نعيش زمن "ما بعد السياسي"، بسبب تغييب الخطاب السياسي، بعد أن استسلم الجميع لفكرة عدم وجود بديل للعولمة النيوليبرالية.
مما أدى الى تزايد شعبية الخطاب الشعبوي، وقل تعاطف المواطنين اتجاه المؤسسات الديمقراطية، كما ضعفت نسبة المشاركة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما يمكن أن نسميه ب"لحظة شعبوية". في ظل هذا الوضع، وأنا أتابع الجلسة العامة لتقديم الحصيلة المرحلية للحكومة بمجلس النواب، ليوم 8 أبريل 2024، وفي إطار تعقيب رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، على المعارضة، صرح قائلاً:" أنا لست ليبرالياً، أنا ديموقراطي اجتماعي، وكوني جئت من عالم الاقتصاد فهذا لا يعني بالضرورة أنني ليبرالي".
أثار انتباهي هذا التعقيب، كونه عودة إلى المرجعية السياسية، إذ لا يمكن أن تكون هناك سياسة دون مرجعية سياسية. كما أنه جاء في زمن يُوصف بزمن تراجع المنظور السياسي، وفي زمن "ما بعد السياسي"، هذا الوضع الذي أدى إلى اختفاء الخطاب السياسي. وتم تعويض السياسي بالتقني، وإفراغ مفهوم السياسي وتعويضه بمقولات تقنية واقتصادية وقانونية، أفقدت الخطاب السياسي قيمته. وباتت السياسة ذات طبيعة عملية تقنية وفنية، يتقدم فيها التكنوقراط والتقنيون على السياسيين، مما أنتج وضعاً مواتياً للشعبويين. تعقيب رئيس الحكومة جاء في جملة قصيرة، لكنه بإشارة سياسية انتصر فيها للمنظور السياسي، على حساب اطروحة نهاية السياسة.
أنا لست ليبرالياً، أنا ديموقراطي اجتماعي
قال عزيز أخنوش:" أنا لست ليبرالياً، أنا ديموقراطي اجتماعي، وكوني جئت من عالم الاقتصاد فهذا لا يعني بالضرورة أنني ليبرالي". وهو الأمر الذي قاله من قبل دومينيك ستراوس كان Dominique Strauss-Kahn:" أنا لست ليبرالي، بل ديمقراطي اجتماعي اصلاحي….". ونفس الشيء قاله ليونيل جوسبان Lionel JOSPIN، لما تحدث عن "ديموقراطيتي الاجتماعية" Ma social-démocratie قائلاً: "نحن لسنا ليبراليين يساريين(…).
أما بييرني ساندرز Bernie Sanders، فقد وصف نفسه بأنه " ديمقراطي اجتماعي" ومعجب بجوانب الديمقراطية الاجتماعية كما تمارس في البلدان الاسكندنافية. أما فرانسوا ريفان François Ruffin من اليسار الفرنسي، قال: "أنا ديموقراطي اجتماعي، أنا يساري، وأعتنق كل قيم اليسار. وكثيراً ما كنت أقول للاشتراكيين: إن الديمقراطية الاجتماعية شيء جميل…".
لقد أكد الألماني طوماس مايير أستاذ العلوم السياسية، على أن الديمقراطية الاجتماعية هي نمط تفكير وقناعة تترجم في اختيارات وبرامج حزبية بشكل مختلف، حسب الأولويات وإن كانت المنطلقات الفكرية واحدة. فمفهوم الديمقراطية الاجتماعية ليس نموذجا موحدا، بل هو إطار نظري عام له عدة تطبيقات، الديمقراطيون الاجتماعيون لا يتشابهون، لكن جميعهم لديهم حساسية مفرطة من كلمة الليبرالية، ويرفضون بشدة تشبيههم بالليبراليين. إن المبدأ التوجيهي الذي يلهمهم جميعاً، هو أن المجتمع يجب أن يجمع بين التضامن الاجتماعي واقتصاد نشط يتسم بالديناميكية، مع إيجاد التوازن الصحيح بين الطاقة وقوة السوق من جهة، والقيم الاجتماعية والمدنية من جهة أخرى. إنه مشروع جميع الديمقراطيين الاجتماعيين، بالحاضر والماضي على السواء. والطموح هو خلق مجتمع يجمع بين الديناميكية الاقتصادية والتضامن الاجتماعي.
فما هي الديمقراطية الاجتماعية؟
لا وجود لإجابة توافقية عن هذا السؤال، فلا يوجد تعريف متجانس ومتفق عليه تماماً، فكل واحد يعرفه انطلاقاً من موقعه، من داخل التيار الذي ينتمي إليه. إن الديمقراطية الاجتماعية متعددة المعاني، ومن الواضح أن هناك خلافات حول تحديد تعريف موحد للديموقراطية الاجتماعية، ولكن التعاريف الأولية التي يتفق عليها الجميع، كافية لفهم الديموقراطية الاجتماعية. ليست كل التعريفات دقيقة بما فيه الكفاية. ولكن التعريف الأكثر شيوعاً هو: الديموقراطية الاجتماعية هي نظام سياسي يمكن من خلاله تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في إطار اقتصاد السوق. أما السياسي الفرنسي "جاك دولور" Jacques DELORS، حدد الديمقراطية الاجتماعية على أنها هي من جهة تحالف بين الدولة والسوق، ومن جهة أخرى بين أرباب العمل والنقابات العمالية.
