غموض لافت في مشروع قرار مجلس الأمن حول الصحراء: بين دعم الحكم الذاتي وضمان حق تقرير المصير    إدريس لشكر يسعى لولاية رابعة على رأس "الاتحاد الاشتراكي" وسط تصاعد الغضب الداخلي ودعوات شباب الحزب للتجديد    بولس: الجزائر ترحب بتحسين العلاقات الثنائية مع المغرب وواشنطن سوف تفتتح قنصلية لها قريبا بالصحراء    "الأشبال" يستعدون لنهائي المونديال    شرطي يرتكب جريمة قتل بالبيضاء    لشكر: صرخة شباب "جيل زد" تعبر عن قلق المجتمع وتسائل آليات الدولة    منتخب السيدات ينهزم أمام البرازيل    المصادقة على 344 مشروعا بالشمال    الشعباني: نهضة بركان على أتم الاستعداد لتحقيق لقب السوبر الإفريقي    روسيا تشيد بالمبادرات الملكية المتعلقة بالأطلسي والساحل    التديّن الشكلي ببلاد المهجر    ليلى والذئب ..    عصفورة عمي قدور    توقيع اتفاق جديد للتعاون في مجال الصيد البحري بين المغرب وروسيا    تراجع المنتخب المغربي إلى المركز 12 عالميا في تصنيف الفيفا    25 لاعبا في قائمة الوداد لمواجهة أشانتي كوتوكو في كأس الكونفدرالية    "لارام" تخصص رحلتين للعاصمة التشيلية    نبيل باها يعقد ندوة صحفية للكشف عن اللائحة المستدعاة لكأس العالم    بورصة البيضاء تنهي التداولات بارتفاع    السلطات المغربية توقف 5000 مهاجر في الشمال لمنع "الحريك" الجماعي    أرقام رسمية تكشف ضعف التبرع بالأعضاء .. وهبي يدعو لرقمنة التسجيل    توقيف شخص في بن أحمد مشتبه بقتل زوجته وتقطيعها وإخفاء الجثة    الخطوط الملكية تعلن عن رحلات مباشرة إلى الشيلي لمساندة "أشبال الأطلس" في نهائي المونديال    مباحثات بين العلمي ووفد فلسطيني    مالاوي تجدد دعم الوحدة الترابية للمغرب    انطلاق فعاليات مهرجان "جسد" للمسرح بمشاركة نوعية    محمد وهبي ..الربان الذي يقود سفينة "أشبال الأطلس" إلى أعلى مدارج المجد الكروي    فاطمة الزهراء لحرش توضح بهدوء أسباب طلاقها وتحسم الشائعات    أمن طنجة يوقف شابًا متلبسًا بحيازة أقراص مهلوسة بمحطة القطار    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    استئنافية الحسيمة ترفع عقوبة سيدة متهمة باستدراج قاصرات لممارسة الدعارة    شباب أمازيغ يعلّقون مشاركتهم في دينامية "جيل زد" احتجاجا على تصريحات مسيئة للهوية الأمازيغية    قيوح: تحت قيادة جلالة الملك المغرب جعل من الربط والاندماج القاري خيارا استراتيجيا    حاتم عمور يلتقي جمهوره في أمسية فنية بالدار البيضاء    احتجاجا على سياسات ترامب.. توقع خروج الملايين للتظاهر في عدة مدن أمريكية تلبية لدعوة حركة "لا ملوك"    طنجة البالية: توقيف 3 قاصرين تورطوا في رشق الحجارة قرب مؤسسة تعليمية    مستشار ترامب: واشنطن تقترب من افتتاح قنصليتها في الصحراء المغربية... والملف يسير نحو نهايته    ألمانيا تجيز استخدام الشرطة للصواعق الكهربائية في جميع أنحاء البلاد    أستراليا تفرض أول حد أدنى لعمر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي    الأمم المتحدة: 80 في المائة من فقراء العالم معرضون لمخاطر مناخية    الذهب يتجاوز 4300 دولار ويتجه لتحقيق أفضل مكاسب أسبوعية في 17 عاما    انفجار قنبلة أمام منزل أحد كبار الصحافيين الاستقصائيين في إيطاليا    مغربيان ضمن المتوجين بجائزة كتارا للرواية العربية    وفاة والدة الفنانة لطيفة رأفت بعد معاناة مع المرض    شركات كبرى تحتكر سوق الدواجن بالمغرب والجمعية الوطنية لمربي الدجاج تحمّل الحكومة المسؤولية    إسرائيل ترجح إعادة فتح معبر رفح الأحد وحماس تؤكد "حرصها" على تسليم جثامين بقية الرهائن    صندوق النقد الدولي يرفع توقعاته للنمو في آسيا رغم التوترات التجارية الصينية الأمريكية    إصابة 11 شخصا جراء غارات إسرائيلية عنيفة على جنوب لبنان    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمْسْتِرْدامْ..اِمْرأة مُسْتباحة!
