"أنا لست ليبرالياً، أنا ديموقراطي اجتماعي"، هكذا صرّح رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش في تعقيبه أمام مجلس النواب في أبريل 2024. قولة مكثفة لكنها محمّلة بالدلالات السياسية والفكرية، لأنها تضع الفعل الحكومي في أفق مرجعية محددة، وتنقل النقاش من مستوى تدبير تقني–اقتصادي إلى مستوى فلسفي–سياسي، حيث تصبح المرجعية الفكرية أساساً للفعل العمومي ومصدراً لمشروعيته.
هذا التصريح، في جوهره، يعيد طرح سؤال المرجعية السياسية للأحزاب والدول: هل يمكن اليوم اعتبار الديمقراطية الاجتماعية خياراً مؤطراً للسياسات العمومية بالمغرب؟ وكيف يُترجم هذا الخيار في مشروع الدولة الاجتماعية؟
أولاً: التأصيل الفلسفي للديمقراطية الاجتماعية
ليست الديمقراطية الاجتماعية مجرد "تسوية وسطية" بين الليبرالية والاشتراكية، بل هي نسق فكري–سياسي يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الحرية والمساواة والتضامن.
عند جون رولز، العدالة هي المبدأ الناظم للمؤسسات، إذ يجب أن تُوزّع الخيرات بطريقة منصفة، ويُمنح الامتياز فقط إذا عاد بالنفع على الأضعف.
أما أنطوني جيدنز، فيراها إطاراً مرجعياً لإعادة التفكير في السياسات العمومية لمواجهة تحولات العولمة من دون التضحية بالقيم الاجتماعية.
في حين يحددها جاك دولور باعتبارها تحالفاً اجتماعياً–اقتصادياً بين الدولة والسوق، وبين النقابات وأرباب العمل.
وباللغة السوسيولوجية–الفلسفية ل بيير روزانفالون، فإن الديمقراطية الاجتماعية هي بحث دائم عن شرعية جديدة قوامها الإنصاف، الاعتراف، والقرب من المجتمع. إنها إذن ليست مجرد نموذج اقتصادي، بل مشروع قيمي يروم إعادة تأسيس العقد الاجتماعي على أسس العدالة الاجتماعية، بما يجعلها أفقًا فلسفيًا للسياسة أكثر من كونها مجرد تقنية للتدبير.
ثانياً: القيم المؤسسة للديمقراطية الاجتماعية
الحرية: ليست حرية السوق وحدها، بل حرية المواطنة بما تشمل من حقوق مدنية وسياسية. العدالة: باعتبارها "الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية" وفق رولز. التضامن: كأفق أخلاقي يحمي المجتمع من التفكك، على نحو ما صاغه إميل دوركايم في مفهوم "التضامن العضوي".
ثالثاً: الدولة الاجتماعية بوصفها الترجمة المؤسسية
لا تبقى الديمقراطية الاجتماعية نظرية مجرّدة إذا لم تُترجم إلى مؤسسات. هنا تظهر الدولة الاجتماعية باعتبارها – وفق توماس همفري مارشال – الضامن لحقوق المواطنة الاجتماعية، إلى جانب الحقوق المدنية والسياسية. الدولة الاجتماعية ليست مجرد جهاز إداري لتوزيع الدعم، بل هي تعبير عن إرادة سياسية–مجتمعية تهدف إلى ضمان التعليم والصحة والسكن والعمل كحقوق أساسية، لا كهبات ظرفية.
لقد وُلدت الديمقراطية الاجتماعية من رحم أزمة كبرى: إذ أثبتت التجربة التاريخية أن الليبرالية المطلقة والاشتراكية الدولتية معًا عجزتا عن تحقيق العدالة الاجتماعية. هذا الفشل المزدوج فتح المجال أمام تغوّل النيوليبرالية، التي أعادت إنتاج منطق السوق كمرجعية وحيدة، ما أدى إلى تعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية وإضعاف الروابط التضامنية. من هنا، برزت الديمقراطية الاجتماعية كمشروع فلسفي–سياسي يسعى إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي، بعيدًا عن هيمنة السوق المطلقة أو شمولية الدولة، وفي مواجهة منطق "نهاية البدائل" الذي تحدث عنه فرانسيس فوكوياما.
خامساً: المغرب والديمقراطية الاجتماعية بين النظرية والممارسة
التجربة المغربية الراهنة تكشف أن الديمقراطية الاجتماعية لم تعد مجرد شعار، بل أضحت إطاراً مرجعياً يوجّه السياسات العمومية. فمنذ 2021، أعلنت الحكومة الانتقال من منطق "البرامج الجزئية" إلى مأسسة السياسة الاجتماعية وفق منظور الاستدامة. شواهد إمبيريقية: في التعليم: إطلاق دعم مباشر استفاد منه 3,2 مليون تلميذ، وتوسيع شبكة "مدارس الريادة" إلى 4,600 مؤسسة. في الصحة: رفع عدد طلبة كليات الطب، مع العمل على تنزيل برنامج "طبيب الأسرة". في الحماية الاجتماعية: تعميم السجل الاجتماعي الموحد، مع قبول أكثر من 98% من الطلبات. في التشغيل: برنامج "فرصة" لدعم الشباب المقاول. في الفلاحة والعالم القروي: إطلاق برامج الدعم المباشر للفلاحين الصغار والمتوسطين لمواجهة آثار الجفاف، مع استثمارات في الماء والطرق والخدمات لتقليص الفوارق المجالية. في إدارة الأزمات: شكّل زلزال الحوز (2023) لحظة فارقة جسّدت الدولة الاجتماعية في بعدها التضامني، من خلال برامج إعادة الإعمار، وتعويض الأسر المتضررة، وتوفير السكن، بما يعكس العدالة التضامنية في أقصى صورها.
هذه الشواهد لا تُقرأ كإنجازات تقنية فحسب، بل كدلائل إمبيريقية على أن الدولة الاجتماعية في المغرب ليست مجرد فكرة، بل ممارسة سياسية قيد التشكل.
سادساً: قراءة فلسفية–سوسيولوجية
من منظور علم الاجتماع السياسي، يمكن القول إن المغرب يعيش اليوم لحظة إعادة بناء "العقد الاجتماعي"، حيث يسعى الفاعل السياسي إلى استعادة ثقة المواطن عبر سياسات ملموسة. لكن التحدي البنيوي يظل في ضمان استدامة هذه السياسات مالياً ومؤسساتياً، حتى لا تتحول إلى مجرد دعاية انتخابية.
وهنا يطرح سؤال فلسفي عميق نفسه: هل تستطيع الدولة أن تحافظ في آن واحد على دينامية السوق وعلى العدالة الاجتماعية؟ أم أن هذا التوتر سيظل قائمًا باعتباره أحد أعطاب الحداثة السياسية؟
خاتمة
الديمقراطية الاجتماعية ليست شعارًا سياسيًا عابرًا، بل مشروع فلسفي–سوسيولوجي يعكس التقاء الحرية بالعدالة بالتضامن. والتجربة المغربية، كما تكشفها السياسات الحكومية الأخيرة، تقدم نموذجا في طور التشكل: من تعميم الحماية الاجتماعية إلى إصلاح التعليم والصحة، ومن دعم الفلاحين والعالم القروي إلى إدارة الأزمات بروح تضامنية.
لكن نجاح هذا المسار مرهون بقدرته على التحول إلى ثقافة مؤسساتية راسخة، تجعل من الدولة الاجتماعية خيارًا استراتيجيًا دائمًا، لا مجرد استجابة ظرفية أو خطاب سياسي مناسباتي.