أجبرت على بتر قدميها وهي لم تتجاوز سنتها الرابعة

تمر بعدد من الأسر المغربية بالمدن ، كما بالقرى، محطات للأحزان هي عبارة عن مواقف مأساوية و«نوائب» لايمكن أن تنسى أو تمحى آثارها بسهولة، قد لا تقف عند حدود ذرف الدمع أسى وحزنا فقط، بل إن منهم من يذرف دمعا قد لايجف، لتفاصيلها التي تظل قاتمة وترخي بظلالها على مستقبلهم/حاضرهم، سيما عندما يستحضرون أنه كان من الممكن إنقاذهم والتدخل لحفظ أرواحهم أو سلامتهم البدنية، لو توفر الحد الأدنى من الشروط /الوسائل التي تحترم آدميتهم.
حكاية قد تكون قاسما مشتركا للعديد من الأسر خاصة بالبوادي/المداشر، يقف المرء ليعاين أن الحياة/الروح قد تكون حقا بخسة الثمن، وآدمية البعض قد لايصبح لها أدنى معنى/قيمة، كيف لا وهناك نساء لايجدن وسيلة لوضع مواليدهن أثناء حملهن في ظروف عصيبة، وأطفال ورضع ومعهم شيوخ واللائحة طويلة لضحايا الإهمال و «قلة» الصحة، المفروض أن تعمل الجهات المعنية على توفير آلياتها، والتي أمام ضعفها بمناطق وانعدامها بمناطق أخرى، تكون النتيجة فراق سلوى للحياة في ربيعها الخامس، وفقدان دنيا لقدميها في ربيعها الرابع، حادثان/امتحانان، يبينان بجلاء واقع طفولة البوادي التي يوجد بين كف عفريت!
ما بين سنة 2002 و 2010 عاشت أسرة محمد تيغرمت من مواليد سنة 1974 بايت منصور فطواكة بدمنات عمالة أزيلال، «نكبتين» متتاليتين كان لهما بالغ الأثر في نفس الأب والأم وباقي أفراد الأسرة وسكان الدوار عموما، فالمصاب جلل مس الأسرة بشكل مباشر عندما طال فلذات أكباد الأبوين، بسبب الخصاص/الشح في البنيات الصحية/الطبية، وغياب تدخل في الوقت المناسب كان من الممكن أن يساهم في الحفاظ على روح سلوى وقدمي دنيا ؟
يتذكر محمد جيدا تفاصيل تلك الليلة السوداء ذات يوم من سنة 2002، عندما كانت إبنته سلوى التي لم تتجاوز الخمس سنوات ، تلهو وتمرح مع إخوتها، في جو من البراءة والبساطة التي تنهل من حياتهم القروية التي بالكاد يحضر فيها الحد الأدنى من ظروف العيش، عندما مرت بجانب إبريق موضوع فوق «المجمر» في انتظار إعداد الشاي، عندما تعثرت وسقطت عليه لينسكب الماء الساخن على سائر رجلها لتصاب بحروق خطيرة، وظلت تعاني الليل بأكمله، تصرخ وتئن ألما، في انتظار بزوغ الفجر وطلوع الشمس ليتم نقلها نحو أقرب مستوصف بجماعة سيدي يعقوب على بعد 8 كيلومترات، على «متن» دابة/بغل، وعندما وصلت إليه في تلك الوضعية لم تحظ سوى ببعض «الفاصمة»، ووصفة طبية لاقتناء الدواء، حيث فارقت الحياة في الغد متأثرة بحروقها وغادرت الدنيا وهي تئن مخلفة وراءها الألم لحرقة فراقها.
دنيا .. المأساة الثانية
بعد قرابة ثماني سنوات ستجد أسرة تيغرمت نفسها مع معاناة أخرى/جديدة بتفاصيل مؤلمة ستترتب عنها عاهة مستديمة لطفلتها دنيا التي لم تتجاوز بعد الأربع سنوات من عمرها، فالطفلة التي كانت تلهو وتمرح يوما إلى جانب والدتها التي كانت منهمكة في التصبين في فترة الظهيرة، أحست في لحظة من اللحظات بالتعب وبالألم يلم بقدميها، فاشتكت لأمها التي وجدت حرارتها مرتفعة بعض الشيء، فحملتها إلى داخل البيت/الكوخ لترتاح معتمدة على الماء المستخرج من البئر، وتركتها بعد ذلك، ثم عادت في المساء لتوقظها كي تتناول كسرة خبز وكأس شاي في العشاء، إلا أن علامات التعب والإرهاق ظلت تلازمها فتركتها على أمل أن ترتاح وتتحسن!
