برقية تعزية ومواساة من الملك محمد السادس إلى أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    أخنوش يطلق من الداخلة "مسار الإنجازات": أنجزنا في 4 سنوات ما عجزت عنه حكومات متعاقبة    الوافي: بنكيران لا يواكب المرحلة    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    وصول 17 مهاجراً إلى إسبانيا على متن "فانتوم" انطلق من سواحل الحسيمة    العد التنازلي بدأ .. سعد لمجرد في مواجهة مصيره مجددا أمام القضاء الفرنسي    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    الدرهم يرتفع بنسبة 0,18 في المائة مقابل الأورو    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    مؤسسات فلسطينية في اليوم العالمي لحرية الصحافة: نشهد أكثر مرحلة دموية بتاريخ الصحافة    الإمارات وعبث النظام الجزائري: من يصنع القرار ومن يختبئ خلف الشعارات؟    تير شتيغن يعود لحراسة مرمى برشلونة بعد غياب 7 أشهر بسبب الإصابة    دار الطالب بأولاد حمدان تحتضن بطولة مؤسسات الرعاية الاجتماعية    الإقبال على ماراثون "لندن 2026" يعد بمنافسة مليونية    العصبة تفرج عن برنامج الجولة ما قبل الأخيرة من البطولة الاحترافبة وسط صراع محتدم على البقاء    الملك محمد السادس يبارك عيد بولندا    الأزمي: لم تحترم إرادة الشعب في 2021 وحكومة أخنوش تدعم الكبار وتحتقر "الصغار"    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    يونس مجاهد يكتب: حرية الصحافة المزعومة    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    منحة مالية للاعبي الجيش الملكي مقابل الفوز على الوداد    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    المغرب يطلق مشروعا كبيرا مع الولايات المتحدة لتصنيع مقاتلات F-16    استقدمها من علبة ليلية بأكادير.. توقيف شخص اعتدى على فتاة جنسيا باستعمال الضرب والجرح بسكين    "كان" الشباب: المنتخب المغربي ينهي تحضيراته استعدادا لمواجهة نيجيريا وسط شكوك حول مشاركة الزبيري وأيت بودلال    "هِمَمْ": أداء الحكومة لرواتب الصحفيين العاملين في المؤسسات الخاصة أدى إلى تدجينها    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    كيوسك السبت | الحكومة تكشف بالأرقام تفاصيل دعم صغار الفلاحين و"الكسابة"    ألمانيا تهتز على وقع حادث دموي في شتوتغارت.. سيارة تدهس حشداً وتصيب 8 أشخاص    كبرى المرافئ الأميركية تعاني من حرب ترامب التجارية    الموت يغيّب المنتج المصري وليد مصطفى    زيارة صاحبة السمو الملكي الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت تعزز "العلاقات الممتازة" بين الولايات المتحدة والمغرب (الميداوي)    قصف منزل يخلف 11 قتيلا في غزة    توقيع اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية    حين تصبح الحياة لغزاً والموت خلاصاً… "ياقوت" تكشف أسراراً دفينة فيلم جديد للمخرج المصطفى بنوقاص    أشغال تجهيز وتهيئة محطة تحلية مياه البحر بالداخلة تبلغ نسبة 60 بالمائة    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة الدخول الثقافي الجديد.. الثقافة.. مصطلح عميق في لغات الكون... بقلم // محمد أديب السلاوي
نشر في العلم يوم 13 - 11 - 2015


-1-
كيف لإنسان الألفية الثالثة، أن يضبط مفهوم/ مفاهيم الثقافة، كمصطلح أو كفعل، في خضم التداخلات والتشابكات التي عرفتها/ تعرفها الحضارات البشرية..؟
هل علينا العودة إلى قواميس اللغة/ اللغات لفك الغار هذا المصطلح..؟ (الثقافة) أم علينا أن نبحث في التعريفات التي جاء بها العقل البشري لهذه الإشكالية التي نطلق عليها في كل اللغات "الثقافة"؟
انطلاقا من تداخل وتشابك مفاهيم هذا المصطلح في اللغات والحضارات، تتحول الثقافة إلى دائرة خلاقة مشبعة بالتراكمات المعرفية والتجارب الميدانية لأنماط السلوك الإنساني، وفي ذات الوقت تتحول إلى صناعة خلاقة وفاعلة لأنماط فكرية/ اجتماعية/ سياسية/... وعلمية متجددة ومبدعة تلقائيا لاتجاهات معرفية جديدة مرتكزة في الأصل على القيمة الذاتية الواعية والعاكسة للوجدان والعقل التفكيري والإرادة الحرة.
