرقة في تراثنا مغفلين القيمة المنهجية والعدة المفاهيمية التي تحملها، فجازفوا بأحكام قيمة يقيدونها تارة بمنطلقاتهم المنهجية المستمدة من الفكر الغربي دون وعي بأصولها وفائدتها المحدودة، وتارة بقناعاتهم الإيديولوجية أو الفكرانية، كما ترجمها طه عبد الرحمن التي تجعلهم تارة يبحثون عن «نزعات مادية» أو عن «عقلانية محاصرة، ويفوتون بذلك على أنفسهم الإنصات إلى كلمة التراث المنحدرة إلينا من أنفسنا.
+++ رائد الانقلاب الفلسفي العربي
يبقى موضوع مراجعة الفلسفة، كما ارتحل معها طه عبد الرحمن في الجزأين الأزل والثاني من مشروعه «فقه الفلسفة». (خُصّص الأول للفلسفة والترجمة، وخصص الثاني للقول الفلسفي)، ويدل فقه الفلسفة، برأي مُسطره، «المتفلسف على طريق الكشف عن الأسباب التي تثوي وراء التصورات والأحكام الفلسفية، حتى يتبين كيفيات تأثيرها في وضع هذه التصورات وبناء هذه الأحكام، فيقتدر على استثمارها يقابلها من الأسباب في مجاله التداولي، منشئا بذلك تصورات وأحكاما تنافس المنقول، استشكالا واستدلالا، وبهذا ترجع منفعة فقه الفلسفة إلى إخراج المتفلسف عامة، والمتفلسف العربي خاصة، من الجمود على ظاهر المنقول الفلسفي إلى الاجتهاد في وضع ما يقابله إن مثلا أو ضدا».
تأسيسا على هذه الأرضية التنظيرية، اعتبر محرر إبراهيم مشروح أننا إزاء «انقلاب فلسفي»، جاء في صيغة علم اقترحه طه عبد الرحمن ووضع أسسه ومنطلقاته وحدد موضوعه ومنهجه وبين أركانه، ويروم هذا الانقلاب الفلسفي مراجعة مدلول الفلسفة وتجيد صلتها بالترجمة وهي مظاهر تركن إلى تجديد السؤال «ما الفلسفة» بإخراجه من دائرة الفلسفة وإدخاله في دائرة العلم، إذ لا يمكن أن تراجع الفلسفة ما لم تتخذ كموضوع لعلم خارج عنها ومحيط بها بالمعنى الذي تفيده الإحاطة باعتبارها إدراكا للمعلوم من كل جوانبه، وهذا العلم الذي يتولى دراسة الفلسفة كظاهرة ذات خصائص وقوانين ذاتية تخصها في نفسها مثل سائر الظواهر الإنسانية.
+++ مشروع طه ومشروع ياسين!
من باب احترام مقتضيات «كل يؤخذ من كلامه ويُرد»، حري بنا التوقف عند ملاحظة نقدية عابرة جاءت في إحدى هوامش الفصل الخامس من الكتاب («سؤال الحق ومشروعية الاختلاف». ص 235)، عندما اعتبر الباحث أن التفريق الذي سطّره طه عبد الرحمن بين «واقع الحداثة» و»روح الحداثة»، أفرز «خمس نتائج ومسوغات تُشرعن «طلب حداثة إسلامية»، وهي دعوى، برأي الباحث، «تخالف في الظاهر، دعوى أخرى تتعلق بأسلمة الحداثة التي دعا إليها أحد مجايلي طه عبد الرحمن، يتعلق الأمر بعبد السلام ياسين في كتابه «أسلمة الحداثة»، فهمها يلتقيان على المستوى الاستراتيجي، بيد أنهما يختلفان على مستوى تصريف هذه السطرجة».
يصعب في الواقع استيعاب أُسس وصواب الحديث عن التقاء طه عبد الرحمن مع عبد السلام ياسين في «الأفق الاستراتيجي»، والأدهى، أن يصدر هذا الحكم الاختزالي عن قلم يُحسب له التوفيق الجلّي في تلخيص مشروع طه عبد الرحمن للمتلقي، في سابقة عربية/إسلامية، من نوعها، في انتظار مساهمات أخرى قادمة في الطريق.
ما لم يتفطن إليه الباحث في هذه الجزئية بالذات، كون المشروع المعرفي لطه عبد الرحمن، إلى جانب مشاريع موازية لأعلام من طينة علي عزت بيغوفتش وعبد الوهاب المسيري (رحمهما الله)، ليست موجهة فقط لأبناء المجال التداولي الإسلامي/الأوروبي، في حالة بيغوفتش، أو أبناء المجال التداولي الإسلامي/العربي في حالة المسيري، وإنما لأبناء المجال التداولي الإسلامي/الإنساني أو المجال التداولي الإنساني/الإسلامي، حتى لا يؤاخذ علينا احتكار النطق باسم «الحقيقة الدينية» وهذه لطيفة لم يتفطن إليها أغلب قراء هؤلاء الأعلام، فالأحرى ألا نتوقع أن يتفطن لها من ركب موجة «النقد من أجل المخالفة»، أو «النقد المؤدلج».
ومن يتأمل سمات تفكيك المسيري لظاهرة أغاني «الفيديوكليب» مثلا، في مبحثه القيّم الموسوم: «الفيديوكليب والجسد والعولمة»، سيخلُص لا محالة إلى أن هذا التفكيك يفيد حتى المتلقي الياباني والبرازيلي والأوغندي والأسترالي، في معرض فهم الظاهرة وحُسن التعامل معها، وينطبق ذات الأمر على طه عبد الرحمن، في مقاصد كتابه «سؤال الأخلاق»، أو «روح الحداثة»، لولا أن يتم اختزال هذه المقاصد وهذه «الأفكار الطولى»، في خانة مقاصد حركات وأحزاب إسلامية يُؤاخذ عليها «اختزل الإسلام في إيديولوجيات حركية»، أمر لا يليق بأهل النقد والتقويم والتفكيك الذي ينفع الناس.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.