سعر الدرهم يرتفع أمام الأورو والدولار.. واحتياطيات المغرب تقفز إلى أزيد من 400 مليار درهم    شراكات استراتيجية مغربية صينية لتعزيز التعاون الصناعي والمالي    هدوء حذر عند الحدود الهندية الباكستانية بعد أعنف تصعيد منذ 1999    إسرائيل تستعيد رفات جندي من سوريا    بوتين يستقبل حفتر في الكرملين    بطاقة المونديال والاقتراب من اللقب.. طموحان كبيران لأشبال الأطلس أمام سيراليون في ربع نهائي    وجدة.. حجز 6918 قرصا مهلوسا وتوقيف زوجين للاشتباه في ترويج المخدرات والتزوير    الحرس المدني الإسباني يوقف صيادين مغربيين بتهمة تهريب مهاجرين    انهيار "عمارة فاس".. مطالب برلمانية لوزير الداخلية بإحصائيات وإجراءات عاجلة بشأن المباني الآيلة للسقوط    "سكرات" تتوّج بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب    الصحراء المغربية تلهم مصممي "أسبوع القفطان 2025" في نسخته الفضية    عيد الأضحى.. مجازر الدار البيضاء تكشف برنامجها لاستقبال وذبح الأضاحي    طلبة الإجازة في التربية يصعدون ضد الوزارة ويعلنون إضرابا وطنيا    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    ريمي ريو: الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو بالأقاليم الجنوبية المغربية    "كان" الشباب... المنتخب المغربي يختتم تحضيراته استعدادا لمواجهة سيراليون    موعد الحسم.. هذا توقيت مباراة المغرب وسيراليون في ربع نهائي كأس إفريقيا    شاهد.. سائحات يطلبن من لامين يامال أن يلتقط لهن صورة دون أن يعرفن من يكون    رفع تسعيرة استغلال الملك العام من 280 إلى 2400 درهم للمتر يغضب المقاهي ويدفعها للإضراب    مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    "الاتحاد" يتمسك بتلاوة ملتمس الرقابة لسحب الثقة من الحكومة    كلاسيكو الأرض.. برشلونة يسعى لحسم الليغا وريال مدريد يبحث عن إحياء الأمل    غ.زة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم    بوتين يقترح إجراء محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول انطلاقا من 15 ماي    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    القاهرة.. تتويج المغرب بلقب "أفضل بلد في إفريقا" في كرة المضرب للسنة السابعة على التوالي    زيلينسكي: روسيا تدرس إنهاء الحرب    تحريك السراب بأيادي بعض العرب    أجواء احتفالية تختتم "أسبوع القفطان"    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    طقس الأحد: زخات رعدية بعدد من المناطق    زلزال بقوة 4,7 درجات يضرب جنوب البيرو    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    بعد فراره لساعات.. سائق سيارة نقل العمال المتسبب في مقتل سيدة مسنة يسلم نفسه لأمن طنجة    الوكالة الفرنسية للتنمية تعلن تمويل استثمارات بقيمة 150 مليار بالصحراء المغربية    جناح الصناعة التقليدية المغربية يفوز بجائزة أفضل رواق في معرض باريس    الأشبال: الهدف التأهل إلى المونديال    المغرب – السعودية .. افتتاح النسخة الثانية من معرض "جسور" بمراكش    التعاون الفلاحي يتصدر إعلان نواكشوط    الأسهم تحفز تداولات بورصة البيضاء    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    الناظور غائبة.. المدن المغربية الكبرى تشارك في منتدى "حوار المدن العربية الأوروبية" بالرياض    ديستانكت ومراد يرويان خيبة الحب بثلاث لغات    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    تطور دينامية سوق الشغل في المغرب .. المكتسبات لا تخفي التفاوتات    افتتاح فعاليات المعرض الدولي السابع والعشرون للتكنولوجيا المتقدمة في بكين    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمْسْتِرْدامْ..اِمْرأة مُسْتباحة!