-2-
في هذه الحالة، كيف تحدد اللغات والثقافات مفاهيم الثقافة..؟
هل تذهب في هذا النهج الصعب، أم أنها تبسط الأمر أمام المتعلمين والمربين والباحثين عن خلاصات العقل..؟
1/ الثقافة في معاجم اللغة العربية القديمة، ترتبط بالفطنة والحدق وسرعة الفهم والبديهة، قال محمد بن منظور في "لسان العرب المحيط": رجل تقف أي فطن/ فهم/ حادق، والمراد هنا أي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه.
ويعرف المعجم الوسيط الثقافة بأنها (العلوم/ المعارف/ الفنون) التي يطلب فيها الحدق.
وبالرغم من هذا المدلول الواسع الذي أعطته اللغة العربية لمصطلح الثقافة/ المثقف، فإن صيغته لم تكن شائعة في الكتابات العربية، لدى العرب الأقدمين، فكان المثقف عندهم هو العالم/ الأديب/ المحدث/ المشارك/ الحافظ/ الفقيه، إلى غير ذلك من الأوصاف.
وانطلاقا من هذه التعريفات، كانت نماذج المثقف العربي في العصر الذهبي للثقافة العربية، تتمثل في كتاب وفقهاء وعلماء وفلاسفة ومؤرخين، من أمثال: الجاحظ وابن قتيبة وابن حزم وابن خلدون وعياض الحصبي والقزويني والسيوطي، وغيرهم من الموسوعيين الذين اغنوا المكتبة العربية بنتاجهم الفكري، المتعدد الاهتمامات.
بمثل هذه النماذج يمكن الباحث المتبصر أن يدرك حيوية الثقافة العربية ككلمة ومفهوم، وأن يلامس أبعادها الفكرية والوجدانية ومراميها الإنسانية، فهي صفة من صفات العقل والنفس/نمط للتفكير والسلوك الوجداني استنارة للذهن/ تهذيب الذوق/ تنمية لملكة النقد والحكم لدى الأفراد والمجتمعات/ منهاج لتقويم المزايا الروحية والعقلية والحسية، وهي أبعد من ذلك، مؤسسة أوجدها العقل الإنساني المبدع، تعهدتها الأجيال المتعاقبة بالشدب والتكميل، حتى أصبحت عنوانا بارز لعبقرية الإنسان(1). وإحدى السمات المميزة لتقدمه العلمي والحضاري(2).
2/ والثقافة في القواميس والموسوعات الغربية الحديثة، لا تختلف مفاهيمها عن العربية، هي ما يتصف به الحادق المتعلم من ذوق وحس انتقادي وأحكام صحيحة، بل هي التربية التي تؤدي إلى اكتساب هذه الصفات(3) وهي أبعد من ذلك، تنمية ملكات العقل وإثرائها بالتمارين الفكرية، وإنها حالة العقل الذي يتم إثرائه على هذا النحو(4) وإنها منهاج الحياة الذي تسلكه جماعة بشرية ما، ويدخل في ذلك أنماط السلوك التي تكتب بالتعليم أو تقوم على قواعد ثابتة ينهجها فرد ويعاينها ويقرها فرد آخر ينتمي إلى نفس المجموعة، وهي بذلك تشمل أغراض الشعر والنثر البياني والتعبير عن الفكر الراقي عن طريق الفلسفة والعلوم والآداب والنحت والتصوير والفن المعماري والحرف التقليدية والموسيقى التراثية والإبداع بكل أصنافه، وبمعنى أعم، تهتم الثقافة بأنماط الحياة التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان الأعجم(5).
في اللغة الإنكليزية، تعني الثقافة التهذيب والحراثة وتعني أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: حراثة، تعهد، تهذيب، رعاية، و cultural ومعناها ثقافي، مستولد إذ لا يخرج معناها في الإنكليزية عن معناها في العربية غير أن القاموس الإنجليزي يضيف مصداقاً آخر من مصاديقها، وهو حراثة الأرض، ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، لكنه بشكل ما يربط مفهوم الثقافة بالدين والعبادة، فهما من جذر واحد، فالدين كان المنبع الأول إن لم نقل الوحيد للثقافة قديماً. وهو حتى الآن لا يزال المنبع الأساسي والمرتكز الأهم للثقافة.
