أخنوش: حصيلة الحكومة مشرفة والتعديل الحكومي تؤطره قواعد الدستور    الأمير مولاي رشيد يترأس مأدبة عشاء أقامها صاحب الجلالة على شرف المشاركين بمعرض الفلاحة    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    عدد العمال المغاربة يتصاعد في إسبانيا    قفروها الكابرانات على لالجيري: القضية ما فيهاش غير 3 لزيرو.. خطية قاصحة كتسناهم بسبب ماتش بركان والمنتخبات والأندية الجزائرية مهددة ما تلعبش عامين    تحت اشراف الجامعة الملكية المغربية للملاكمة عصبة جهة سوس ماسة للملاكمة تنظم بطولة الفئات السنية    شاهد كيف عرض فيفا خريطة المغرب بمتحفه في زوريخ    وزير دفاع إسرائيل: ما غنوقفوش القتال حتى نرجعو المحتجزين لعند حماس    الدكتور عبدالله بوصوف: قميص بركان وحدود " المغرب الحقة "    القبض على مطلوب في بلجيكا أثناء محاولته الفرار إلى المغرب عبر إسبانيا    هل دقت طبول الحرب الشاملة بين الجزائر والمغرب؟    أخنوش: الحكومة تقوم بإصلاح تدريجي ولن يتم إلغاء صندوق المقاصة    طنجة تحتضن ندوة حول إزالة الكربون من التدفقات اللوجستية بين المغرب و أوروبا    أخنوش: تماسك الحكومة وجديتها مكننا من تنزيل الأوراش الاجتماعية الكبرى وبلوغ حصيلة مشرفة    تسليط الضوء بالدار البيضاء على مكانة الأطفال المتخلى عنهم والأيتام    البيرو..مشاركة مغربية في "معرض السفارات" بليما لإبراز الإشعاع الثقافي للمملكة    نهضة بركان تطرح تذاكر "كأس الكاف"    مؤتمر دولي بفاس يوصي بتشجيع الأبحاث المتعلقة بترجمة اللغات المحلية    أخنوش: لا وجود لإلغاء صندوق المقاصة .. والحكومة تنفذ عملية إصلاح تدريجية    الخريطة على القميص تثير سعار الجزائر من جديد    أخنوش: نشتغل على 4 ملفات كبرى ونعمل على تحسين دخل المواطنين بالقطاعين العام والخاص    أخنوش يربط الزيادة في ثمن "البوطا" ب"نجاح نظام الدعم المباشر"    المغرب يستنكر بشدة اقتحام متطرفين المسجد الأقصى    الأمير مولاي رشيد يترأس مأدبة ملكية على شرف المشاركين بمعرض الفلاحة    3 سنوات سجنا لشقيق مسؤول بتنغير في قضية استغلال النفوذ للحصول على صفقات    رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي    ''اتصالات المغرب''.. النتيجة الصافية المعدلة لحصة المجموعة وصلات 1,52 مليار درهم فالفصل اللول من 2024    نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    الأمثال العامية بتطوان... (582)    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوسائل البديلة لحل المنازعات في ضوء مشروع إصلاح منظومة العدالة

قرر المشرع المغربي، منذ أمد بعيد، أن يقدم للمقاولات المغربية والأجنبية حلا بديلا لمعالجة الخلافات، يجنبها الدخول في المساطر القضائية، ويمكنها من الاستفادة من مزايا الحلول البديلة، من حيث المرونة واحترام الخصوصية، وخصوصا الكلفة المنخفضة وسرعة الوصول إلى حل النزاع والحفاظ على العلاقات بين الأطراف..
لقد شهد المغرب نقاشا حقيقيا حول إصلاح منظومة العدالة من خلال فتح حوار حقيقي بين مختلف الفاعلين والمهتمين لتحديد الصيغ والمداخل الأساسية للإصلاح، انتهى بإقرار ميثاق لإصلاح منظومة العدالة، وهو معروض حاليا على الحكومة للمصادقة عليه لتتم إحالته على البرلمان لمناقشته.