نشر في العلم يوم 14 - 10 - 2013

أمستردام، هي مدينة دائرية على نَهْرٍ (الأمْسْتلْ) الذي يَخْتَرِقها. ولايُمْكِنُكَ، لصِغَرِها وشَكلِها، أنْ تَضَلَّ طريقك أوتَتيهَ فيها، لأنَّ كلَّ طُرُقِها تُفْضي إلى شارع دامْراك. كما أنَّ السيرَ فيها هادئ، لاتنتظر مُفاجآتٍ تُقْلقك، كأنْ تُباغِتَكَ سيارة أودراجة نارية نفَّاثة، مثلَما في عواصم الدول الأروبية. فالسيارات قليلة، تكاد لا تشعر بوجودها. وحركة الْمارين والدراجات الْهَوائية هي الغالبة. ولك أنْ تَستغرب بأنني رأيتُ يوما مئاتِ الدراجات متوقفة في مَحَطة، وكلها متشابِهة تقريبا. أعني أنَّ غالبيتها مستعملة، ليس بينها جديد، ولاحارس لَها، أوقيود تصلها بعمود أوشجرة، كما تَجْري العادة عندنا!.. وهنا، وقفتُ أفكر، وأتساءل مع نفسي: كيف سيميز الواحد دراجته عن الأخرى؟!
بعد حين، جاءني الْجَواب على رجليه، يقول لي: اُنظرْ جيدا، ماذا سيفعل الدَّرَّاجون!..اِنْفَتَح بابٌ كبير لبناية قريبة، واندفعتْ منه موجة بشرية، فتقدَّم كلٌّ منها من دراجةٍ يركبها، وينطلق بسرعة نَحْو جِهته. ولَمْ تَمُرَّ إلادقيقة فقط، حتى أصبحتِ الْمَحطةُ قرعاءَ!..وهذا يعني ألاَّ فرقَ بين الدراجات، لأنه لو أراد الواحد منهم أنْ يبحث عن دراجته، لتطلَّب الأمْرُ منه ساعاتٍ طويلةً!..وقيل لي إنَّ عدد الدراجاتِ الْهَوائية في أمْستردام يبلغ سَبْعَمِئةِ ألْفٍ، فيما يبلغ سكانُها سبعَمئةٍ وخَمْسينَ ألْفَ نَسَمةٍ!..وهذا يعني أنّ الأغلبيةَ الساحقةَ تَمْتَطي الدَّراجةَ، بِما في ذلك الوزراء ورئيسهم والشخصيات السياسية، كما أكّد لي مُرافِقي!..وتصورْ معي، سيدي القارئ، لونُحاول تَقْليدَ هذه العملية هنا، ماذا سيقع؟!..وقبل ذلك هل سيعثر كلٌّ منا على دراجته؟!..أظن أنَّنا سنعود على أرجُلِنا إلى منازلنا!
ومرةً أخرى، لك أنْ تستغربَ بأنني مررتُ فوق جِسْر مُمْتَدٍّ فوق النَّهر الْمَذْكور، فواجهتني دكاكين تعرض أنواعا وأشكالا من الأجْبان البيضاء والصفراء والوردية. فاحترتُ بينها، ولم أستطع أنْ أقتنِيَ منها قطعةً معينة، لأنَّني ما أنْ أُشير إلى واحدة، وتريد البائعة أنْ تأخذها إلى الْميزان، حتى أنتقلَ إلى ثانية فثالثة، وهكذا..وهنا قالتْ لي صديقتها ضاحكة: هلْ تؤجِّل هذه الرقصة إلى الْمَساء، عندما ننصرف من العمل؟
أجبتها غيرَ مصدقٍ:كما تريدين، سيدتي!
سألتني: إذن، أيةَ جُبْنة تَخْتار الآن؟..أومن الأفضل أنْ تتذوّقَها من هذه الصحون، لتنتقي مايُعْجِبُكَ منها!