تحسن لم يبد له أي أثر في صباح اليوم الموالي، خاصة وأن قدمي دنيا شرعتا في التورم وبدت عليهما علامات الانتفاخ، فلم يكن من الأم سوى أن التجأت إلى استعمال البخور وبعض الأعشاب التقليدية أملا في أن تخفف من ألم طفلتها وأن يكون لها الأثر والمفعول الإيجابي وأن تعمل على التخلص من التورم. ظلت على هذه الحال لمدة أسبوع، وأمام عدم تحسن حالة دنيا التي أصيبت قدماها بالزرقة المقرونة بالانتفاخ، وفي اليوم العاشر، نقلها والدها إلى المستوصف وأشير عليه بنقلها إلى المستشفى الكبير بدمنات، فكان جواب الأطباء بالنسبة إليه صادما ولم يقو على تقبله للكيفية التي تم إبلاغه به إليه، والمتمثل في ضرورة إجراء عملية جراحية لبتر القدمين!
الصدمة .. وآثارها
لم يستطع والد دنيا ولا والدتها استيعاب ما يقع، فهما لم يهضما بعد أمر فراق سلوى ليستفيقا على هول/وقع جواب الأطباء الذي يخبرهما بأن طفلتهما ستعيش ما تبقى من عمرها معاقة دون قدمين، ولن يمكنها الجري، اللعب واللهو كما في السابق، ولا حتى المشي، فكيف يمكن لها ذلك في بيئة/وسط قروي مليء بالإكراهات والعوائق؟
مكثت دنيا على نفس الحال أسبوعا آخر دون أن يقدر الوالدان على اتخاذ قرار سيما بالنظر إلى تعاليق المعارف والجيران التي كانت تثنيهما عن الاستماع لما قيل لهما أو الرمي بطفلتهما نحو المجهول، إلى أن توصل والدها بمكالمة من أحد معارفه تحثه على نقلها إلى الدارالبيضاء صوب مستشفى ابن رشد، للتأكد من الوضع الحقيقي لحالتها واتخاذ التدابير الضرورية.
امتثل الوالدان للأمر وحملا ابنتهما نحو العاصمة الاقتصادية وعرضاها على أطباء مستشفى ابن رشد للأطفال بمصلحة جراحة العظام، الذين لم يذخروا جهدا وأخضعوا الطفلة للتحاليل والكشوفات وصور الأشعة، أملا في تجنيبها أمر بتر قدميها اللتين استحالت زرقتهما إلى سواد ، إلا أن الحل كان واحدا وهو بتر القدمين تجنبا لاحتمالات أسوأ، رغم عدم التوصل إلى السبب في المشكل ونوع المرض الذي أصاب دنيا، فكل التحاليل والصور أكدت بأن الوضع طبيعي وبأنها لاتعاني مرضا!؟
في ضيافة «دنيا»
لم تكتف «الاتحاد الاشتراكي» بسرد الخبر/الواقعة عندما بلغ إلى علمها الأمر، بل انتقلت زوال يوم الجمعة الأخير إلى مستشفى ابن رشد للأطفال، وولجت مصلحة جراحة العظام والمفاصل، حيث وجدت دنيا ترقد في سريرها والضمادات تلف قدميها، زيارة لم يكن مرتبا لها ،بل كانت مفاجئة، شرعنا نبحث في غرف الجناح إلى أن اهتدينا إلى الطفلة وأفراد من أسرتها يتحلقون حولها إلى جانب ممرضات أبين إلا أن يطمئن عليها، وهو ما أكد عليه والدها فيما بعد عندما تجاذبنا معه أطراف الحديث حيث أشاد بالرعاية والعناية التي يمنحها جميع من بالقسم لدنيا، التي تحظى باهتمام الأطباء والممرضين والإداريين على حد سواء، مضيفا بأن الأطباء لم يقرروا في أمر مغادرتها المستشفى إلى أن تلتئم مواضع العملية الجراحية التي نتج عنها بتر القدم اليمنى ونصف القدم اليسرى.
