طنجة.. سيارة تدهس "مقدّم" بعدما دفعه متشرد نحو الطريق    توقيع اتفاقية شراكة بين بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية لتعزيز الشمول المالي في القطاع الفلاحي المغربي    صواريخ إيران تُشرد 2000 عائلة إسرائيلية    كأس العالم للأندية.. الوداد الرياضي ينهزم أمام مانشستر سيتي    بونو يهدي الهلال تعادلا ثمينا أمام ريال مدريد    غامبيا تشيد بمصداقية الحكم الذاتي ودينامية التنمية بالصحراء    إطلاق الهوية الجديدة ل "سهام بنك" خلفًا ل "الشركة العامة المغربية للأبناك"    اتحاد تواركة إلى نهائي كأس التميز    تعاونيات إفريقية تستفيد من المغرب    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    نشرة إنذارية: طقس حار وزخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة بعدد من المناطق    كومنولث دومينيكا تجدد تأكيد دعمها لمخطط الحكم الذاتي المغربي في الصحراء    الأمم المتحدة/الصحراء.. سيراليون تجدد تأكيد دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية    بونو ينقذ الهلال من مقصلة الريال    المغرب أولًا .. ومن يرفع "راية إيران" يسقط في امتحان الوطنية    المغرب يستعد لإحصاء وطني جديد للماشية ويعد بشفافية دعم الكسابة    الأزهر يثمن "الكد والسعاية" المغربي    احتجاج جديد أمام البرلمان.. خريجو الجامعات يصعّدون ضد شروط الإقصاء في مباريات التعليم    بونو يحبط ريال مدريد ويمنح الهلال تعادلا ثمينا في كأس العالم للأندية    انتخاب المغرب نائبا لرئيس المجلس العلمي لاتفاقية اليونيسكو حول حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه    لقجع: المغرب ملتزم بجعل مونديال 2030 نموذجا للاندماج والاستدامة البيئية    بنعلي وقيوح يبحثان فرص تعزيز الربط القاري وتطوير الصناعات المرتبطة بالطاقات المتجددة والنقل البحري    نشرة إنذارية.. طقس حار وزخات رعدية مصحوبة ببرد وهبات رياح    فطيمة بن عزة: برامج السياحة تقصي الجهة الشرقية وتكرس معضلة البطالة    الأحمر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    مباحثات رئيس مجلس النواب و"سيماك"    معرض باريس الجوي.. مزور: 150 شركة طيران تتوفر على وحدة إنتاج واحدة على الأقل بالمغرب    تفكيك شبكة دولية لتهريب السيارات المسروقة نحو المغرب عبر ميناء طنجة المتوسط    ثلاثة مغاربة ضمن قائمة أغلى عشرة لاعبين عرب بمونديال الأندية    مونديال الأندية.. الوداد يكشف عن التشكيلة الرسمية لمواجهة مانشستر سيتي    السيّد يُهندس مسلسل شارع الأعشى في كتاب    السعودية تُعلن فتح باب التقديم لتأشيرات العمرة لموسم 2025 بشروط جديدة وتسهيلات موسعة    إيران: سيطرنا على أجواء الأرض المحتلة اليوم وبداية نهاية أسطورة الدفاع للجيش الصهيوني    النقابة الوطنية لموظفي التعليم العالي تفقد الثقة في إصلاح النظام الأساسي    أفلام قصيرة تتبارى على ثلاث جوائز بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    الدرك الملكي يحجز 8 أطنان من الشيرا    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    خامنئي: إيران "لن تستسلم أبدا" للضغوط    فجيج بين ازيزا النادرة والتربية العزيزة.. حكاية واحة لا تموت    دورة تكوينية وورشات فنية لفائدة الأطفال والشباب بالمركز الثقافي لمدينة طانطان    مسرح رياض السلطان يحتضن أمسيات شعرية موسيقية من الضفتين وقراءة ممسرحة لرواية طنجيرينا وأغاني عربية بإيقاعات الفلامينغو والجاز والروك    التصعيد الاسرائيلي – الإيراني.. تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار ودعم جهود السلام في المنطقة    جلالة الملك يهنئ رئيس السيشل بمناسبة العيد الوطني لبلاده    لقجع: الدعم الاجتماعي المباشر حلقة جديدة ضمن المبادرات الملكية الهادفة إلى صون كرامة المواطن    أردوغان: "نتنياهو تجاوز هتلر في جرائم الإبادة"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    "واتساب" ينفي نقل بيانات مستخدمين إلى إسرائيل    تأجيل محاكمة محمد بودريقة إلى الأسبوع المقبل بطلب نافيا "أكل الشيك"    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الخبز الحافي إلى زمن الاخطار
نشر في البوصلة يوم 24 - 08 - 2010

لا يمكن الحديث عن الأدب العربي المعاصر ، وفن الرواية بالذات ، دون أن نشير إلى المكانة الخاصة التي يحتتها الكاتب المغربي "محمد شكري " .