تذوقتُ أكثرَ من عشْرِ قِطَعٍ، فأحْسَسْتُ بالشبع. قلت لَها باسِما:لَمْ أعُدْ في حاجَةٍ إلى جُبْنٍ!
وهذا السلوك ذكّرني بالْخَمْسينياتِ من القرن الْماضي، عندما كنّا نَمُر، أنا وأبي، بدكاكين الْخَضّارين والفاكِهانِيِّين في سوق الرّصيف، فَيُناولوننا حَبَّاتٍ من التّوتِ أوالْمِشْمِش أوالتين لنتذوَّقَها، وما أن نصل إلى البيت، حتى نكون في غاية الشَّبْع..!
وإذا قصدتَ أمْسْتِرْدامْ، ولَمْ تزُرْ شارعَها الرئيسي دامْراك، فكأنَّك لَمْ تزُرْها بالْمَرّة!..ذلك أن هذا الشارع، يَحْتوي على تَماثيلَ لشخصياتٍ علمية وسياسية واجْتِماعية، لعبتْ دورا كبيرا في تكوين الْمُجْتَمَع الْهولاندي. وعلى قصور ودور تاريخية، ومتاحِفَ للوحات تشكيلية، منها متحف (ريكز أوريكس) الذي يَحْتضِن آلافَ اللوحاتِ التَّشكيلية، ومئاتِ القِطَع الفنية، بالإضافة إلى متحف الفنان الْهولندي الشَّهير فينسينْتْ فانْ جوخْ. كما توجد في هذا الشارع، ساحاتٌ لعرضِ مسرحيات وقطع موسيقية وأشكال من الفنون الْمُذْهَِلة، كالألعاب البهلوانية. ويعتبر شارعا رئيسيا في العاصمة الْهولاندية، واسْمه يتكون من كلمتين (دامْ) و(راكْ) وهُما اسْمان لأخوين شقيقين؛ الأول، كان رئيسا للصيادين، والثاني نَحَّاتا، قام بتصميم ونَحْتِ عدد من التّماثيل، فضُمَّ اسْمُ الأول إلى الثاني، وأطلِق على الشارع!
ويوازيه شارع تِجاري آخر، لكنه أضْيَق منه، تَمْتَدُّ على طوله الْمَقاهي والْمَطاعم والدكاكين، والْمَتاجر الكبرى، التي تعرض كل مايَخْطر أولايَخْطر على بالكم، واللَّبيبُ بالإشارة يفهم!
وما أثارني، وأنا أتَجوّل فيه، أنْ أجِد كاتبا بلحْمه وعَظْمه مُتَسَمِّرا في وسط الطريق، كأنه تِمْثال، أمامه كومةٌ من نُسَخِ كتابه، موضوعة على الأرض بشكل فني، النسخة فوق أختها، حتى شيّد منها هَرَما صغيرا. ويَحْمِل بيده اليمنى نسخةً، وبيده اليسرى قلما، أي من يريد أن يقتنيَ واحدةً، سيوقعها له. والْمارون عن يَمينه أو يساره، لابد وأنْ يتفحّصوا الكتاب، أويتحسَّسوه بأيديهم ويقرأوا عنوانه واسْمَ مؤلفه. أما في العالَمِ العربي، فربَّما تَمُرُّ عشرات السنين، والواحد منا لَمْ يلمسْ كتابا أومَجلةً، بَلْهَ يشتريه..!