في حين اعتبرها "أنطوني جيدنز" Anthony GIDDENS، إطارا مرجعيا للتفكير وصناعة السياسات، التي تهدف إلى ملاءمة بنية الاقتصاد مع عالم تعرض لتغيرات جذرية، خلال العقود الأخيرة.
الديمقراطية الاجتماعية هي فكرة ولدت من الحاجة إلى التحديث. اذ يؤمن الديمقراطيون الاجتماعيون في القرن الحادي والعشرين، بالعدالة الاجتماعية، والتضامن، وتكافؤ الفرص، بنفس القوة التي كان يؤمن بها الديمقراطيون الاجتماعيون قبل مائة عام.
تتميز الديمقراطية الاجتماعية بتدخل الدولة في إطار اقتصاد السوق الاجتماعي؛ اقتصاد سوق معدل ومُرشد يوفر الحد الأدنى من تكافؤ الفرص. وبالتالي وضعه في خدمة الإنسان والقيم الإنسانية الرافضة لتعميق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب في مقتل مبدأ المساواة المواطنية والعدالة الاجتماعية. مع عدم القبول ب"مجتمع السوق"، لأنه إذا كان السوق ينتج الثروة، فإنه لا ينتج في حد ذاته تضامنا أو قيما أو مشاريع أو معنى. ولأن المجتمع لا يمكن اختزاله في تبادل السلع، فلا يمكن للسوق أن يكون المحرك الوحيد له.
ولذلك صارت الديموقراطية الاجتماعية تمثل التوازن العريض بين اقتصاد السوق من جهة وتدخل الدولة من جهة أخرى، اذ تعترف الديمقراطية الاجتماعية بحق الدولة في المحافظة على التوازنات العامة وتقنينها لتوفير الحاجيات الأساسية للإنسان. خلق جو اجتماعي متوازن مبني على التضامن والتكامل والعدالة الاجتماعية.
ماذا يعني أن تكون ديموقراطياً اجتماعياً؟
أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، جعل المجتمع ديمقراطيًا واجتماعيًا أكثر مما هو عليه. أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، التأكيد على أن هناك أولوية للسياسة على الاقتصاد. أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، إعطاء الأولوية للمشاريع التنموية ذات المضمون الإنساني. أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، بناء مجتمع متضامن، على اعتبار أن التضامن أهم أعمدة الديمقراطية الاجتماعية. أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، اعتماد سياسة اجتماعية ببُعد شمولي تقوم على استعادة الدولة لدورها المحوري في كل المجالات الاجتماعية. أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، أن الدولة بمؤسساتها هي المنوط بها تحقيق التوازن والعدالة وتصويب الاختلالات ومنع التغول. أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا يعني، بناء منظومة قادرة على الإدماج الفعال لثلاثة عناصر أبانت عن جدارتها بشكل متفرق، وهي اقتصاد السوق بما يعنيه من ضمان حرية المبادرة؛ حضور الدولة القوي كمؤطر ومنظم ومُقَونن لجميع مجالات التفاعل داخل المجتمع على أرضية قواعد ديمقراطية يتعاقد عليها كل مجتمع حسب خصوصياته؛ ثم منظومة اجتماعية تراعي العدالة الاجتماعية ومصلحة الفرد والجماعة في نفس الآن في إطار من التوازن يضمن العدالة في اقتسام الثروة.
على سبيل الختم
دافع رئيس الحكومة عزيز أخنوش، عن الديموقراطية الاجتماعية ووضع لها ترجمة في برنامجه الحكومي اذ أكد على أن السياسة الاجتماعية للحكومة تقوم على المساهمة في تدعيم ركائز الدولة الاجتماعية قصد ضمان تكافؤ فرص حقيقي لجميع المواطنات والمواطنين وتثمين الرأسمال البشري. والديمقراطية الاجتماعية مدخل أساسي لبناء الدولة الاجتماعية. كما طرح عزيز أخنوش، هوية ومرجعية حزبه الفكرية وخطه الأيديولوجي المتمثل في الديموقراطية الاجتماعية، والقائم على منطلقات وأسس فكرية، تبناها الحزب منذ انعقاد مؤتمره الثاني في أبريل 1983. وخلال نفس المؤتمر تقدم الحزب بأطروحة الاقتصاد الاجتماعي.
خلاصة القول، علينا أن نستعيد الإحساس بالفكر كمؤسسة، ولابد من ضرورة عودة السياسة إلى السياسة، وتبني خطاب سياسي واضح وصريح، والعودة الى المرجعيات، إذ لا يمكن أن تكون هناك سياسة دون مرجعية سياسية.