الحزب الإشتراكي العمالي يتعافى رغم تقدم كبير للحزب القومي "فوكس" على حساب الحزب الشعبي المعارض ينطلق موسم السياسة في إسبانيا بنتائج مثيرة أفرزتها استطلاعات رأي أشرفت عليها منابر إعلامية ومراكز الدراسات مختلفة لتحليل ما يقع في المشهد الحزبي العام ،بعد صيف تميز بالحرائق الخطيرة في عدة مناطق من البلاد، ومواجهات عنصرية تنم عن كراهية الأجانب في بعض الجهات ،بلدة "توري باتشيكو" على سبيل المثال ، والجدل الناتج عن السير الذاتية المزورة الذي أدى إلى استقالة نويليا نونييث، النائبة عن الحزب الشعبي وواحدة من الوجوه البارزة فيه.
الفصل السياسي يبدأ أيضا بالجديد مع حزب الاشتراكي العمالي الإسباني PSOE ، الذي يحاول التخفيف من تداعيات وأضرار قضية القيادي المتهم بالفساد سانتوس سيردان ،ولديه النية للاستمرار في الحكم حتى 2027 وما بعدها ،واستعادة الثقة التي وضعت فيه القاعدة الناخبة قبل نحو سنتين .
ورغم أن الانتخابات العامة في إسبانيا لن تجري في الأفق القريب ، إلا أن نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت الى غاية السادس من شهر شتنبر الجاري ، من طرف منابر "ذات مصداقية" مثل صحيفة "إل بايس " وإذاعة "كادينا سير" ومركز البحوث الاجتماعية (CIS) ، أظهرت مؤشرات قريبة مما قد يحدث في الأفق السياسي المنظور و نتائج الاقتراع العام المحتملة لو أجري هذا الأسبوع .
فحسب نتائج هذه الاستطلاعات المختلفة ،قد يحرز الحزب الشعبي (PP) المعارض نسبة 30.7٪ من الأصوات المعبر عنها ، يليه حزب الإشتراكي العمالي PSOE بفارق أكثر من ثلاث نقاط (27.2٪) عن الأرقام المنشورة بداية فصل الصيف ،لكن الفارق تقلص مقارنة بباروميتر يوليوز، عندما كان زعيم الحزب المعارض ألبرتو نونييث فيخو يحظى بفارق ست نقاط أمام رئيس الحكومة وزعيم الحزب الحاكم بيدرو سانشيث (33٪ مقابل 27٪).
الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (PSOE) استطاع في فصل الصيف أن يوقف تراجعه من يوليوز الى اليوم و يحقق تعافيا ملحوظا، حيث ارتفعت نية التصويت لصالحه ب5.7 نقطة مقارنة بيوليوز، بعد أن عانى سياسيا واجتماعيا بسبب قضية "سيردان" ، بل واستطاع استعادة بعض المكاسب التي تؤهله لاحتلال الصف الثاني في نتائج الاستطلاعات ،التي لها أهمية خاصة في معرفة تطور الحياة السياسية ،ولا يمكن أن تمر مرور الكرام في القراءات السياسية .
في المقابل ،الحزب الشعبي (PP) ما زال يشهد تراجعا، وهو الذي فقد 2.8 نقطة منذ يوليوز المنصرم الى غاية الأسبوع الجاري، ، وهو أسوأ أداء له منذ بداية الدورة التشريعية الجارية .
بذلك يتقلص الفارق بين الحزب الإشتراكي العمالي PSOE و الحزب الشعبي PP لصالح الحزب الحاكم ، مما يُعد أقل هامش بينهما منذ أبريل من العام السابق.
وتضرر الحزب الشعبي المعارض PP من صعود الحزب القومي المتعصب "فوكس" VOX، الذي رغم تراجعه الطفيف من 18.9٪ إلى 17.3٪ عزز موقعه كقوة ثالثة في المشهد السياسي العام ،ويجني حزب "فوكس" امتيازات سياسية من خطابه المعادي للأجانب ،والذي يلقى الآذان الصاغية وسط شرائح مجتمعية عديدة ، كما يلقى خطابه إقبالا يتطور صداه من سنة لأخرى ولربما من شهر لآخر .