وعلى ذكر الكتاب، تصادفك في طريقك، مكتبة مكونة من أربعة طوابقَ: الطابق السُّفلي لكتب الأطفال، تَجِدهم فيه كخلية نَحْل، مُمَدَّدين على بطونِهِمْ أوجالسين على الأرض، يطالعون قصصا. فإذا أعْجبتهم اشتروْها، وإلابَحَثوا عن غيرها. لأن الطفل لايكتفي بقراءة واحدة للكتاب الذي يُمَتِّعه، بل يعود إليه عشراتِ الْمَراتِ،كأنه يشاهد شريطَ مغامراتٍ.وتَخَيَّل معي لو أنّ طفلا عندنا أراد أنْ يتصَفَّحَ كتابا، لاأنْ يقرأه، ماذا سيكون رَدُّ فعلِ الْكُتْبي؟!..أقل ماسيعْمَله، أنَّهُ سيَجْذبه من يديه بعصبية، ويُخاطبه
غاضبا: اِذْهَبْ لتلعب، واتْرُكْ عنكَ الكتابَ لأسيادِك!
والطابق الثاني لكتب اليافعين والكبار، والثالث للكتب التراثية واللوحات التشكيلية، والرابع مقهى ومكتبة، تنتقي من رفوفها كتابا، وتطلب من النادل مشروبا، فتجمع جلستك بين غذاءين ضروريين: البطن والعقل!
وأذكر يوما، كنت مُمْتَطيا القطارَ، متوجِّها من أمْسْتِرْدام إلى مَسْتْريخْتْ بِالْجَنوبِ الشرقي، وتُعَدّ من أبعد مدن هولاندة. فأتاني شخص، يرتدي بَدْلَة رسْمية، وطلب مني أنْ أصْحَبَه باللغة الْهولاندية، وأنا بطبيعة الْحال لاأفْهَمُها، ولكنني فَهِمْتُ بِإشاراته أنه يدعوني لِمُصاحبته. فأوصلني إلى قاطِرة، ظنا مني أنَّ فيها مقهى أومطعا، فإذا بِها مكتبة ضخْمة على مَتْنِ القطار. وفوق الْمِنصة، يقف شاعر، يقرأ قصائده على الْحاضرين من الرُّكَّاب، ثُمَّ يُوَقِّع دواوينه لَهُمْ. ولَمَّا توقَّف القطار في إحدى الْمَحطات، ودَّعَهُمْ ونزل منه، ليصعَد آخرُ، ولكنه قاصٌّ. ولَمَّا سألتُ عن هذا العملية، قيل لي إنَّ إدارة الْخَط الْحديدي، هي التي تنظِّم هذه اللقاءات، وتُجْزي الْعَطاءَ للكُتَّاب والشعراء والقصاصين الْمُساهِمين في هذه الأنشطة. ويُمْكن للراكب، أنْ يستعيرَ من هذه القاطرة أيَّ كتاب يريد، شريطةَ أنْ يُرْجِعَه إلى أقرب مكتبة بِمَدينته في ظَرْفٍ لايتجاوز خَمْسةَ عشرَ يوماً، لأنَّ كل الْمَكتبات الْهولاندية متصلة فيما بينها عبر الشبكة العنكبوتية، مثل الأبناك. ولنفترضْ أنَّ قارئا منخرطا في الْمَكتبة الوطنية، ألزمه الْمَرضُ السَّريرَ في مُسْتَشْفى ما، فإنَّ القَيِّمَ يَحْمِلُ إليه أنواعا من الكتب والْمَجلات في ناقلة خاصة كلَّ أسبوع، ليختار منها مايشاء. فتَجِد كل الْمَرضى يتهافتون عليه، ليستبدلوا الكتب الْمَقروءة!
هل تُدْرك، سيدي، الآن، كيف تقدمتِ الدولُ الأروبيةُ، وكيفَ تَخَلَّفتِ الدول العربيةُ، ومازالتْ ترتَعُ في مُسْتَنْقَعِ التَّخلُّفِ؟!..لكنْ، هذا لايعني أنني أدعو إلى أنْ نكونَ نسخةً طِبْقَ الأصْلِ منهم!..لالا!..لأنَّ بعض النتائج الأخلاقية والسلوكية التي أحرزوها، غيرَ لائقةٍ بنا ولامُشَرِّفةٍ لنا، ولاحتى بالوجود الإنساني. وهذا رأيي الشخصي، لأنني رُبَّما مازلتُ مُتَخَلِّفا، ولَمْ أشعرْ، أوأنني بدأتُ أهْرِف بِما لاأعْرِف!..فَمَثلا، سِرْتُ مساءً مع صديقي إلى آخر شارع دامراك، من هنا إلى هناك، حتى قابلَتْنا مَجْموعةٌ من الدكاكين، الْمُصْطفّة والْمُتقابلة في منطقة (الأضواء الْحَمْراء). فقال لي صديقي خَجولا: هيّا نَعُدْ أدْراجَنا، فلايوجد في هذا الْمَكانِ مايُعْجِبُك!