الثقافة في اللغة الإنجليزية كانت تعني الدين أو الحكمة أو الفلسفة وكان المثقف هو النبي أو الحكيم أو الفيلسوف أو الأديب. وكان السلاطين والملوك يختارون لأبنائهم مؤدبين يعلمونهم مختلف الآداب والفنون والعلوم، وكل ما يحتاجونه ليصبحوا مؤهلين لادارة دفة الحكم.
3/ وليس بعيدا عن القواميس العربية والغربية، نجد تعريفات أخرى للثقافة لدى المثقفين الفاعلين في حقولها المختلفة:
يرى مالك بن نبي أن الثقافة هي (مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه).
ويرى قسطنطين زريق، أن الثقافة هي جماع حياة مجتمع من المجتمعات بدائيا كان أو متقدما، راقيا وفق المعنى الاصطلاحي لعالم اليوم، أو متخلفا حسب مفاهيم العصر الحاضر.
ويرى عبد الرحمن ابن خلدون، أن الثقافة هي العمران، الذي يتناول الحياة الاجتماعية بكاملها، ويضم مختلف إشكالها وألوانها.
ويرى العديد من المفكرين العرب، أن الثقافة هي المخزون الحي في الذاكرة كمركب كلي ونمو تراكمي مكون من محصلة العلوم والمعارف والأفكار والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقوانين والأعراف والتقاليد والمدركات الذهنية والحسية والموروثات التاريخية واللغوية والبيئية التي تصوغ فكر الإنسان وتمنحه الصفات الخلفية والقيم الاجتماعية التي تصوغ سلوكه العملي في الحياة، وأن هذا المخزون الحي قد يتمثل لدى الشعوب على شكل عقيدة حية فعالة محركة لما يصدر عن أفراد الشعب من قول أو عمل، وما ينجزونه على الصعيدين الفكري والعملي الفردي والاجتماعي على السواء من مهام ووظائف.
وفي الغرب لا يختلف الأمر لدى المثقفين القدماء، كما لدى المحدثين، كوينسي رايت: يرى الثقافة هي النمو التراكمي للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب، يعيش في حالة الاتصال المستمر بين أفراده، وينتقل هذا النمو التراكمي إلى الجيل الناشئ عن طريق الآباء وعبر العمليات التربوية.
ومالينوفسكي: يرى الثقافة هي جهاز فعال ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل، يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية.
أما غوستان فون غرونيوم: فيرى الثقافة هي الجهد المبذول لتقديم مجموعة متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجري حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة.
قد تعني هذه التعريفات، أن الثقافة عند العرب وغيرهم من الشعوب، لا تقتصر على جملة من المعرفيات أو المفاهيم التي يتم تداولها، بل هي نمط معين يمس السلوك، وأسلوب يتجسد في مسلكيات معينة وأنماط حياتية، وربما هذا الأمر يجعل الثقافة تتحول تدريجيا وبشكل مضطرد إلى موروث يتخذ صفة القداسة المطلقة في بعض المجتمعات ونظرة فاحصة إلى واقع الثقافات في المجتمعات البشرية نجدها في نهاية الأمر تعكس جملة من التراثيات والموروثات التي تتخذ واقعا يشكل صورته النموذجية في الفهم والسلوك والأحاسيس وطرائق الحياة، ويصبح بالتالي، الأساس الذي من خلاله تحد هذه المجتمعات حدود علاقتها مع الآخر المختلف.
-3-
يعني ذلك أن الثقافة، كانت وستظل المقياس الحضاري الذي تقاس به عظمة الأمم والشعوب، فهي العامل الأساس الذي يساهم في تطوير المجتمعات وتحديثها، وهي النبع الأصيل لتدفق كل قوى فاعلة يملكها المجتمع، ليتحرك ويحقق أهدافه وغاياته. وهي أساس التعايش بين المجتمعات، الموصلة بين أفكار أفرادها ووجدانهم لتحقيق الأمن والسلام والتقدم الحضاري.