فهو واحد من الكتاب العرب القلائل الذين لاقوا قبولا وترحيبا من القراء الأسبان (أبناء لغته الأصلية) منذ أواخر الستينات .
وقد ترجمت روايته "الخبز الحافي " الى الأسبانية ، وكانت لا تزال ممنوعة في أغلب البلاد العربية ، وقد ذهل جمهور القراء الأسبان من أسلوب شكري المتميز ، المتحرر من أي أقنعة جمالية أو أخلاقية يختبىء وراءها الكاتب في العادة ، إما بسبب الخوف أو الحياء .
فلم يخجل شكري وهو يكشف عما لاقاه من مهانة لانسانيته في مراحل حياته المختلفة ، كطفل وصبي وشاب.
هذه المهانة التي هي نتيجة إهمال حكومات ومؤسسات سياسية واجتماعية كان "محمد شكري " واعيا بضرورة الكشف عن المآسي الانسانية التي تسببها .
إنها الحقيقة مسا كانت مرة .
ومرة كانت روايته الأولى "الخبز الحافي " التي حازت الإعجاب لأن كاتبها لم يحتجب وراء أقنعة أو كذب ، فهو كاتب مبدع بأسلوبه الروائي السلس الذي عبر فيه وحكى عن حياته وحياة أسرته والمواطنين المغاربة (والأسبان ) في شمال المغرب ، وشمال الجزائر ، فقد عاش "شكري " ، والأصح أن نقول . " تشرد" في "تطوان " ، و "طنجة " ، و"سبتة" و "مليلة" و " العرايش " ، و " وجدة " و " وهران " (في الجزائر) .
كتبت روايته "الخبز الحافي " في أواخر الستينات ، أفا زمن الأخطاء الذي يعتبر الجزء الثاني المكمل لهذه السيرة الذاتية الروائية ، فقد صدر في المغرب في أواخر الثمانينات ، ولم يقابل بالرفض من الرقابة ، ربما لانه لم يكتب بنفس "االصلف والفجاجة " ، كما الخبز الحافي ، وربما لأن " شكري " قد صار اسما معروفا في الدوائر الأدبية العربية والعالمية ، وربما لأن الرقابة في المغرب صارت أكثر مرونة لا تبالي بالكتابة عن شريحة المشردين في المجتمع طالما أنه لا يوجد هجوم مباشر عل المؤسسات الرسمية .
"زمن الأخطاء" سيرة ذاتية ، تذكر للماضي يرتكز على "الراوية - الكاتب ا، حين كان في العشرين من عمره وقد قرر أن يتعلم الكتابة والقراءة ، وهذا الشخص - الكاتب - لا يملك من متاع الدنيا سوى إرادة قوية يحاول الإعتماد عليها للخروج من إسار الفقر الذي عاش في ظله طوال حياته السابقة .
يأخذنا "اشكري " بخطى بطيئة الى شبابه ، ثم يعود الى صباه ، ليعود مرة أخرى الى شبابه ، يحكي تفاصيل طويلة مؤلمة عن لمجاته بين الفقر واليؤس ، الوساخة والحشرات ، بين الألم والمرض (أقل الأمراض هنا هو السل ) حتى وباء البرص ، مرورا بالجنون والأمراض التناسلية التي أصابته ، فهو يحدثنا باستمرإر عن علاقاته بالبغايا اللواتي يمارسن "مهنتهن " دون أية رعاية طبية .
فهن يعشن ، مثلهن مثل الرجال الذين تترددون عليهن ، حياة بؤس وقذارة ، ببعن أجسادهن مقابل نقود قليلة لهؤلاء الذين ليس لديهم الكثير .