والغاية من هذا الاصلاح -كما جاء في الخطاب الملكي بالدار البيضاء بتاريخ 08/05/2012- هي تحقيق العدل الذي هو قوام دولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون وتحفيز الاستثمار والتنمية. وقد أولى ميثاق إصلاح منظومة العدالة اهتماما بالغا لكل المهن القانونية والقضائية التي تجسد مدخلا أساسيا لنجاح الإصلاح وفق المقاربة الشاملة والعميقة، وتأتي في مقدمة هذا الاهتمام إعادة النظر في منظومة الوسائل البديلة لحل النزاعات كآلية ناجعة وفعالة لتأمين مناخ الأعمال وتعزيز الثقة وجذب الاستثمارات الأجنبية.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن تدبير النزاعات داخل المقاولة يمثل رهانا استراتيجيا يستحيل إهماله، وإلى أن تواجد تلك النزاعات يضعف من بنيتها كما يؤثر على علاقاتها التجارية؛ لذلك فقد قرر المشرع المغربي، منذ أمد بعيد، أن يقدم للمقاولات المغربية والأجنبية حلا بديلا لمعالجة الخلافات، يجنبها الدخول في المساطر القضائية، ويمكنها من الاستفادة من مزايا الحلول البديلة، من حيث المرونة واحترام الخصوصية، وخصوصا الكلفة المنخفضة وسرعة الوصول إلى حل النزاع والحفاظ على العلاقات بين الأطراف. بيد أنه رغم هذا الاهتمام، فالملاحظ أن منظومة الوسائل البديلة لم تكن تستجيب لمتطلبات الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال؛ لذلك كان من الواجب اتخاذ إجراءات مهمة لتعزيز ونشر ثقافة الوسائل البديلة كي تصبح كجزء من العرف التجاري، مع إعطائها مكانة مهمة ضمن مجال العدالة، حيث أصبحت الوسائل البديلة ضرورة وطنية في خدمة الاقتصاد والاستثمار ولا يتقدم الاستثمار إلا على أرض التحكيم والوساطة وغيرهما من الوسائل البديلة لحل النزاعات، باعتبارها وسيلة ناجعة وفعالة تضمن حسم تلك المنازعات بعدالة سريعة ومتوازنة ونافذة وتضمن أيضا تحقيق الضمانات الكافية للمستثمر الأجنبي وتشجيع التبادل التجاري وفتح آفاق أوسع وأرحب لتداول وانتقال رؤوس الأموال في مجالات الاستثمار والتنمية مع الحفاظ على استقرار العلاقات التجارية.
وإذا كانت الدولة قد اهتمت بمجال إصلاح منظومة العدالة وإيجاد منظومة قضائية مستقلة قادرة على تأمين وتحسين المناخ القانوني للأعمال، كما خصت الوسائل البديلة باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مسلسل إصلاح منظومة العدالة، باهتمام من حيث التنظيم حيث تطرق إليها مشروع إصلاح منظومة العدالة من خلال تأكيده على أهمية "العمل على تشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات وتيسير السبل المحفزة على ذلك"(ص 51 من الميثاق)، فإنه في خضم هذا الاهتمام، سنحاول إبراز التصور الذي أولاه الميثاق لإصلاح منظومة الوسائل البديلة، مع تحديد الأسس والمداخل الأساسية لهذا الإصلاح في ضوء مشروع إصلاح منظومة العدالة، في أفق تحديد الأهداف الاستراتيجية الكبرى لإصلاح منظومة الوسائل البديلة ومدى تجاوبها مع انتظارات المقاولات من خلال خلق مناخ محفز على الاستثمار واستقرار المعاملات التجارية، وهو ما سيتم التطرق إليه تباعا بعد الجواب عن سؤال: لماذا اللجوء إلى الوسائل البديلة، وماهي الأسباب الداعية إلى اعتمادها في النظام القانوني المغربي؟
كتب gaertnE sod ed arimerP/////// يقول "العدالة في أزمة"، ولقد أوضح ثلاثة أسباب لهذه الأزمة تمثلت في:
1- قرارات المحكمة أصبحت لا تتسم بجودة كمال الوصول إلى الحقيقة، وهو ما يشكل ظاهرة عالمية في الأنظمة القضائية في معظم دول العالم.
2- بعد الوقت وطول أمد التقاضي.
3- البعد الاقتصادي وتكاليف التقاضي.
