افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 5 يونيو 2025 أوراقُنا النَّقْدية على كثْرتها التي لا تلج للجيوب بسهولة، تغدو حين نحوِّلها للعُملة الصّعْبة قليلة، سواء باليورو أو الدولار، ومع ذلك نتوق للعالمية، هم يزورون بلادنا سائحين إلى مناطق لا تكاد تبِين على الخرائط، ضائعين بين فجاج ومداشر مبثوثة على حوافِّ جبال الأطلس، ونحن إمّا إلى نيويورك أو باريس أو لندن مهووسين بأبراج العالمية، عجباً ألم يفطن البعض أن الكون انكمش من المشارق إلى المغارب، في هاتف موصول بشبكة تكنولوجية منسوجة بدون عناكب، ولا فرق بين وَلْد الدرب وآخر في أقاصي الغرب ! من جهتي المحلِّية، لا أعرف قامة عالمية وُلِدَتْ من دون رحمٍ، أطول من قارورة الكوكاكولا، ومع ذلك لا تُصدرُ حين نمْتخِضها كشكْوة اللبن، إلا رغوةً يذهب زبدها جفاء، يا لُسُخْرية التفكير حين يمضي بالتشريح على صهوة البعير، لا أعرف لماذا يُذكِّرني بمبدعين عربا ملسوعين بنعرة تهافت التهافت، فلا ينون مُهرْولين إلى العالم الغربي، للظفر بدمْغة العالمية، ولو كان ثمنها سلخاً للجلد، أما كان أجدر أن يؤسسوا شيئاً يحيا في ذاكرة الناس، ولكن لا بأس، فالأرض حيث سقطوا بالرؤوس، لا تنسى أبناءها ولو عادوا إلى حضنها بعد عُمْر من النكران، لنْ تخْذل الجثامين أبدا أو تشِحَّ بقبْر ! يبدو أن مفهوم الحداثة وما بعدها، يورطنا دائماً في شرك الحديث عن العالمية التي نتخذها عن دهشة وانبهار زائف، سقفاً معيارياً، لقياس درجة شهرتنا في كل الأجناس الأدبية، والحق يُقال بعد أن كشفت الثورة التكنولوجية عن سوءة الغربال، إن هذه العالمية أو الكرة الأرضية، لم تعُد تستهوي أحداُ بموضتها المُتجاوزة مع الأولين والآخرين، إنما تتسع جغرافيا عقدتها في بعض الأنفس المريضة بالبارانويا فقط، وكلما أوغلت في ممارسة فراسخ هذا الانفصام الفاقد للوعي، تجد رأسها في آخر التفكير، تمحو حمولة الذاكرة لتنتسب إلى الآخر الغريب، ذاك الذي ما أكثر ما يعطينا دروساً في التعصب لثقافته وأصوله ولغاته الأجنبية، أما ما تبقى في عرفه الديكي، فمجرد أقليات عطشى لأبخس اعتراف! إن هذه الأنفس المريضة بلذة العالمية ولو دون باسبور أحمر، لا تعرف من حيث أحقية الإبداع موطناً، بل تملك من الوقاحة لتحقيق الذات وفنائها في الآخر، ما يمحو تاريخها الشخصي والرمزي، من أجل قفزة جغرافية في إناء آسن وراء المحيط، وهي بهذا الصنيع الكيميائي غير الأصيل، إنما تُذوِّب تراثنا الذي هو لوننا وشكلنا ولغتنا، ولا أعرف كيف يستجمع المسخ ملامحه المُمزّقة، كيف نراه ويرانا وقد ضيّع الوجه والمرآة! لِنقل، إن هذه الذاكرة بترسُّباتها الهادرة في الأعماق، هي أنفسنا بهويتها في المطارات حين نريد عبوراً لأي بلد في العالم، يجدر بحبرنا في أي إبداع أدبي أو فني ولو بالبندير، أن يرين بلونه الأثير والمحلي، ليس في شبر ماء، بل في كل البحارات المحيطة من الإنسان إلى الإنسان، لكن هذا لا يمنع أن تقع الطيور على غير ألوانها دون اتِّباع، لتتحقّق كما بالنسبة للتهجين العرقي أو البشري، خلاسية أدبية تُكرس اختلافية الإبداع! المحتوم إذاً، أن الشعراء والمسرحيين والروائيين والتشكيليين، ليسوا زجاجات كوكاكولا، ليولدوا ماركات مسجلة عالميا، بل أرواح تستمد أسباب حياتها إلى الأزل، من تربة الولادة التي تُعمِّدها بصفات المثقف والأديب والشاعر والفنان بعد صفة الآدمي، ولا أعجب إلا ممن تحولت أقلامهم الإبداعية في آخر العمر، إلى عكاكيز مشلولة من فرط الجري الكسيح وراء فكرة العالمية، متناسين أن أول ما ينبت في الشجرة على الأرض الأم، هي الجذور، وأنه ليس ثمة من نبات يبدأ الحياة من السماء، إلا إذا كان طفيليا وبه مسٌّ من الأغصان، أما أنا فلا أملك إلا أن أتلو على نفسي رقية شعرية، كي لا تُصيبني من العُقد النفّاثة بكل طائراتها المُحلقة بالعقول، عقدة الجغرافية، وهي أنكى وأذل حين يُوسوِسُها الإنسان !