نشر في العلم يوم 14 - 10 - 2013

أمستردام، هي مدينة دائرية على نَهْرٍ (الأمْسْتلْ) الذي يَخْتَرِقها. ولايُمْكِنُكَ، لصِغَرِها وشَكلِها، أنْ تَضَلَّ طريقك أوتَتيهَ فيها، لأنَّ كلَّ طُرُقِها تُفْضي إلى شارع دامْراك. كما أنَّ السيرَ فيها هادئ، لاتنتظر مُفاجآتٍ تُقْلقك، كأنْ تُباغِتَكَ سيارة أودراجة نارية نفَّاثة، مثلَما في عواصم الدول الأروبية. فالسيارات قليلة، تكاد لا تشعر بوجودها. وحركة الْمارين والدراجات الْهَوائية هي الغالبة. ولك أنْ تَستغرب بأنني رأيتُ يوما مئاتِ الدراجات متوقفة في مَحَطة، وكلها متشابِهة تقريبا. أعني أنَّ غالبيتها مستعملة، ليس بينها جديد، ولاحارس لَها، أوقيود تصلها بعمود أوشجرة، كما تَجْري العادة عندنا!.. وهنا، وقفتُ أفكر، وأتساءل مع نفسي: كيف سيميز الواحد دراجته عن الأخرى؟!
بعد حين، جاءني الْجَواب على رجليه، يقول لي: اُنظرْ جيدا، ماذا سيفعل الدَّرَّاجون!..اِنْفَتَح بابٌ كبير لبناية قريبة، واندفعتْ منه موجة بشرية، فتقدَّم كلٌّ منها من دراجةٍ يركبها، وينطلق بسرعة نَحْو جِهته. ولَمْ تَمُرَّ إلادقيقة فقط، حتى أصبحتِ الْمَحطةُ قرعاءَ!..وهذا يعني ألاَّ فرقَ بين الدراجات، لأنه لو أراد الواحد منهم أنْ يبحث عن دراجته، لتطلَّب الأمْرُ منه ساعاتٍ طويلةً!..وقيل لي إنَّ عدد الدراجاتِ الْهَوائية في أمْستردام يبلغ سَبْعَمِئةِ ألْفٍ، فيما يبلغ سكانُها سبعَمئةٍ وخَمْسينَ ألْفَ نَسَمةٍ!..وهذا يعني أنّ الأغلبيةَ الساحقةَ تَمْتَطي الدَّراجةَ، بِما في ذلك الوزراء ورئيسهم والشخصيات السياسية، كما أكّد لي مُرافِقي!..وتصورْ معي، سيدي القارئ، لونُحاول تَقْليدَ هذه العملية هنا، ماذا سيقع؟!..وقبل ذلك هل سيعثر كلٌّ منا على دراجته؟!..أظن أنَّنا سنعود على أرجُلِنا إلى منازلنا!