وتأسيسا على هذا التشخيص لأزمة العدالة، يلاحظ أن جميع الأنظمة القضائية في العالم أصبحت تعاني من مشكل كثرة القضايا الرائجة أمام المحاكم، وتراكم الملفات بسبب تعدد الإجراءات، وتعقد المساطر، والبطء في البت في النزاعات، والتأخير في إصدار الأحكام، وقصور النصوص التشريعية عن الاستجابة للحاجيات والمتطلبات بسبب التغيير المستمر والمتسارع الذي تعرفه الأوضاع التجارية والاقتصادية والاجتماعية والذي فرضته سياسة العولمة والانفتاح الاقتصادي على العالم الخارجي، من أجل تشجيع الاستثمار الوطني الأجنبي، والتبادل الحر، مما خلق نوعا من التذمر في نفوس المتقاضين وأدى إلى نوع من عدم اطمئنانهم لسير الإجراءات المسطرية، ودفع المهتمين بإصلاح الأنظمة القضائية إلى التفكير في إحداث وسائل بديلة للبت في النزاع، بمساهمة الأطراف المتنازعة في البحث عن الحلول التوفيقية والملائمة لإنهاء الخلاف بشكل رضائي في أقرب وقت وبأقل تكلفة مع الحفاظ على العلاقات بين الأطراف، فكيف تتعامل الجهات المسؤولة مع منظومة الوسائل البديلة لحل المنازعات في ضوء مشروع إصلاح منظومة العدالة؟
لقد ارتكز ميثاق إصلاح منظومة العدالة على مجموعة من المداخل والمحاور الأساسية والرئيسية للإصلاح، كما وضع مجموعة من الأهداف الاستراتيجية في هذا الإصلاح.
وفي هذا الاطار، فقد أوصت الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة على تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، ومن هذه الأهداف تشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات (ص 84 من ميثاق إصلاح منظومة العدالة)، كما تبنت الهيئة العليا أيضا مجموعة من الآليات الإجرائية لتطوير الوسائل البديلة لحل المنازعات (ص 154 من الميثاق وما يليها) من خلال:
- تشجيع اللجوء إلى الوساطة والصلح والتحكيم لحل المنازعات من خلال وضع مقتضيات قانونية كفيلة بتشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات، وتنظيم ندوات للتكوين في مجالات الوسائل البديلة لحل المنازعات، مع عقد لقاءات ومنتديات لتحسيس الفاعلين الاقتصاديين بأهمية اعتماد بدائل لفض المنازعات. وفضلا عن ذلك، وضع دراسة ميدانية لتقييم مدى اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات لاسيما من قبل المقاولات، ودعم مراكز الوساطة والتحكيم.
- تطوير نظام الوساطة كحل بديل لفض المنازعات، لاسيما الوساطة التجارية، مع جعلها إلزامية في بعض القضايا، وتعزيز دور القضاء بشأن تشجيع اللجوء إلى الوساطة، ومن بين الإجراءات التي سطرتها الهيئة العليا للحوار الوطني ضرورة مراجعة قانون المسطرة المدنية بشأن أحكام الوساطة الاتفاقية؛ وذلك بما يفرض إلزامية الوساطة قبل عرض النزاع على القضاء، بخصوص بعض القضايا واعتبارها مرحلة اختيارية يقترحها القاضي على الأطراف كلما ظهر له أن النزاع المعروض عليه قابل لأن يكون محل وساطة.
- مأسسة الوساطة الأسرية بقضاء الأسرة؛ وذلك عن طريق تفعيل آليات الصلح والوساطة الأسرية في المنازعات المرتبطة بالأسرة، مع توفير الفضاءات اللازمة لإجراء الصلح والوساطة بأقسام الأسرة، بالإضافة إلى تكوين القضاة وأطر المساعدة الاجتماعية بأقسام قضاء الأسرة في مجال مهارات الصلح.
- إقرار بدائل للدعوى العمومية خارج القضاء الزجري كالصلح والوساطة بشأن بعض الجرائم عن طريق تعديل قانون المسطرة الجنائية.