تطلع إلينا جميع من تواجد بالغرفة ونحن نسأل عن دنيا قبل أن نفصح عن هويتنا، فانفرجت أسارير أفراد الأسرة الحاضرين، منوهين بما نشرته الجريدة عن حالة طفلتهم، التي خاطبها الأب ببعض كلمات بالأمازيغية، لتبتسم بدورها بكل براءة وهي التي كانت تنظر إلينا بدورها بفضول وتساؤل، فاقتربنا منها لتعمل على تقبيلنا بكل براءة، غير مستحضرة لعمق المعاناة التي باتت عليها والتي ستصاحبها في قادم أيامها.
إعاقة دائمة
ليس الفقر والعوز أو هشاشة وضع أسرة دنيا، وحدها التي ترخي بظلالها على تفكير الأب فحسب، بل ينضاف إليها أمر دنيا الطفلة الصغيرة التي يتعين على هذا الأب العاطل عن العمل أن يعمل على توفير حاجياتها مما يعد بالنسبة له جهدا مضاعفا يعجز عن تحقيقه، فالأب الذي يعيل رشيدة ( 12 سنة ) شرف ( 9 سنوات ) كوثر ( سنة ونصف )، إضافة إلى دنيا، والذي أثقلت كاهله النوائب وأعباء الحياة اليومية، يجد نفسه اليوم مهزوزا/مهزوما ومستسلما لقضاء الله وقدره، ونظراته تتجه صوب طفلته التي لن تستطيع «العكاكيز» ولا الكراسي المتحركة تمكينها من التنقل والحركة، بالنظر إلى صعوبة/ وعورة تضاريس القرية التي تنتشر بها النتوءات الحجرية مما سيجعل أمر الحركة ينطوي على مخاطر أكثر، وهو لذلك يتوجه بندائه إلى المحسنين وذوي الأريحية للمساهمة في التخفيف من حدة معاناة طفلته.
البادية .. المعاناة ..
قرابة 100 أسرة بايت منصور ليست بمنأى عن تكرار وقائع حادثة دنيا وقبلها سلوى، ومعها أكثر من 8 دواوير تحيط بالمنطقة التي توجد بها مدرسة ابتدائية هي الأخرى تسجل بشأنها العديد من الملاحظات والتي يتعين على التلاميذ من أجل متابعة دراستهم الإعدادية قطع 8 كيلومترات يوميا ذهابا و8 إيابا صوب جماعة سيدي يعقوب، ونفس الأمر بالنسبة للمستوصف الصحي المتواضع، في غياب أية متابعة/مراقبة صحية بالدوار وباقي الدواوير التي من شأنها اكتشاف الحالات المرضية في حينها والقيام بتدخل عاجل ومناسب حفاظا على أرواح الأهالي أكانوا أطفالا أو كبارا، رجالا ونساء، هاته الفئة الأخيرة التي تعاني عند فترة الحمل لأجل الوضع إن لم تكن الولادة طبيعية أو عند استعصائها، إذ يتعين نقل النساء صوب المستوصف، وهو الأمر الذي يبقى رهين توفر سيارة الإسعاف وجاهزيتها وعدم إصابتها بأي عطب، وإلا فالبغال هي من تنوب عنها وتقوم مقامها، معاناة تطال كذلك الأطفال والمواليد الجدد من أجل الاستفادة من التلقيح، في وقت تعاني الأمهات من غياب أية مراقبة وتوعية من أجل تنظيم النسل واللائي يجدن أنفسهن حوامل مرة أخرى في ظرف وجيز، رغم ما للأمر من مضاعفات سلبية على صحتهن!
هي بعض من صور/أوجه معاناة مجموعة من سكان البوادي والمداشر، بالجبال كما بالسهوب، بمختلف مناطق المغرب، الخلل واحد وإن تعددت تجلياته وأوصافه، فقر، عوز، هشاشة وخصاص في البنيات التحتية، في التعليم، الماء الشروب، الكهربة والصحة ...