يقدّم الفيلسوف الأمريكي روبرت براندوم في مشروعه الفلسفي المعاصر تصورًا دقيقًا لكيفية تأسيس الأوضاع المعيارية في المجتمعات، أي المراتب التي يحتلها الأفراد، انطلاقًا من نظرية المواقف المعيارية، أي تصرفات الأفراد فيما بينهم التي ترتكز على مفاهيم الاعتراف، والمساءلة، والتبرير. وتقوم هذه النظرية على أساس أن الأفراد أنفسهم هم من يؤسسون هذه الأوضاع أي المراتب الاجتماعية ، من خلال أفعالهم ومواقفهم المتبادلة، لا عبر معايير مفروضة سلفًا. وهذا يعني أن الوضعيات الاجتماعية ليست جاهزة مسبقًا، بل تتشكل داخل شبكة العلاقات التفاعلية، حيث يُعطي كل فاعل للآخر مكانته انطلاقًا مما يعترف به أو يرفضه. وهذا التصور هو امتداد معاصر ودقيق للفكرة الهيغلية عن جدل العبد والسيد، حيث لا تتأسس الهوية إلا من خلال الصراع من أجل الاعتراف. هذا المشروع، الذي وُضع له الأساس المفهومي في أعماله السابقة مثل Making It Explicit وArticulating Reasons، وجد امتداده العميق في قراءته الفلسفية لكتاب هيغل فينومينولوجيا الروح، الذي قمت بترجمته إلى العربية ضمن ترجمتي الكاملة لكتاب روح الثقة، والذي سيصدر عن دار نادي الكتاب السعودي إن شاء الله، مع كل من ترجمة كتاب توضيح الأسباب، وكذلك كتابي الموسوم آفاق ما بعد التحليلية في فلسفة روبيرت براندوم. من خلال هذه القراءة الهيغلية، يعيد براندوم بناء فهم جديد لكيفية تشكّل الذات الاجتماعية، وكذا كيفية ترسّخ المراتب والتراتبيات داخل المجتمع، ليس بوصفها معطًى طبيعيًّا أو بيولوجيًّا، بل بوصفها بناءً معياريًّا يتأسس عبر شبكة من مواقف الاعتراف التي تتفاعل فيما بينها. فالناس لا يحتلون المراتب الاجتماعية لأنهم وُلدوا لها، بل لأنهم ينتجونها بأنفسهم من خلال أنماط تعاملهم المتبادل، ومن خلال توزيعهم الضمني للاعتراف والتبرير والمساءلة. وهنا، تصبح التراتبيات الاجتماعية – مثل مراتب السيادة والخضوع، أو التفوق والدونية – ناتجة عن أشكال التوزيع غير المتكافئ للاعتراف، والذي يؤسس في نهاية المطاف لذوات معيارية "معيبة"، كما يسميها براندوم.