ومن خلال استقراء التصورات التي تبنتها الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، في الشق المتعلق بمنظومة الوسائل البديلة لحل المنازعات، يمكن القول إن هذه التوصيات تجسد نوعا من المقاربة الملائمة لتطوير الآليات البديلة كفضاء رحب لحل الخلافات يوازي انتظارات المقاولات المغربية والأجنبية، غير أن فعالية هذه المبادئ تطرح بعض الإشكاليات على مستوى التنزيل الفعلي لها، لاسيما وأن إدخال الوسائل البديلة لحل المنازعات في النظام القانوني المغربي يقتضي إعادة تنظيمها بكيفية مستقلة عن قانون المسطرة المدنية في إطار مدونة خاصة تجمع بين قواعد الموضوع وقواعد الشكل والإجراءات، وأن يتم تنظيمها وفقا لطبيعة أنواع النزاعات بصيغة يتم من خلالها التمييز بين المنازعات الداخلية وبين المنازعات التي تندرج في إطار التجارة الدولية. وفضلا عن ذلك، ومع ترك الإمكانية للأطراف في اللجوء إلى التحكيم الخاص والتحكيم الحر، يتعين على المشرع ومختلف الفاعلين العمل أيضا على تشجيع التحكيم المؤسسي باعتباره الآلية الأمثل لتسوية منازعات التجارة الدولية؛ ذلك أن تحكيم المنظمات والهيئات المتخصصة، وما تشتمل عليه هذه الهيئات من تقنيات وإمكانيات، يجعلها مؤهلة أكثر من غيرها لتكوين المحكمين والوسطاء الذين بإمكانهم مسايرة تعقيدات ومشاكل التجارة الدولية.
وفي هذا الإطار، يجب الإشارة إلى أن دور مراكز التحكيم الموجودة يبقى محل نقاش، إذ أن لوائحها ليست في مستوى اللوائح النموذجية العالمية التي تلبي رغبات كل الدول على اختلاف انتمائها ومستواها، كما أن جل قوانين مراكز التوفيق والتحكيم بالمغرب تبقى مجرد حبر على ورق ولا تؤدي الدور المنوط بها لأسباب موضوعية وذاتية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن أزمة مراكز التحكيم بالمغرب ليست أزمة نص تشريعي وحسب، ولكنها أزمة ثقافة تحكيمية أيضا لدى المؤسسات التجارية وباقي الآليات الفاعلة في الميدان التحكيمي، بل هناك أزمة ثقة في المؤسسات التحكيمية الوطنية، وما يدل على ذلك هو العدد الهزيل للقضايا التحكيمية التي عرضت على هذه المراكز منذ نشأتها، كما أنه من المؤسف جدا أن المغرب، وبالرغم من قربه من أوربا وتشابك علاقاته الاقتصادية والتجارية معها، وانفتاحه المبكر على الاقتصاد والتجارة الدولية وانضمامه إلى شركات للتعاون مع معظم بلدان العالم، يتوفر على هذا العدد الضعيف والمحدود من المؤسسات التحكيمية؛ لذلك يتعين لتطوير منظومة الوسائل البديلة كخيار استراتيجي في إطار منظومة العدالة أن يتم العمل على نشر ثقافة التحكيم من خلال عقد ندوات ومؤتمرات دراسية وعلمية يشارك فيها مختلف المتدخلين في الحياة التجارية والاقتصادية، مع إدماجها في البرامج الدراسية في كليات الحقوق ومراكز تكوين القضاة والمحامين والموثقين وغيرهم من المهنيين، وإصدار نشرات ومجلات متخصصة والتعريف بها في وسائل الإعلام.، وفي نفس السياق، يجب الاهتمام بالتحكيم المؤسسي والتعريف بمزاياه وتشجيع الأطراف على اعتماده والإقبال عليه، مع إعادة النظر في مراكز التحكيم بالمغرب ومنحها الاستقلال المالي والمعنوي عن غرف التجارة والصناعة والخدمات، ومدها بالدعم والتمويل والمساعدات وكافة الإمكانيات التي تمكنها من القيام بمهامها على الوجه الأمثل والأكمل، وأكثر من ذلك يجب على الدولة أن تتابع عمل هذه المراكز من حيث الحكامة واحترام القوانين الجاري بها العمل، وخاصة وضع معايير وشروط لانتقاء المحكمين من بين الأشخاص ذوي الكفاءات المهنية العالية والحياد والاستقلالية؛ وبالتالي تجاوز ما تعرفه الممارسة حاليا من تطاول على هذا المجال من طرف بعض الأشخاص الذين يجعلون همهم الأساسي هو الظهور والربح على حساب العدالة بين الأطراف وفي غياب لأي حد أدنى من الكفاءة والتكوين وكأن التحكيم أصبح مهنة من لا مهنة له. إننا ننادي بتفعيل آلية التحكيم بشكل صحيح وحقيقي؛ وذلك عن طريق اللجوء إلى التحكيم المؤسسي أو ما يمكننا أن نطلق عليه اللجوء إلى التحكيم المنظم كخيار استراتيجي وواقعي لتجاوز الأزمة، مع الحرص على تنظيم دورات تكوينية لتدريب المحكمين والتحسيس بأهمية التحكيم كآلية واقعية لحل المنازعات، حيث إننا مازلنا في المغرب في نمهد الطريق إلى العمل بآلية التحكيم؛ فالمستثمرون أو العملاء أو الشركات والمقاولات على اختلاف أنواعها ليسوا على دراية كافية بنظام التحكيم ككل، وغير ملمين بكافة قواعده الإجرائية والموضوعية، سواء من الناحية النظرية أو الناحية العملية.