في المركز الرابع يأتي تحالف Sumar، الائتلاف اليساري ، الذي ورغم تقدمه من 6.2٪ إلى 7.9 ٪، إلا أنه لا يقترب حتى من المركز الثالث ما يصعب عليه أمر فرض ذاته ضمن الأحزاب الكبيرة في إسبانيا في الانتخابات القادمة ، كما يجعل من الصعب توافقه مع الحزب الإشتراكي العمالي الحاكم لتشكيل حكومة ائتلافية قادمة ربما لاختلاف الرؤى في كثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحساسة ولحاجة الحزب الحاكم لمساند قوي .
و من جهة أخرى، تراجع بشكل مهول حزب "بوديموس " Podemos الشعبوي من 3.8٪ إلى 3.4٪ ،بعد أن كان يعد سابقا من الأحزاب الواعدة في الساحة السياسية ،بل أكثر من ذلك هناك من اعتبره الحزب الذي سيسطر على المشهد السياسي في العقد الثاني من الألفية الجارية .
بخصوص التصويت حسب الجهات في الأندلس (جنوب )و فالنسيا (غرب)، يقود حزب "فوكس" النتائج بنسبة 21٪ في كلا المنطقتين، مع أن 29٪ من الناخبين غير متأكدين من تصويتهم إذا جرت الانتخابات.
في قشتالة وليون (وسط)، يحتل الPSOE المرتبة الأولى بنسبة 21.5٪، لكن هناك أيضا نسبة 27٪ من الناخبين غير متأكدين من احتمال مشاركتهم في الانتخابات العامة .
في منطقة غاليسيا (شمال غرب)، يتقدم الاشتراكيون ب 22٪، متفوقين على حزب الPP المتأثر بتراجع شعبيته ( 17٪).
ولا بد من الإشارة الى أن الأقاليم الإسبانية المختلفة تكسب فيها الأحزاب القومية والمحلية عامة،خلال كل الإنتخابات ، نتائج مهمة وتسيطر بالتالي على مساحات شاسعة في تعاطف الساكنة المحلية تجبر الأحزاب الكبرى على التنسيق معها لضمان الأغلبية .
وفي سياق تطور المشهد السياسي في إسبانيا ،التي عرفت حكومتها انتقادات داخلية واسعة لعدة أسباب متعلقة بالخيارات الاستراتيجية السياسية والقضايا الاجتماعية وكذا مواجهات خارجية بسبب خلافات "مبدئية " مع قادة الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو) ومع الولاياتالمتحدةالأمريكية بالذات وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط ،طغت على سطح الأحداث والخلاف السياسي والتشريعي العميق قضية تخفيض أسبوع العمل إلى 37.5 ساعة أمام رفض المعارضة بشدة .
ومشروع القانون الخاص بتخفيض أسبوع العمل الذي ترعاه نائبة رئيس الحكومة يولاندا دياث وإن كان يلقى إقبالا من طرف أوساط نقابية واجتماعية مختلفة ،فإنه يلقى رفضا شديدا من طرف المعارضة التي تروج بأن المشروع سيفشل وسيتحوّل إلى مجرد ورقة مبلّلة خاسرة و تتوخى بداية نقاش برلماني عميقا للحيلولة دون خروجه عن سياقه السياسي والاجتماعي العام .
مشروع قانون تخفيض ساعات العمل لا يلقى التوافق من أحزاب عديدة بل هناك من يطالب وزارة العمل بسحبه من المؤسسة التشريعية مع الرفض الواضح للنصّ الذي أقرّه المجلس الوزاري قبل عدة أشهر ،من هؤلاء حزب "جونتس" القومي المحافظ الكاتالوني JuntsxCat ،المعروف أيضا باسم "معا من أجل كتالونيا"والذي يقوده المعارض كارلوس بويغديمونت ،و الحزب الشعبي (PP) و"فوكس"، وهي الأحزاب التي توعدت الحكومة بأن لا يرى المشروع النور، وبالتالي لن تُطبّق مدة العمل الأسبوعية التي ترغب بها الحكومة دون تخفيض الأجور المطلوبة.