ومرةً أخرى، لك أنْ تستغربَ بأنني مررتُ فوق جِسْر مُمْتَدٍّ فوق النَّهر الْمَذْكور، فواجهتني دكاكين تعرض أنواعا وأشكالا من الأجْبان البيضاء والصفراء والوردية. فاحترتُ بينها، ولم أستطع أنْ أقتنِيَ منها قطعةً معينة، لأنَّني ما أنْ أُشير إلى واحدة، وتريد البائعة أنْ تأخذها إلى الْميزان، حتى أنتقلَ إلى ثانية فثالثة، وهكذا..وهنا قالتْ لي صديقتها ضاحكة: هلْ تؤجِّل هذه الرقصة إلى الْمَساء، عندما ننصرف من العمل؟
أجبتها غيرَ مصدقٍ:كما تريدين، سيدتي!
سألتني: إذن، أيةَ جُبْنة تَخْتار الآن؟..أومن الأفضل أنْ تتذوّقَها من هذه الصحون، لتنتقي مايُعْجِبُكَ منها!
تذوقتُ أكثرَ من عشْرِ قِطَعٍ، فأحْسَسْتُ بالشبع. قلت لَها باسِما:لَمْ أعُدْ في حاجَةٍ إلى جُبْنٍ!
وهذا السلوك ذكّرني بالْخَمْسينياتِ من القرن الْماضي، عندما كنّا نَمُر، أنا وأبي، بدكاكين الْخَضّارين والفاكِهانِيِّين في سوق الرّصيف، فَيُناولوننا حَبَّاتٍ من التّوتِ أوالْمِشْمِش أوالتين لنتذوَّقَها، وما أن نصل إلى البيت، حتى نكون في غاية الشَّبْع..!
وإذا قصدتَ أمْسْتِرْدامْ، ولَمْ تزُرْ شارعَها الرئيسي دامْراك، فكأنَّك لَمْ تزُرْها بالْمَرّة!..ذلك أن هذا الشارع، يَحْتوي على تَماثيلَ لشخصياتٍ علمية وسياسية واجْتِماعية، لعبتْ دورا كبيرا في تكوين الْمُجْتَمَع الْهولاندي. وعلى قصور ودور تاريخية، ومتاحِفَ للوحات تشكيلية، منها متحف (ريكز أوريكس) الذي يَحْتضِن آلافَ اللوحاتِ التَّشكيلية، ومئاتِ القِطَع الفنية، بالإضافة إلى متحف الفنان الْهولندي الشَّهير فينسينْتْ فانْ جوخْ. كما توجد في هذا الشارع، ساحاتٌ لعرضِ مسرحيات وقطع موسيقية وأشكال من الفنون الْمُذْهَِلة، كالألعاب البهلوانية. ويعتبر شارعا رئيسيا في العاصمة الْهولاندية، واسْمه يتكون من كلمتين (دامْ) و(راكْ) وهُما اسْمان لأخوين شقيقين؛ الأول، كان رئيسا للصيادين، والثاني نَحَّاتا، قام بتصميم ونَحْتِ عدد من التّماثيل، فضُمَّ اسْمُ الأول إلى الثاني، وأطلِق على الشارع!
ويوازيه شارع تِجاري آخر، لكنه أضْيَق منه، تَمْتَدُّ على طوله الْمَقاهي والْمَطاعم والدكاكين، والْمَتاجر الكبرى، التي تعرض كل مايَخْطر أولايَخْطر على بالكم، واللَّبيبُ بالإشارة يفهم!
وما أثارني، وأنا أتَجوّل فيه، أنْ أجِد كاتبا بلحْمه وعَظْمه مُتَسَمِّرا في وسط الطريق، كأنه تِمْثال، أمامه كومةٌ من نُسَخِ كتابه، موضوعة على الأرض بشكل فني، النسخة فوق أختها، حتى شيّد منها هَرَما صغيرا. ويَحْمِل بيده اليمنى نسخةً، وبيده اليسرى قلما، أي من يريد أن يقتنيَ واحدةً، سيوقعها له. والْمارون عن يَمينه أو يساره، لابد وأنْ يتفحّصوا الكتاب، أويتحسَّسوه بأيديهم ويقرأوا عنوانه واسْمَ مؤلفه. أما في العالَمِ العربي، فربَّما تَمُرُّ عشرات السنين، والواحد منا لَمْ يلمسْ كتابا أومَجلةً، بَلْهَ يشتريه..!