يحكي "شكري " عن صباه وعن كرهه لأبيه ، هذا الأب الشاذ في عنفه الذي كان يمارسه ضد "شكري " وضد بقية أبنائه وزوجته .يتذكر "شكري " باستمرار عودة أبيه ، ثملا ، الى الكوخ الذي كانت الأسرة تعيش فيه بعد أن يكون قد فقد كل نقوده التي كسبها في القمار ، فقد كان مدمنا لا يعرف كيف يتوقف عن اتلعب ، وحين يكون ثملا فإنه يخسر كل شيء .
يعود الأب ثملا صائحا يوزع الشتائم في كل اتجاه ، فتستيقظ الزوجة صامتة لا تستطيع الرد عليه ، خوفا من الضرب والتعذيب الذي كانت آثاره تظهر على وجهها وجسدها .
وكره الأب لإبنه هنا أشبه باللعنة الاغريقية المستمرة ، فهو يكره ابنه ليس فقط في مرحلة صباه ، بل وحتى بعد أن استقل عنه وأصبح رجلا متعلما يعمل مدرسا في مدرسة حكومية ، فلا يفتأ الاب يلاحقه بالسخرية أمام أصدقائه وزملائه إن التقاه بينهم في حانة أو حتى في الطريق ، مرددا أمامهم أنه ابن عاجز لا يستطيع عمل شيء أو فهم لثيء ، وكأنه لا يريد أن يعترف بهذا الأبن الذي تغلب على البؤس وخرج من سطوته .
وعلى عكس مشاعر الأب ، كانت الأم التي تحس بالفخر بهذا الابن ، بل إنها تحس تجاهه بحب وعطف خاص ، ربما لانه كان الوحيد الذي شاركها آيام البؤس والذي كان يكلمها بلهجتها البدوية ، وليس باللهجة المغربية التي لا تحسن فهمها كما كان باقي أولادها يكلمونها ويعتبرونها جاهلة لا تفهم .
يحكي "شكري " أنه لم يعرف بالضبط عدد إخوته أو عدد الأطفال الذين ولدتهم أمه ، فقد كان منهم من يموت قبل الولادة أو بعدها مباشرة ، وعندما غادر كوخ الأسرة لم يكن يعرف عدد إخوته ، حتى هذه الأم التي توفيت عام 1984 هي نفسها لم تكن تعرف عدد الأطفال الذين وضعتهم .
ويكبر الصبي "شكري " دون أن يعرف القراءة أو الكتابة ، لكنه يسيطر على لغتين : العربية الدارجة والأسبانية التي تعتمها في شوارع وحانات "سبتة" و " طنجة" عندما كان يلتقي بعشرات الأسبان ، الذين هربوا من أسبانيا بعد انتصار جيش "فرانكو" على الجيش الجمهوري .
كانت هناك مظاهر عديدة أسبانية الطابع : أسماء المطاعم وأماكن اللهو ، والمقاهي مثل "كافي سنترال " ، "كافيه دي لابلاتا" ، وهناك كان شكري الشاب يستمع الى الموسيقى الأسبانية وموسيقى أمريكا اللاتينية ، الى موسيقى أسماء كبيرة في هذه الفترة مثل "لوتشو جاتيكا" أو "نات كين كول " ، "انطونيو ماتشين " ، حيث تعلم "شكري " الأسبانية في الشوارع من المتشردين والهاربين من انتقام فرانكو ، لا لسبب إلا لأنهم كانوا يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها الجمهوريون .
ويعشق " شكري " مصارعة الثيران ، ومن خلال الملصقات على جدران المقاهي ، يكتشف الأسماء الكبيرة من أبطال هذا الفن ، وهو يحدثنا عن "تشيكويلو" وعن " الأخوة برالتا " وعن "الجايو" وهؤلاء جميعا معروفون عندنا نحن الأسبان - كمصارعين مشهورين هربت صورهم في حقائب الهاربين الى المغرب في هذه " الرحلة ".
إن رحلة الخلاص هذه لتذكرنا برحلة قديمة جرت في القرون اوسطى ، عندما طرد العرب من أسبانيا وذهبوا الى شمال أفريقيا بحثا عن الخلاص وهربا من انتقام ملوك أسبانيا الكاثولوكية ، ولكن في الرحلة الأخيرة ، لم يكن الهاربون عربا أو يهودا ، بل كانوا من الأسبان . فالحاكم الجديد ، "فرانكو" ، فرض نفسه كمخلص لأسبانيا من الشيوعيين والماسونيين والملاحدة ، كما كان يدعي ، وهي الصفات التي كان يطلقها على كل من يخالفه الرأي .