وهناك من اعتبر في إسبانيا ، من ضمنهم خواكين بيريث راي، كاتب الدولة في العمل ،أن رفض المشروع هو بمثابة " صفعة ل 12 مليون عامل "، واعتبر هذا الأخير بعد لقاء له مؤخرا مع المتحدثة باسم الحزب القومي "جونتس" في الكونغرس الإسباني ، ميريام نوغيراس، أن المتضرر من رفض المشروع ليس فقط الحكومة المركزية ولا وزارة يولاندا دياث، بل العمال والموظفون الذين يطالبون بتخفيض ساعات العمل ومن حقهم ذلك .
ولا تنوي الحكومة الإسبانية سحب المشروع، وتؤكّد أنّ النقاش في البرلمان سيتوج بالتطبيق في يوم ما إن لم يحدث طارئ في اللحظة الأخيرة، رغم أن الكثير يرى أنه من المتوقع أن تتعرّض الحكومة لهزيمة مدويّة في هذا المشروع الذي اعتُبر من أبرز أولويات يولاندا دياث في هذه التشريعية ،ويسعى الحزب الحاكم كسب دعم الناخبين واستدراجهم للتصويت عليه في الانتخابات القادمة .
لكن بيريث راي يرى أنّ هذا هو الوقت الذي يجب أن تُظهر فيه القوى السياسية موقفها و تقول بوضوح إن كانت إلى جانب غالبية الطبقة العاملة أو إلى جانب بعض النخب والرأسماليين وأرباب العمل المعارضين لشؤون العمال ، ويجب أن يرى مواطنو البلاد ،من وجهة نظر المسؤول الحكومي ، أية مواقف ستتخذها الأطراف السياسية داخل البرلمان .
وإذا سقط مشروع القانون لتخفيض ساعات العمل، سيتوجب على وزارة العمل أن تعيد إطلاق الاجراءات، وتقدّم نصا آخر للمجلس الوزاري وتبدأ من جديد كل الإجراءات البرلمانية "الصعبة" بسبب هشاشة توافق الأغلبية .
لكن من جهة أخرى، تنوي الوزارة الإسبانية أن تُقرّ عبر مرسوم ما يتعلق بساعات العمل ، و النص الذي سيناقش في البرلمان يتضمّن أيضا إعادة صياغة لضبط ساعات العمل، بحيث يكون ذلك "مناسبا للقرن الحادي والعشرين"، وفق زعيمة تحالف Sumar المشارك في الحكومة ، كما ينص على فرض غرامات تصل إلى 10 آلاف يورو على الشركات والمقاولات وكل المؤسسات التي لا تلتزم بتقنين ساعات العمل.
ورغم أن الانتخابات العامة لن تنظم إلا في سنة 2027 ،إذا لم يتقرر إجراء انتخابات سابقة لأوانها لأسباب معينة ، فإن التدافع السياسي يبقى على أشده في إسبانيا بضغط من المجتمع الذي يبقى المتضرر الأول من تداعيات الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الهش وشعور المجتمع السياسي الحاكم بالعزلة .
وبعض النظر عن الظروف السياسية التي يعيش على إيقاعها الحزب الإشتراكي العمالي الحاكم ومن يدعمه في السلطة التنفيذية ومواجهتهم لاتهامات بالفساد ودخول الشرطة على الخط في يونيو الماضي لإجراء بحث معمق حول سانتوس سيردان ، القيادي البارز في الحزب الحاكم وأمين التنظيم به، والذي استقال بعد صدور تقرير للشرطة بشأن مزاعم تلقي رشاوى لتأمر المحكمة العليا وضعه رهن الاعتقال بدون كفالة ،إلا أن الواقع السياسي يثبت قدرة حزب بيدرو سانشيث على تخطي العقبات والمطبات السياسية الكثيرة مع الرغبة في الفوز بالاستحقاقات القادمة وتشكيل أغلبية مريحة .