وبناء على ذلك، فإننا نعتقد أنه حان الوقت لتأسيس أكثر من مركز تحكيم معتمد توجد به تخصصات في جميع أنواع المنازعات؛ وذلك وفق تصور متكامل يراعي اختلاف طبيعة المنازعات، على سبيل المثال أن تكون هنالك مراكز في المغرب متخصصة في فض منازعات البورصة والقيم المالية، وينبثق عنها فرع لتسوية منازعات شركات سمسرة الأوراق المالية مع عملائها، ويكون على أعلى مستوى قانوني، وفني، وتقني، ورقابي، وإلى جانبه، مركز مختص في المنازعات العقارية وآخر خاص بالمنازعات البحرية. ونفس الأمر بالنسبة للمنازعات البنكية ومنازعات التأمين، وهكذا.. أو أن يتم تقسيم كل مركز إلى غرف وأقسام بحيث يسند لكل غرفة تخصص معين ضمانا للنجاعة والفعالية؛ وبذلك يمكننا تلافي عيوب التحكيم إذا تم تنظيمه على نحو سليم؛ ففي المركز المتخصص يتم لجوء الأطراف له، ويقومون بدفع الرسوم ويتقاضى المحكمون المؤهلون لذلك المنصب الحساس رواتبهم من المركز، وليس من الأطراف، وتضع المراكز كافة الضمانات والاحتياطات التي تضمن لكافة الخصوم حقوقهم، وإتاحة كافة القوانين المرنة، سواء الإجرائية أو الموضوعية لتطبيقها على النزاع. وبتعدد تلك المراكز، نجد أنه سوف يتم تلقائيا انخفاض تكلفة رسوم التحكيم، ويراقب المركز أعمال المحكمين كل في مجاله، وليس هناك ما يمنع أن يتم تدريبهم وإخضاعهم للتكوين المستمر سواء بالمغرب أو في بعض المراكز المقارنة ذات التجربة العالية للاستفادة من خبراتها وتجاربها، وإقامة اختبارات على مدد زمنية مختلفة لتقييم مستواهم القانوني والفني، لطمأنة الأطراف بحيادية المحكمين واستقلاليتهم، وأيضا مدى توافر الخبرة لديهم. كما يجب إقرار مقتضيات لتحصين المركز من التبعية لأي جهة حكومية تتبع الدولة لضمان استقلالية المركز، وعدم تخوف المستثمرين، وخصوصا الأجانب، من الهواجس النفسية التي قد تنشأ لديهم من عدم الحياد والعدالة والاستقلال والنزاهة في تسوية النزاع؛ وبذلك كله، وبالتدرج، سوف نصل إلى مستوى تحكيمي أفضل، ومن ثم فض المنازعات بطريقة أسلم وأعدل، وهذا ما يؤدي إلى طمأنة العميل في حالة حدوث نزاع بينه وبين شركة أو مقاولة ما لتوافر آلية عادلة وحقيقية تعطي كل ذي حق حقه، فالمقاولات المغربية والأجنبية مستعدة للانفتاح على هذه الآلية شريطة تنظيمها وتعزيزها بآليات تنظيمية وقانونية وخبرات وكفاءات تبعث فيها الثقة والنجاعة والفعالية.