في سيرته نراه يحب الشراب :"الخيريت الأبيض " وهو نوع محبوب في جنوب أسبانيا ، كما نراه يتغزل بالنساء السمراوات ذوات العيون السود ،أما حبه للقراءة فقد وصل به الى حد "إلتهام " الكتب من كل نوع : عربية ، أسبانية ، أوروبية مترجمة : قرأ "رافييل ألبرتي " و "ماتشادو" و "بيثنتة الكسندرا" "جبران " و " شوقي " و "االمنفلوطي " ، وإذ تصادفه صعوبات في فهم بعض النصوص العربية ، فانه يجد العون من خلال صداقته لشاب ضرير يساعده على فهم المعاني وصحة نطق الكلمات .
ويحكي عن أول لقاء مع الكاتب المغربي "محمد صباغ " الذي شخعه على الاستمرار في الكتابة والقراءة . وهكذا جاء اليوم الذي رأى فيه "شكري " واحدة من قصصه القصيرة منشورة في جريدة "العلم " ومن يومها وهو يحاول أن يبدو "محترما" ولا يرتاد الأماكن المشبوهة .
إن "شكري " الذي عاش حياة قاسية ومعذبة لم يفقد حسه الانساني وتعاطفه مع كل هذا الجيش من المشردين واللصوص والضائعات مثل تعاطفه مع هذا النموذج الانساني الذي يقدمه بحبه وعطف شديدين ، وبتمثل في "حبيبة" ابنة التاجر الغني التي فرض أبوها عليها الزواج وهي في السابعة عشرة من عمرها ،
من رجل عجوز لم يلبث أن طلقها بحجة أنها لا تنجب ، ثم يكون زواجها الثاني من شاب في مثل سنها ، تنجب منه أربعة أولاد ، لكن زوجها الثاني أيضا يسيء معاملتها فيتم الطلاق ، الأمر الذي دفعها الى الجنون ، ويدخلها أهلها مستشفى الأمراض العقلية ، ويزورها " شكري " ويلاحظ أنهم لا يقدمون لها علاجا ، وانما مجرد أقراص مهدئة ومنومة ، وكأنه ، في تلك الأيام ، يرى ما سوف يحدث له شخصيا في المستقبل ، إذا دخل مستشفى للأمراض العقلية في " تطوان " ، وبعد أن خرجت حبيبته من المستشفى ، واستقرت في زواجها الثالث ، تموت وهي حامل في شهرها السادس بوباء الطاعون .
يعود " شكري " دائما الى فترة صباه ، ومنها يلتقط لحظة مأساوية لا ينساها هي لحظة موت أخيه الصغير "عبدالقادر" أثر فعل إجرامي عنيف قام به الأب .
كان "عبدالقادر" مريضا ، ولذلك فانه كان يبكي طوال الليل ، ولم يكن الآب الثمل العائد من الحانة يتحمل هذا البكاء ، فانقض على الطفل وكسر رقبته بيديه ، كما يتذكر أيضا آباه في واحدة من نوبات غضبه وعنفه حين فرب زوجته "أم شكري " بقدر فيه عسل يغلي وكانت تعد الحلوى لبيعها في السوق .
هذا الأب كان يقاتل مع " الجنرال فرانكو" ، وعندما عاد الى المغرب كان يجلس مع رفاقه من المرتزقة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الأسبانية من نفس الموقع ، وكانوا يتحدثون عن ذكريات " شجاعتهم " و " مجدهم " و " بطولا تهم " في هذه الحرب ، مع أن معظمهم لم يكنوا يمارسون هذه الشجاعة الا ضد الضعفاء أمثال " شكري " وأمه واخوته .
في "زمن الأخطاء " وتحت عنوان "روساريو" يحكي "شكري " عن " فرانكو" وتصرفاته القاسية ، لا فقط مع من يعتبرهم أعداءه ، بل ومن هم في زمرة الأصدقاء ، و "شكري " يقدم الدكتاتور الأسباني عبر وجهتي نظر السيدة
"روساريو" وهي من محافظة "أستورياس" في شمال "أسبانيا" ، و ا"فرهين بريتو" المنحدر من نفس محافظة " فرانكو" والذي يتذكر اللحظات الصعبة بعد الحرب الأهلية عندما حكم على "أسبانيا" بالعزلة من قبل أوروبا ، و "فرمين " هذا يتكلم باحترام عن "بيرون " د كتاتور " الأرجنتين " والصديق الوحيد " لفرانكو" الى جانب " سالازار" دكتاتور البرتغال .