الثقافة حسب ما جاءت به القواميس والموسوعات من مفاهيم، تشمل العلم والتربية والآداب والفنون/ تشمل الإبداعات والبحوث العلمية والاختراعات والقيم، لصياغة المجتمع وفق المبادئ التربوية والأخلاقية والتطور العلمي، في بيئة واعية متطورة، لتحفظ لها التوازن بين العلم والتربية/ بين المعرفة والحس الجمالي والسلوك، وفق رغبات الفرد الشرعية وحقوق المجتمع القانونية، لتمكن الجميع من نظرة متوازنة للتقدم والحضارة، حتى تتم الملاءمة بين مصالح الأفراد، ضمن ترقى المجتمعات.
وحيث أن الثقافة في مفهومها الجامع، وفي مدلولها الشامل، هي الوعاء الحضاري الذي يحفظ للأمة هويتها، ويضمن تماسكها، ويكسبها السمات الفكرية المميزة، تتحول إلى ركيزة وجودها، وإلى جماع فكرها وخلاصة إبداعها، تستودع عبقريتها، كمصدر لقوتها ومنبع تميزها بين الأمم.
الثقافة في أحد أهم مساراتها وحراكها المعرفي هي محاولة قائمة على اجتراح سبل الفعل التغييري باستمرار، وقائمة على الاقتحامات الشجاعة والواعية لمربعات الفهم الانغلاقي الوراثي، لأنها في مثل هذه الحالات تكون الثقافة في حراكها التفاعلي عاكسة فعلية للإرادة الحرة المستقلة، وليست عاكسة لمكونات الفعل المفاهيم الوراثية والمعرفيات السائدة، أو بفعل القداسات الدينية التي لا يجب تجاوزها ونقدها والبحث فيها.
هكذا تتحول الثقافة إلى ذاكرة خلاقة مشبعة بالتراكمات المعرفية والتجارب الميدانية والأنماط السلوكية، وبذلك تكون الخلاصة التي يصل إليها العديد من المفكرين القدماء والمحدثين، أن الثقافة نتاج فكر الإنسان في كل المراحل التاريخية، فهي صانعة للحياة، ومانحة حقيقية للواقع المتجدد، وعاكسة فعلية لوعي الإنسان وإدراكه المستقل، وناطقة بالذات الإنسانية المستقلة ومتحركة بإرادته الحرة، وبعيدة عن هيمنة الموروث المجتمعي والديني الجامد، بذلك تصبح الثقافة معنية في الأصل بالنظرة العميقة للحياة وصانعة لها وللوجود الإنساني الفاعل ومتفاعلة مع الواقع في كافة جوانبه، وتكون منتجة لشتى أنواع الفنون الثقافية من أدب وفكر وموسيقى وفلسفة وغيرها من نتاجات الفعل الثقافي الإنساني ذات الثراء والخصوبة المعرفية الخلاقة، وأداتها الحقيقية بما في ذلك طرق التعبير الإنساني الحر والشامل(6) .
-4-
انطلاقا من هذه التعريفات الموسعة والشاملة لمفهوم الثقافة، في الثقافة العربية والغربية ووعيا بوزنها في تحديد مسارات الأمم والشعوب وفعلها فيما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي، كانت الثقافة فيما مضى، وحتى اليوم أكبر موضوع للتخطيط المستقبلي الذي يراعي الأولويات والتوازنات، ويرمي إلى تحقيق أهداف معينة لها علاقة بحفظ النسيج الاجتماعي وضمان حضور وإشعاع هذه الدولة أو تلك على المستوى العالمي، والانفلات من الهيمنة التي تحاول ممارستها الثقافات التي تقف خلفها دول قوية. وهنا تطرح السياسية الثقافية التي تتبناها الدول النامية والصناعية في عالم اليوم، بوصفها نموذجا للتنمية والرقي، إذ تقوم على خطط واستراتيجيات متكاملة متمثلة في تشجيع تطوير صناعة سمعية بصرية خاصة بها، وبناء تكتلات لغوية قوية، والتركيز على الهوية التاريخية/ الثقافية...