أحْسَسْتُ من لَهْجَة كلامه، كأنه لايُريدُني أنْ أشاهِدَها: ألاأجِبْني: ماذا يوجدُ هناكَ؟!
رد: لاشيء!..مُجَرَّد باعَةِ لَحْمٍ!
سألته مُتَعَجِّبا: أيَّ لَحْم تعني؟!..لَحْم البقر، أم لَحْم الدَّجاجِ، أم الفرس والْخنزير؟!
ضَحِكَ من غَفْلتي قائلا: أقْصِد بائعاتِ الْهَوى!
وإذْ ذاكَ، أصْرَرْتُ على أنْ أزورَها لأمَلَّيَ عينيَّ على الأقلِّ، فرافقني إليْها مُرتبِِكا، يتلعْثَم في حديثه معي، لأنه لساني الذي يُتَرجِم لي كلَّ مايدور بيني وبين الآخرين!..وأنا كذلك، أتأمَّل الواجِهاتِ الزُّجاجيةَ، التي تعرض ألوانا وأشكالا من النساء العاريات، إلا من خيوطٍ رهيفة..الطويلة والقصيرة، البيضاء والسمراء، الغربية والعربية والأسيوية..إذا بإحداهن تشير إلَيَّ أنْ أقتربَ منها، ففعلتُ إكراما لإشارتِها: هل تريد بِخَمسينَ أورو؟!
سألتني باسِمةً، فأجبتها فورا: أنتِ تستحقين مئةً، لا خَمْسين!
أعْجَبَها جوابي، فدعَتْني إلى الدُّخول!..لكنني أردفْتُ قائلا: اِنْتَظري قليلا، سأسْحَبُ النقودَ حالا من الشباك البنكي!
قالتْ لي بعينين حائرتين، كأنَّها أحَسَّتْ بالصيد سيفلت من يديها: لاتتأخّرْ عني طويلا، لأنّ زوجي سيحضر حينا ليأخذني إلى البيت!
توقّفْتُ أفكِّر في كلامِها، ثُمّ سألتُها مستغربا: وكيف تُوَفِّقينَ بين عَمَلياتك الْجِنْسية مع زوجك والزّبائن؟!
أطلقتْ ضحكةً، وقالتْ: أحاول أنْ أرضيَ كُلاًّ منهم!..إذن، لا تتأخر، كي أرضِيَكَ أنتَ أيضا!
سألْتُها مُراوِغا: هل يُمْكِنُني أنْ ألتقِيَ بكِ في مكانٍ آخرَ؟
أجابَتْني غاضبة، عابسةَ الوجه، حتى أنني خِفْتُ أنْ تَتَّهِمَني بالتَّحرُّش الْجِنْسي: لا!..أنا امرأة مُحْترمة، ومُخْلِصة لزوجي و وَلَدَيَّ!..لا أمارس مِهْنَتي الشريفةَ إلا في هذه الغرفة!
اِعْتَذرتُ لَها، وجبيني يقطر عرقا من الْخَجَل: سامِحيني، سيدتي، إنْ كنتُ أسأتُ معك الأدَبَ!
