في كل لقاء مع الدكتور علي بن فطيس المري، تشعر بأنك تكتشف طبقة جديدة من إنسانٍ مُحمَّل بالتجارب والمعرفة والقلق النبيل على أمةٍ ما زالت تتعثّر في الطريق. أربع محطات جمعتني به: أولها كان في مكتبه بجامعة لوسيل؛ هدوء المكاتب لا يخفي عاصفة الأفكار التي تدور في رأسه.
والثانية في بيته بمزرعته القريبة من قاعدة العديد؛ هناك في حضن الطبيعة بدا أكثر تحرّراً ودفئاً، وكأنّ المسافة عن صخب المدينة تمنحه قدرة أكبر على التأمل.
والثالثة في جنيف؛ حيث تتقاطع السياسة الدولية مع القضايا العربية في رأسه بمهارة حقوقي خَبِر المنابر.
أما الرابعة فعادت بنا إلى مكتبه في الدوحة، لنستأنف حواراً لا تنقصه الحيوية ولا الدهشة.
كانت أحاديثنا تمتد من الفكر إلى السياسة، ومن الأدب إلى التاريخ، ومن الثقافة إلى تفاصيل الناس في مدنٍ أحبها وعاشها بقلبه قبل أن يراها بعينيه. لمست فيه وهج العارفين بأسرار الجغرافيا العربية: يخبرك عن الرباط وكأنه عاش في حي العكاري سنوات، يعدّد لك جامعاتها ومثقفيها وشوارعها الحيوية. يتحدث عن تونس كما لو كان ابن جامع الزيتونة، وعن القيروان بقداسة العارف بتراثها العريق. حتى سيدي بوزيد — تلك الأرض التي فجّرت الربيع العربي— لا تغيب عن ذاكرته وإن غابت عن كثيرين.
ولم يكن انشغاله بقضايا الحكم والسياسة من موقع المراقب أو المنظّر، بل من قلب التجربة ومسؤوليتها. لقد أسرّ لي الدكتور المري — بتواضع الواثق — أن أمير دولة قطر شرّفه بتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء. كانت الجملة عابرة في نبرة قائلها، لكنها ثقيلة في رمزيتها: نحن أمام رجلٍ لم تغادره روح الدولة حتى وهو يغادر المناصب، ولم تُغره السلطة عن حمل همّ الأمة حين كان في قلبها.
أكثر ما شدّني في لقائنا الأخير كان ذلك الهمُّ الذي يسكنه، قال وهو ينظر بعيداً: "لقد تحوّل نظام الحكم إلى أصل البلاء في عالمنا، بل في دنيانا هذه إن شئت. هو لبّ الصراعات والحروب، ومربط الفوضى وأسباب خراب الفكر والسياسة." كان يتحدث بوجع، وكأن الليالي تسهر فيه أكثر مما يسهر فيها. تيقنت حينها أن القلق على الأمة لم يعد ترفاً فكرياً لديه، بل امتحاناً يومياً لنومه وراحته.
وحين انتقل إلى نقد أطروحات المفكر وائل حلاق عن "الدولة المستحيلة" في الإسلام، ارتفعت نبرة المفكّر والحقوقي معاً. كان مستغرباً من الاحتفاء بتلك الأطروحات في بلاد الحرمين: "كيف نكرّم فكراً يقول باستحالة الدولة في الإسلام؟ كيف نحتفي بمن يضرب أساساً عميقاً في ديننا؟" تساؤلات تخرج من قلبٍ يعرف أن ضرب الفكرة هو أول الطريق إلى ضرب الأمة.
ثم فجأة حملنا إلى الأندلس، إلى عبد الرحمن الداخل، إلى زمن كان فيه الحلم العربي قابلاً للتحقق وإن بعدت الدروب. تحدث عن الداخل باعتباره نموذجاً للرجل الذي يصنع الدولة بفكره وإيمانه، لا برخاوة السياسة أو تفاهة السجالات. كان يستعيد الأندلس كرواية ألمٍ؛ وطنٌ ضاع على وقع خلافات الداخل وانعدام رؤية سياسية جامعة. "سقطت حين صار السلطان غايةً لا وسيلة، وحين أصبح الحكم صراع أشخاص لا مشروع حضارة."
صمَتَ قليلاً، شعرتُ بأن الأندلس ليست تاريخاً لديه، بل مرآة يضعها أمام واقعنا العربي الممزق: دول تنغلق على نفسها، حكومات تعيد تدوير إخفاقاتها، شعوب تئن من الحروب والانقسامات، وأحلام تُدفن قبل أن ترى النور.
في الدكتور علي المري ترى مسؤولاً سابقاً ورجل دولة، وحقوقياً دولياً، وأكاديمياً متفرغاً للعلم، لكنك ترى قبل ذلك إنساناً يعتقد أن للأمة حقاً في غدٍ أفضل. حديثه ليس تنظيراً مجانياً، بل مشروع وعيٍ يبحث عن من يصغي إليه. يذكّرك بما ينبغي ألّا ننساه: أن الدولة — حين تفقد رسالتها وتتحوّل إلى مجرد سلطة — تقتل المجتمع والفكر، وتصبح وهماً يُحارب الناس من أجله وهم لا يملكون منه شيئاً.
خرجت من لقائنا الأخير وأنا أحمل شيئاً من قلقه. ربما لأن ما يقوله لا يترك لك فرصة الاحتماء بوهم التفاؤل الساذج. لكنه في الوقت نفسه لا يتركك دون أمل: إن امتلكنا الرؤية والمشروع، فقد نستعيد ما ضاع يوماً، وإن غاب عبد الرحمن الداخل قروناً، فليس مستحيلاً أن يولد أمثاله من جديد.
ذلك هو الدكتور علي بن فطيس المري: رجلٌ يرى المستقبل بعيني التاريخ، ويحرس الأمل بقلق العارف بأن طريق النهضة يبدأ من سؤال الحكم، ومن الإيمان بأن الأمة تستحق أكثر مما تعيشه اليوم.