لذلك نجد الثقافة في عصرنا الحاضر، عصر التكنولوجيا والحضارة الرقمية قد تحولت إلى فضاء شامل للإبداع والإبتكار، ولتأسيس وعي نقدي تسنده قيم الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان، بل تحولت إلى سلطة رمزية ومعرفية فردية وجمعية متوزعة الروافد في التاريخ والحضارة، واعية بما تعلنه من مواقف بخصوص الدولة والسياسة والمجتمع(7) بل تحولت أكثر من ذلك إلى مساحة واسعة لانتاج الأفكار وترسيخ قيم المواطنة وتجديد أسئلة التعقيل، والإسهام في حل معضلات المجتمع، وخاصة ما يتعلق منها بمرجعيات القيم التي يحتاجها إنسان هذا العصر، وأبرزها الحفاظ على المكتسبات الرمزية لما يشكل هويته (إعادة كتابة تاريخه/ الحفاظ على هويته اللغوية) إن الاستمرار في تشييد قيم وطنية في الدول المتخلفة يساهم في حل معضلة الاجتماعي المختل بسبب تنامي حالات الفقر والأمية والبطالة وتدني مستوى التعليم في مختلف أسلاكه وبرامجه(8)، وهو ما يعني بوضوح، تشجيع المبادرات الثقافية وتعميم منشآت الصناعة الثقافية/ منشآت الطباعة والنشر/ المنشآت السينمائية/ المنشآت التشكيلية والموسيقية والمسرحية) وإعادة هيكلة المكتبات العمومية وقاعات العرض والمتاحف في المدن والقرى ودعم كل ذلك سواء في السياسة الحكومية، أو في مبادرات القطاع الخاص.
الثقافة كما تشمل الكتابة نثرا وشعرا، والموسيقى والرقص والفنون التشكيلية والمسرح والفنون الشعبية/ التقليدية، تشمل التربية ومختلف العلوم الإنسانية والعلوم البحثة، لتصوغ المجتمع وفق المبادئ التربوية والأخلاقية والتطور العلمي في بيئة واعية متطورة، تقوم على التوازن بين العلم والتربية/ بين المعرفة والحس الجمالي والسلوك، وفق رغبات الفرد الشرعية وحقوق المجتمع القانونية، لتمكن الجميع من نظرة متوازنة للتقدم والحضارة، حتى تتم الملاءمة بين مصالح الأفراد والجماعات.
في الثقافة، تعتبر الكتابة والرسم والنحت والموسيقى وغيرها من الفنون، عملية من حيث الشكل احترافية، مثلها مثل الطب والهندسة، والفيزياء والكيمياء... ولكنها من حيث موضوعها/ مواضيعها، هي أكثر الأدوات تعبيرا عن أفكار العصر، في المنعطفات التاريخية الكبرى. المفكر والكاتب والشاعر، والموسيقي والرسام، والنحات والمسرحي، يعالجون قضايا العصر ومشاكل البلاد، ويسهمون في نقل الحالة الاجتماعية من طور إلى آخر، ومن مرحلة إلى مرحلة، من خلال فاعليتهم، وفاعلية انتاجاتهم الإبداعية، وهو ما يجعلهم نخبة قائدة بلا منازع.
في الكثير من الأحيان، تتحول هذه الأصناف الإبداعية على يد نخبتها الثقافية، إلى ضمير جمعي للأمة، بأدواتها وأساليبها، يتم تحليل الأوضاع والأحداث وتقييمها، وبها أيضا تتم قيادة الرأي العام إلى المواقف الصائبة.وقيادة الأمة إلى النهضة والتقدم الحضاري المنشود.
أفلا تدركون..؟
*****
هوامش :
محمد العربي الخطابي/ الثقافة لغة وفكرا وتنظيما الملحق الأسبوعي لجريدة الأنباء 18 فبراير 1985.
2 مجدي وهبة/معجم مصطلحات الأدب القاهرة 1963.
3 الدكتور جميل صليبا/المعجم الفلسفي (طبعة بيروت 1980)
4 معجم لاروس (بارس 1980)
5 المستر روبنسن/ الثقافة والحضارة (الموسوعة البريطانية/ طبعة 1969)
6 - محمود كرم/ الثقافة صانعة الحياة والوعي الإنساني جريدة الحياة اللندنية/ 13 غشت 2006 ص: 17.
7 عبد الفتاح الحجمري/ الفعل الثقافي في مغرب اليوم
8 عبد الفتاح الحجمري/ المرجع السابق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.