ونفس ما قيل بالنسبة للتحكيم، ينطبق أيضا على باقي الوسائل البديلة من صلح وتوفيق ووساطة، والتي تعاني من الفوضى والارتباك وغياب التنظيم؛ فبالنسبة للوساطة، ورغم تنظيمها من طرف المشرع، فضلا عن الاهتمام الذي أولته لها الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، فإن الإشكال يثار أيضا خلال مرحلة التنزيل، سواء تعلق الأمر بالشخص الوسيط وشروط تعيينه ومواصفاته، بل وحول نوع الوساطة المناسبة لحل النزاع بين الأطراف، حيث يطرح في هذا الإطار التساؤل حول النموذج الأمثل للوساطة بالمغرب والذي يستجيب للخصوصيات السوسيو اقتصادية للواقع المغربي ولطبيعة نظامنا القانوني. ومن بين التصورات التي نعتقد أنها أساسية أن تتم إعادة تنظيم الوساطة بطريقة مستقلة عن قانون المسطرة المدنية؛ وذلك في إطار مدونة خاصة بالوسائل البديلة لحل المنازعات، وإذا كان البعض يتجه في اتجاه الطابع الإجباري للوساطة مدعما وجهة نظره بأن الوساطة الإجبارية تعتبر الوسيلة الأسلم لتدعيم ثقافة التفاهم والحوار وتعزيز السلم الاقتصادي والاجتماعي، فإننا نعتقد أنه يجب التمييز في هذا الإطار بحسب طبيعة النزاع بحيث تبقى القاعدة هي حرية اللجوء إلى الوساطة الاتفاقية، مع الاكتفاء بمأسسة وساطة قضائية اختيارية خاصة في بعض المجالات الخاصة والاستراتيجية وفق معايير محددة وخاصة في المادة التجارية؛ وذلك لما يتميز به الوسط التجاري غالبا من نزوع نحو التسوية الودية للنزاعات ضمانا لاستمرارية العلاقات بين الأطراف وحفاظا على سمعة الوحدات التجارية في السوق، مع الأخذ بعين الاعتبار لبعض النزاعات التي يجب أن تخضع حتما وإلزاميا للوساطة قبل إحالة الملف على القضاء، وإذا كان البعض يرى أنه يجب إسناد الوساطة للقاضي على غرار بعض التجارب المقارنة كتجربة الأردن والجزائر، فإننا نعتقد أن هذا الاتجاه يبقى محدودا وقد لا يحقق الأهداف المرجوة منه، ويبعد فكرة الوساطة عن طابعها التلقائي والتواجهي؛ لذلك يجب إسناد القيام بمهمة الوساطة إلى الأغيار والخبراء في المجال المعني قبل عرض النزاع على القضاء تحت طائلة عدم القبول، مع اقتصار دور القاضي على توجيه الأطراف إلى المرور عبر آلية الوساطة وتحسيسهم بأهميتها.
وبناء على ذلك، وعلاقة بالاهتمام الرسمي بالإصلاح العميق والشامل للمنظومة القضائية، فإن المقاولات المغربية والأجنبية تسعى إلى تطوير الوسائل البديلة لحل المنازعات مع إعطائها مكانة أساسية في إطار أولويات أجندة الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، معتبرة أن الحياة الاقتصادية والتجارية من الضروري أن تتخللها نزاعات، مما يقتضي إيجاد أرضية مناسبة لحسن تدبير هذه النزاعات وحماية السلم الاقتصادي والاجتماعي؛ لذلك فإننا نعتقد ونؤكد أن نجاح الوسائل البديلة في المغرب رهين بتضافر جهود أصحاب القرار والسياسيين والمقاولين، والانتقال لسرعة أكبر في هذا المجال لتقوية المكتسبات وترسيخ الوسائل البديلة في العلاقات التجارية بين المقاولات كي تسود ثقافة الوساطة والتوفيق والتحكيم في عالم الأعمال، لأنه بالنظر للمزايا العديدة لهذه الوسائل البديلة، فإن تطويرها يشكل استراتيجية ناجحة لتعزيز نمو المقاولات وتحسين مناخ الأعمال، لأنه رغم الانتشار المتزايد لمراكز الوساطة والتحكيم في المملكة، إلا أن الأرقام تظهر أن هذه الآليات مازالت لا تجتذب المقاولات الصغرى والمتوسطة، مما يقتضي تركيز الجهود في هذا الإطار لتحقيق عدالة فاعلة لينة ومريحة وناجعة.
* دكتور في الحقوق، محكم ومستشار
في التحكيم والوساطة وتدبير المنازعات، عضو بالمركز الدولي للتحكيم والوساطة بالرباط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.