وعُدْتُ مع صديقي، مَنْكوسَ الرأس والنفس، أفكِّر عَميقا في حالةِ تردِّي الفكر الغربي إلى هذا الْمُسْتوى، بالرَّغْم من التقدم والتطور الْعِلْميين :هل عرفتَ الآنَ، لِماذا لَمْ أرِدْ أنْ آخُذَك إلى دكاكين الْهَوى؟!
قالَ لي صديقي، فالتفتْتُ إليه: أجلْ!..حَقا ما قلتَ!..لكنْ، كان عليَّ أنْ أعرفَ بنفسي، وتلك هي طبيعتي وعادتي، منذ طفولتي!
سألني في دهشة: ماذا ستعرف؟!
أجبته بابتسامةٍ:أنْ أعرفَ كيف تساوي عقلية الغربي الشرفَ والاحْترامَ والإخلاصَ بالْبَغاء والدَّعارة والْعَهارَة.كما تساوي بين العناية بالقطة والكلب، وقَصْفِ اآلاف الْمَدنيين بتَرْسانتها الْحَرْبية، البرية والْجوية والبحرية..!
وما أعْنيه بِهَذا الْمِثال الْحَيِّ، أنْ نأخُذَ بالوسائل الْفَعّالة للنَّهْضة الْحَضارية الأروبية، لِنُكَيِّفَها مع أخلاقياتنا وسلوكياتنا العربية الْجَميلة، واللاَّئقة بالْكَيْنونة الإنسانية، مثلما فعل العرب في العصر العباسي بالنسبة للتراث العلمي والفلسفي اليوناني. وإلاّلِماذا الإنسانُ إنسانٌ، إذا لَمْ يَتَمَيَّز عن الْحَيوانِ؟!.. فبقدْرِ مايَمْتَلِك الغربي ترسانةً من الْحُقوقِ، بقدرِ مايُوَظِّفُها في مَجالاتٍ حاطّةٍ بإنسانيته وكَرامتِهِ..!
كيف يُمْكِنني أنْ أفسِّرَ بعضَ الظواهر الْمَرَضِية؟!..ففي منطقة (بيجلميرْ) الراقية، مثلا، تعرض الشابةُ نفسَها مُقابِلَ عصير، أولُمْجَةٍ، أوكأس نبيذ، عِلْما بأنَّ هناك دراسة لِهَذه الْحالة الْمُسْتَعْصِية على الفهم، تؤكِّد أنَّ الشابة، وهي لَمْ تتجاوزْ عشرين عاما، لاتعاني أزمة نفسية، أوضائقة مالية، أومشكلة أسرية، فهي تعيش حياتَها عادية وطبيعية في وسطٍ أسْرويٍّ سَوِيٍّ؟!..فلوكانتْ تكابد ظروفا قاسيةً، عائلية أومادية، أوحرمانا وإهْمالا لَها من الوالدين، لَبَرَّرْنا هذا التَّعاطي للجنس الرخيص بتلك العوامل، لكنَّ الدراسةَ التي أُجْرِيتْ، أظْهَرتِ العكسَ!..وأيْنَما تُوَلِّ وَجْهَك، تَجِدْ حاناتٍ ومَقاهِيَ الْحَشيشِ والْمُخَدِّراتِ، تٌقَدَّم للزبائن بشكل عاديٍّ، كما لوتقدم أكواب الْقَهْوة والشاي. بل هناك مُمَرِّضاتٌ يَحْقُنْنَ الْمُدْمِنين مَجَّانا، كيلا يستعملوا حُقَنا، تُصيبهم بأمراض كالإدْز. أمّا ملاهي مِثْليي الْجِنْس، فلا تسألْ!..وهذا يؤكِّد ما ذهب إليه بعضُ الرؤساء الأروبيين والأمريكيين، إلى أن دولَهُمْ في حاجةٍ إلى النظر من جديد في تَلْقينِ أجيالِهِمُ قيمَ العائلةِ التقليديةِ، والأخلاقَ والْمَبادئَ الإنسانية، التي لاينهَض الْمُجتمع إلاعلى لَبِناتِها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.