وعلى ذكر الكتاب، تصادفك في طريقك، مكتبة مكونة من أربعة طوابقَ: الطابق السُّفلي لكتب الأطفال، تَجِدهم فيه كخلية نَحْل، مُمَدَّدين على بطونِهِمْ أوجالسين على الأرض، يطالعون قصصا. فإذا أعْجبتهم اشتروْها، وإلابَحَثوا عن غيرها. لأن الطفل لايكتفي بقراءة واحدة للكتاب الذي يُمَتِّعه، بل يعود إليه عشراتِ الْمَراتِ،كأنه يشاهد شريطَ مغامراتٍ.وتَخَيَّل معي لو أنّ طفلا عندنا أراد أنْ يتصَفَّحَ كتابا، لاأنْ يقرأه، ماذا سيكون رَدُّ فعلِ الْكُتْبي؟!..أقل ماسيعْمَله، أنَّهُ سيَجْذبه من يديه بعصبية، ويُخاطبه
غاضبا: اِذْهَبْ لتلعب، واتْرُكْ عنكَ الكتابَ لأسيادِك!
والطابق الثاني لكتب اليافعين والكبار، والثالث للكتب التراثية واللوحات التشكيلية، والرابع مقهى ومكتبة، تنتقي من رفوفها كتابا، وتطلب من النادل مشروبا، فتجمع جلستك بين غذاءين ضروريين: البطن والعقل!
وأذكر يوما، كنت مُمْتَطيا القطارَ، متوجِّها من أمْسْتِرْدام إلى مَسْتْريخْتْ بِالْجَنوبِ الشرقي، وتُعَدّ من أبعد مدن هولاندة. فأتاني شخص، يرتدي بَدْلَة رسْمية، وطلب مني أنْ أصْحَبَه باللغة الْهولاندية، وأنا بطبيعة الْحال لاأفْهَمُها، ولكنني فَهِمْتُ بِإشاراته أنه يدعوني لِمُصاحبته. فأوصلني إلى قاطِرة، ظنا مني أنَّ فيها مقهى أومطعا، فإذا بِها مكتبة ضخْمة على مَتْنِ القطار. وفوق الْمِنصة، يقف شاعر، يقرأ قصائده على الْحاضرين من الرُّكَّاب، ثُمَّ يُوَقِّع دواوينه لَهُمْ. ولَمَّا توقَّف القطار في إحدى الْمَحطات، ودَّعَهُمْ ونزل منه، ليصعَد آخرُ، ولكنه قاصٌّ. ولَمَّا سألتُ عن هذا العملية، قيل لي إنَّ إدارة الْخَط الْحديدي، هي التي تنظِّم هذه اللقاءات، وتُجْزي الْعَطاءَ للكُتَّاب والشعراء والقصاصين الْمُساهِمين في هذه الأنشطة. ويُمْكن للراكب، أنْ يستعيرَ من هذه القاطرة أيَّ كتاب يريد، شريطةَ أنْ يُرْجِعَه إلى أقرب مكتبة بِمَدينته في ظَرْفٍ لايتجاوز خَمْسةَ عشرَ يوماً، لأنَّ كل الْمَكتبات الْهولاندية متصلة فيما بينها عبر الشبكة العنكبوتية، مثل الأبناك. ولنفترضْ أنَّ قارئا منخرطا في الْمَكتبة الوطنية، ألزمه الْمَرضُ السَّريرَ في مُسْتَشْفى ما، فإنَّ القَيِّمَ يَحْمِلُ إليه أنواعا من الكتب والْمَجلات في ناقلة خاصة كلَّ أسبوع، ليختار منها مايشاء. فتَجِد كل الْمَرضى يتهافتون عليه، ليستبدلوا الكتب الْمَقروءة!