ويحكي "شكري " على لسان افرمين " أيضا عن زيارة "بيرون " الى "أسبانيا" في زيارة رسمية تصحبه زوجته الشهيرة "إيفا" التي سحرت الأسبان ، وحتى "فرانكو" الذي لم يكن يهتم بأي إمرأة ، و "شكري " يقدم لنا هذه الأجواء التاريخية
وهذه الشخصيات التى تعكس عبق التاريخ .
ويتذكر "شكري " أيضا دخول "أسبانيا" حلف شمال الاطلنطي عام 1955 بعد السماح بإقامة قواعد عسكرية أمريكية في انحاء مختلفة من أسبانيا ، كما يتذكر الأخبار الهامة التي كانت تنشر في الصحف والمجلات الأسبانية عن بطولة "فرانكو" في صيد السمك والخنزير البري وصوره التي كانت تنشرها الصحف وتحت أقدامه خنزير برقي ضخم .
هكذا يتذكر "شكري " من خلال شخصية "بريتو" الفاشستي هذه الصورة ، لكنه أيضا يقدم صورة أسبانيا الأخرى: صورة المنفيين الأسبان . ويتكلم عن " بيكا سو" ، واغتيال " لوركا " ، و" ميجل إرناندت " الذي مات في سجنه ، وتذكر قصيدته المشهورة "امرق البصل " وفيها يتحدث عن جوع طفله وينصح امرأته أن تعطي للطفل مرق البصل .
شكري إذن لا يعرف تاريخ "اسبانيا" السياسي فقط ، بل وتاريخها الاجتماعي ، فهو يتكلم من خلال شخصيات أسبانية أخرى عن موت "اخوسوليتو" و "مانوليتي " وهما من أشهر مصارعي الثيران الذين ماتوا داخل حلبة المصارعة .
كل هذه الشخصيات تمتزج يحياة "شكري " كمدرس في مدينة "تطوان " وهو يقيم في فندق "ريال " وصاحبة الفندق أسبانية أخرى إسمها "خوسوفينا "، ومن " تطوا ن " يرجع " شكري " الى " طنجة " المدينة التي عاش فيها وهو صبي وشاب ، وهو يقارن بين صورة "طنجة القديمة و"طنجة" الحديثة . إنه يبكي عل الأطلال ، فقد اختفت كل بيوت البغاء ، كما اختفى كل من عرفهم من قبل ، ويجد إحدى من أحبهن "من المشردات " حتا عذريا وقد عملت راقصة في ناد ليلي .
ويحلل "شكري " مصير أولئك النسوة المشردات حين يفقدن الجمال والشباب ، كما يفقدن الأسنان والشعر ويعملن كخادمات في المراحيض ، بينما الفرصة سانحة أمام من يتمتعن بالجمال والشباب للسفر الى أوروبا ، كما يرقب حياة فريق آخر من بنات الهوى اللواتي يعشن على الطبقة الجديدة ، فهن أكثر تحررا في الملابس والسلوك ، وعلى درجة من اليسر المادي ويترددن على الفنادق و"الكازينوهات " الفخمة التي ظهرت حديثا.
ومن تجربته في المصحة النفسية يكتب شكري عما يدور في هذه المستشفيات من مآس ، ويصف عراك الممرضات فيما بينهن أمام عيون المرضى المندهشة ، وحين يخرج من المستشفى بعد أربعة أشهر ، ويعود للحياة ، يجد الماضي وقد تلاشى شيئا فشيئا ليسمح للحافر ان يحتل مكانه . ونجدنا أمام "شكري " وهو كهل في الخمسين من العمر ، هارب من الحب والعاطفة ، يعتبر الحب أو الشغف سببا لكل المصائب في حياة الانسان ، ولكنه لا يزال يشتاق للجنس اللطيف ، ومن هذا الجنس اللطيف يختار ذلك النوع البعيد عن الأنثوية الصارخة ، وظل حب "شكري " لثلاثة أشياء : الكتب ، والجنس اللطيف ، والشراب . لكنه يجد في الكتاب صديقه الدائم ، وهو يكتب ويكتب كثيرا في اي مكان يتواجد فيه ، في البارات ، أو المطاعم ، أو المقاهي ، مكانه الدائم وينقل على قصاصات من الورق تلك الجمل التي تعجبه من "بودلير" و "رامبو" وعظماء الأدباء الذين أحبهم .
