تعود الحكومة مرة أخرى إلى منطق الإصلاحات الفوقية في قطاع حيوي وحساس، عبر مشروع قانون التعليم العالي الجديد، الذي يُقدَّم للرأي العام باعتباره مدخلًا للتحديث والجودة والملاءمة مع التحولات العالمية، بينما يخفي في جوهره تراجعًا خطيرًا عن المكتسبات التاريخية للجامعة العمومية، وضربًا لمبدأ الاستقلالية الأكاديمية، وتكريسًا لمنطق السوق بدل منطق المعرفة. إن أول ما يثير القلق في هذا المشروع هو التراجع الواضح عن استقلالية الجامعة، التي تُعد ركيزة أساسية لأي منظومة تعليم عالٍ ديمقراطية. فبدل تعزيز أدوار المجالس الجامعية، وتكريس الحكامة التشاركية، يذهب المشروع في اتجاه مركزة القرار بيد السلطة الوصية، سواء عبر توسيع صلاحيات التعيين، أو التحكم في البرامج والتكوينات، أو فرض توجهات لا تنبع من الحاجيات البيداغوجية والعلمية، بل من اختيارات ظرفية مرتبطة بمنطق التدبير الإداري لا الرؤية الاستراتيجية. أما الأستاذ الجامعي، الذي يشكل العمود الفقري للجامعة، فيظهر في هذا المشروع وكأنه عنصر ثانوي، مجرد منفذ لبرامج جاهزة، فاقد للقدرة على المبادرة والابتكار. فبدل تحفيزه، وتأهيله، وتحسين أوضاعه المادية والمعنوية، يتم تقليص أدواره في التأطير والتكوين والبحث العلمي، مع تغييب صوته من دوائر القرار، وهو ما يشكل مساسًا مباشرا بكرامة الأستاذ وبجودة التكوين في آن واحد. ويبلغ هذا المشروع ذروة خطورته حين يتعامل مع التعليم العالي كسلعة، ومع الطالب ك"زبون"، عبر فتح الباب على مصراعيه لتسليع التكوينات، وربطها بمنطق العرض والطلب، وتشجيع الشراكات غير المتكافئة مع القطاع الخاص، دون أي ضمانات لحماية الجامعة العمومية أو تكافؤ الفرص. إن هذا التوجه لا يخدم لا العدالة الاجتماعية ولا التنمية، بل يعمق الفوارق الطبقية، ويحوّل المعرفة إلى امتياز لمن يستطيع الأداء. إن الحكومة، من خلال هذا المشروع، تواصل نهجها القائم على الهروب إلى الأمام، بدل معالجة الأعطاب الحقيقية للجامعة المغربية: ضعف التمويل العمومي، هشاشة البحث العلمي، الاكتظاظ، غياب آفاق واضحة لخريجي الجامعة، وانفصال السياسات العمومية عن توصيات المؤسسات الدستورية والتقارير الوطنية. إن إصلاح التعليم العالي لا يمكن أن يتم بمنطق الإملاء، ولا عبر قوانين تُفصَّل خارج أسوار الجامعة، بل عبر حوار وطني حقيقي، يشارك فيه الأساتذة والطلبة والنقابات والباحثون، ويؤسس لجامعة ديمقراطية، مستقلة، منفتحة، ومرتبطة فعليًا بمشروع تنموي وطني قائم على العدالة الاجتماعية والكرامة. وإذ نُعبّر عن رفضنا لهذا المشروع بصيغته الحالية، فإننا نؤكد أن الدفاع عن الجامعة العمومية ليس موقفًا فئويا، بل خيار مجتمعي، لأن مستقبل المغرب لا يُبنى بجامعة ضعيفة، ولا بمعرفة مُسَلَّعة، ولا بأستاذ مُهمَّش، بل بإرادة سياسية حقيقية تضع التعليم في صلب أولوياتها، لا في هامش قوانينها (*) عضو اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي الكاتب العام للشبيبة الاتحادية