هل تُدْرك، سيدي، الآن، كيف تقدمتِ الدولُ الأروبيةُ، وكيفَ تَخَلَّفتِ الدول العربيةُ، ومازالتْ ترتَعُ في مُسْتَنْقَعِ التَّخلُّفِ؟!..لكنْ، هذا لايعني أنني أدعو إلى أنْ نكونَ نسخةً طِبْقَ الأصْلِ منهم!..لالا!..لأنَّ بعض النتائج الأخلاقية والسلوكية التي أحرزوها، غيرَ لائقةٍ بنا ولامُشَرِّفةٍ لنا، ولاحتى بالوجود الإنساني. وهذا رأيي الشخصي، لأنني رُبَّما مازلتُ مُتَخَلِّفا، ولَمْ أشعرْ، أوأنني بدأتُ أهْرِف بِما لاأعْرِف!..فَمَثلا، سِرْتُ مساءً مع صديقي إلى آخر شارع دامراك، من هنا إلى هناك، حتى قابلَتْنا مَجْموعةٌ من الدكاكين، الْمُصْطفّة والْمُتقابلة في منطقة (الأضواء الْحَمْراء). فقال لي صديقي خَجولا: هيّا نَعُدْ أدْراجَنا، فلايوجد في هذا الْمَكانِ مايُعْجِبُك!
أحْسَسْتُ من لَهْجَة كلامه، كأنه لايُريدُني أنْ أشاهِدَها: ألاأجِبْني: ماذا يوجدُ هناكَ؟!
رد: لاشيء!..مُجَرَّد باعَةِ لَحْمٍ!
سألته مُتَعَجِّبا: أيَّ لَحْم تعني؟!..لَحْم البقر، أم لَحْم الدَّجاجِ، أم الفرس والْخنزير؟!
ضَحِكَ من غَفْلتي قائلا: أقْصِد بائعاتِ الْهَوى!
وإذْ ذاكَ، أصْرَرْتُ على أنْ أزورَها لأمَلَّيَ عينيَّ على الأقلِّ، فرافقني إليْها مُرتبِِكا، يتلعْثَم في حديثه معي، لأنه لساني الذي يُتَرجِم لي كلَّ مايدور بيني وبين الآخرين!..وأنا كذلك، أتأمَّل الواجِهاتِ الزُّجاجيةَ، التي تعرض ألوانا وأشكالا من النساء العاريات، إلا من خيوطٍ رهيفة..الطويلة والقصيرة، البيضاء والسمراء، الغربية والعربية والأسيوية..إذا بإحداهن تشير إلَيَّ أنْ أقتربَ منها، ففعلتُ إكراما لإشارتِها: هل تريد بِخَمسينَ أورو؟!
سألتني باسِمةً، فأجبتها فورا: أنتِ تستحقين مئةً، لا خَمْسين!
أعْجَبَها جوابي، فدعَتْني إلى الدُّخول!..لكنني أردفْتُ قائلا: اِنْتَظري قليلا، سأسْحَبُ النقودَ حالا من الشباك البنكي!
قالتْ لي بعينين حائرتين، كأنَّها أحَسَّتْ بالصيد سيفلت من يديها: لاتتأخّرْ عني طويلا، لأنّ زوجي سيحضر حينا ليأخذني إلى البيت!
توقّفْتُ أفكِّر في كلامِها، ثُمّ سألتُها مستغربا: وكيف تُوَفِّقينَ بين عَمَلياتك الْجِنْسية مع زوجك والزّبائن؟!
أطلقتْ ضحكةً، وقالتْ: أحاول أنْ أرضيَ كُلاًّ منهم!..إذن، لا تتأخر، كي أرضِيَكَ أنتَ أيضا!
سألْتُها مُراوِغا: هل يُمْكِنُني أنْ ألتقِيَ بكِ في مكانٍ آخرَ؟
أجابَتْني غاضبة، عابسةَ الوجه، حتى أنني خِفْتُ أنْ تَتَّهِمَني بالتَّحرُّش الْجِنْسي: لا!..أنا امرأة مُحْترمة، ومُخْلِصة لزوجي و وَلَدَيَّ!..لا أمارس مِهْنَتي الشريفةَ إلا في هذه الغرفة!
اِعْتَذرتُ لَها، وجبيني يقطر عرقا من الْخَجَل: سامِحيني، سيدتي، إنْ كنتُ أسأتُ معك الأدَبَ!