وتحت عنوان "موت الأم " الجزء الأخير من الكتاب يقطع "شكري " الرباط الحميم مع الماضي ، فهو يرجع الى "سبتة" بعد غياب عشر سنوات ، لحضور زفاف اخته حيث تفوض التقاليد على شقيق العروس ان يحملها الى بيت زوجها .
وفي فجر أحد الأيام ، يستيقظ "اشكري " عل دق عنيف على الباب ليجد زوج أخته يزف له خبر وفاة أمه بعد نزيف استمر عدة أسابيع ، ويعرف "اشكري " أن امه كانت تلح في طلب رؤيته لكن الرسالة لم تصل اليه الا بعد موتها .
وها هو الآن في طريقه الى "سبته " يستعيد الماضي : يتذكر أمه وهي تغني له الأغاني البدوية ، وفي نفس الوقت يسمع صوت صهره يحدثه عن المقبرة التي اشتروها في " سبتة" ، ويتذكر أخاه "عبدالقادر" المدفون في مقابر "سبته " تحت تلال الرمال في بقعة صارت مجهولة لا يعرف مكانها بالضبط .
ويحضة "اشكري " طقوس دفن أمه ، ويحكي بمرارة وألم كيف ان الحفارين أخرجوا الجثمان عدة مرات لان الحفرة لم تكن تتسع به . وكأن التراب يرفض استقبال أمه كما رفضتها الحياة . بعد الدفن يعود الجميع للبيت ، ويجلسون أمام مائدة الطعام حيث ياكلون بشراهة ، وبصورة استفزازية يتكلمون عن الميراث ، ويتشاجرون حول بيع بيت العائلة الذي قرروا التخلص منه على الرغم من أن الأم كانت تصير على الاحتفاظ به مهما كانت الظروف .
ويحس "شكري " بالقرف أمام طمع أفراد الأسرة ، فيهرب من "سبتة" الى ليل "طنجة" ، وفي اليوم التالي يستيقظ وهو لا يستطيع تذكر كيف وصل الى بيته . لقد نام مغيبا واستيقظ ليجد فردة حذائه مليئة بالبول ، والأخرى بالشراب .
انه ليمكننا القول أن كتاب "زمن الأخطاء" هو تصوير لرحلة الحياة ورحلة الموت ، مثل كل كتب "شكري " ، ولكننا نجده وعلى الرغم من قسوة الحياة التي عاشها الا أنه دائما يظل عاشقا للحياة ، مقبلا عليها ، لا أهمية للموت بالنسبة له رغم حتميته .
ان عشق الحياة مزروع في روح "اشكري "، وهو يبدو واحدا من زمرة الفنانين والكتاب الذين كانوا دائمي البحث عن جوهر الحياة ، مهما قادهم هذا البحث الى العزلة او الجنون .
إن أسلوب "شكري " واضح وبسيط : أسلوب رجل لا يخاف الكلمات ولا يخجل منها ، إن عواطفه تبدو جلية بلا مجاملات ، ان الكتابة عنده فعل عضوي كما ينبغي ان تكون الكتابة الحسية ، ومن خلالها يمارس "نميمة"جارحة ضد نفسه وضد الآخرين .
ورغم الفرق الزمني بين "الخبز الحافي " و ا،زمن الأخطاء" (ثلاثون عاماتقريبا) فإن "شكري " يحتفظ بنفس الأسلوب بما فيه من شجاعة وإلهام وابدا ع .
والفرق بين "زمن الآخطاء" و الكتاب السابق له أن "االخبز الحافي " لا يقدم " شكري " الا في مرحلة صباه ، بينما في "زمن الأخطاء" يحتل شبابه مكانة أكبر ، عندما كان مدرسا يعيش في أوساط بنات الليل ، لكننا نجد اهتمامات اخرى وقد طغت على هذه الحياة ، كالقراءة والشراب ، وتبدأ الصداقة والزمالة تزحف لتحتل مكان الجنس ، كما لو أنه لا يستطيع إقامة علاقة كاملة مع الجنس الآخر ، ويبدو أنه بدأ يعي حجم القمع الذي يراه واقعا على البشر ، ولم يستطع هو الآخر مارسة هذا القمع على البغايا .
إن "شكري " كانسان وروائي يحتل مكانة متميزة على خريطة الكتابة العربية ، وميزة شكري هي الشجاعة ، شجاعة الكشف والفضح .
لوث جاريثا كاستنيو
Nizwa N .1


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.