وعُدْتُ مع صديقي، مَنْكوسَ الرأس والنفس، أفكِّر عَميقا في حالةِ تردِّي الفكر الغربي إلى هذا الْمُسْتوى، بالرَّغْم من التقدم والتطور الْعِلْميين :هل عرفتَ الآنَ، لِماذا لَمْ أرِدْ أنْ آخُذَك إلى دكاكين الْهَوى؟!
قالَ لي صديقي، فالتفتْتُ إليه: أجلْ!..حَقا ما قلتَ!..لكنْ، كان عليَّ أنْ أعرفَ بنفسي، وتلك هي طبيعتي وعادتي، منذ طفولتي!
سألني في دهشة: ماذا ستعرف؟!
أجبته بابتسامةٍ:أنْ أعرفَ كيف تساوي عقلية الغربي الشرفَ والاحْترامَ والإخلاصَ بالْبَغاء والدَّعارة والْعَهارَة.كما تساوي بين العناية بالقطة والكلب، وقَصْفِ اآلاف الْمَدنيين بتَرْسانتها الْحَرْبية، البرية والْجوية والبحرية..!
وما أعْنيه بِهَذا الْمِثال الْحَيِّ، أنْ نأخُذَ بالوسائل الْفَعّالة للنَّهْضة الْحَضارية الأروبية، لِنُكَيِّفَها مع أخلاقياتنا وسلوكياتنا العربية الْجَميلة، واللاَّئقة بالْكَيْنونة الإنسانية، مثلما فعل العرب في العصر العباسي بالنسبة للتراث العلمي والفلسفي اليوناني. وإلاّلِماذا الإنسانُ إنسانٌ، إذا لَمْ يَتَمَيَّز عن الْحَيوانِ؟!.. فبقدْرِ مايَمْتَلِك الغربي ترسانةً من الْحُقوقِ، بقدرِ مايُوَظِّفُها في مَجالاتٍ حاطّةٍ بإنسانيته وكَرامتِهِ..!
كيف يُمْكِنني أنْ أفسِّرَ بعضَ الظواهر الْمَرَضِية؟!..ففي منطقة (بيجلميرْ) الراقية، مثلا، تعرض الشابةُ نفسَها مُقابِلَ عصير، أولُمْجَةٍ، أوكأس نبيذ، عِلْما بأنَّ هناك دراسة لِهَذه الْحالة الْمُسْتَعْصِية على الفهم، تؤكِّد أنَّ الشابة، وهي لَمْ تتجاوزْ عشرين عاما، لاتعاني أزمة نفسية، أوضائقة مالية، أومشكلة أسرية، فهي تعيش حياتَها عادية وطبيعية في وسطٍ أسْرويٍّ سَوِيٍّ؟!..فلوكانتْ تكابد ظروفا قاسيةً، عائلية أومادية، أوحرمانا وإهْمالا لَها من الوالدين، لَبَرَّرْنا هذا التَّعاطي للجنس الرخيص بتلك العوامل، لكنَّ الدراسةَ التي أُجْرِيتْ، أظْهَرتِ العكسَ!..وأيْنَما تُوَلِّ وَجْهَك، تَجِدْ حاناتٍ ومَقاهِيَ الْحَشيشِ والْمُخَدِّراتِ، تٌقَدَّم للزبائن بشكل عاديٍّ، كما لوتقدم أكواب الْقَهْوة والشاي. بل هناك مُمَرِّضاتٌ يَحْقُنْنَ الْمُدْمِنين مَجَّانا، كيلا يستعملوا حُقَنا، تُصيبهم بأمراض كالإدْز. أمّا ملاهي مِثْليي الْجِنْس، فلا تسألْ!..وهذا يؤكِّد ما ذهب إليه بعضُ الرؤساء الأروبيين والأمريكيين، إلى أن دولَهُمْ في حاجةٍ إلى النظر من جديد في تَلْقينِ أجيالِهِمُ قيمَ العائلةِ التقليديةِ، والأخلاقَ والْمَبادئَ الإنسانية، التي لاينهَض الْمُجتمع إلاعلى لَبِناتِها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.