يقدم لنا الأستاذ أحمد الإبريزي، من موقعه كأحد أقارب الشهيد محمد الزرقطوني، الذي عاش معه في ذات الفضاء العائلي بالدارالبيضاء، ثم كأحد رجالات الوطنية والنضال النقابي، هنا تفاصيل قصة حياة الشهيد محمد الزرقطوني، كما خبر تفاصيلها عن قرب. أي أنه شاهد لسيرة حياة، وشاهد لمغرب يتحول منذ الأربعينات، ثم هو مدرك بوعي سياسي لمعنى التحولات الكبرى التي صنعت مسار حياة رمز المقاومة المغربية الشهيد الزرقطوني. وميزة كتابة الأستاذ الإبريزي، أنها تزاوج بين الشهادة العينية المباشرة لمسار حياة الشهيد من داخل العائلة، وأيضا بين التأويل لمعنى التطور الأحداث والوقائع، وكيف أصبح الزرقطوني هو الزرقطوني. وهي هنا في الحقيقة، شهادة مكملة لسيرة الشهيد النضالية والسياسية والوطنية التي سبق وأصدرها كل من الأستاذ لحسن العسبي ونجل الشهيد عبد الكريم الزرقطوني في طبعتين سنة 2000 و 2003، والتي ترجمت إلى الإنجليزية من قبل جامعة مونتانا الأمريكية سنة 2007. إن هدفي من الخوض في هذه السيرة، أن أربط كل تفاصيلها، بمرحلة المقاومة التي قادها هذا الشاب المقاوم الصلب. ومعلوم أنني لم أطلع على هذا الجانب الهام من سيرته الكفاحية، لأن آخر لقاء بيني وبينه كان في عيد الأضحى الذي صادف 20 غشت سنة 1953، عند زيارته لأخته خديجة التي كان يحبها ويقدرها، وكنت أنا بدوري في زيارتها لأبارك لها العيد، يومها لاحظت عليه الإضطراب ولم أره مرة أخرى إلا جثة هامدة بعد استشهاده في 18 يونيو 1954. لم أتمكن من معرفة تفاصيل حياته، داخل حركة الفداء خلال هذه المرحلة، رغم أهميتها التاريخية. كل ما أعرفه عنه - وهو جد هام في حياته - أنه كان يؤمن بأهمية التنظيم، على مختلف الأصعدة، لأنه يضع الأمور في نصابها ويقي من الفوضى والارتجال، إذ كان لا يقوم بأي عمل إلا بعد دراسة متأنية والتأكد من جدواها. ولعل الدليل على ذلك، أنه وضع اللمسات الأولى للمقاومة، على أسس متينة وضمن استمرارها بعد رحيله. وفي اعتقادي، أن طبيعته خلال هذه المراحل، لم تكن تختلف عما سبقها من مراحل، إلا أنها امتازت بطابعها النضالي، واستشهاده هو الذي يحكي هذه المرحلة التي أبان فيها أحرار هذه البلاد عن قدرتهم على التحدي والصمود وصنع الحدث. هذه باختصار، مراحل حياة الشهيد، سردتها بعجالة لتكون سيرته متكاملة يطلع عليها الباحثون والمؤرخون لتقييمها من جديد. فالأمر لا يتعلق بإنسان عادي، بل بقامة تاريخية، تركت بصماتها في سجل النضال التحرري الوطني رغم صغر سنها، واستحقت أن تكتب اسمها بمداد الفخر على صفحات هذا السجل. كيف تربى هذا الولد بين أحضان أسرته ؟ وما هي دروس الحياة التي درج على تلقيها على يدها وهو طفل ؟ إلى أن بلغ سن الرشد، بوسائل مختلفة، خطوة خطوة، وأظن أنه كان مستوعبا لهذه الدروس الحية لما ظهر عليه من نضج مبكر، مما ساهم في تحديد نوعية شخصيته التي زادت قوة وصلابة باحتكاكه، بالمجتمع كعنصر فعال فيه. لقد لقي اهتماما كبيرا من كافة أسرته بدون استثناء، وبالأخص من والدته، التي كانت تتسم بطيبوبة لا مثيل لها. فكانت تغدق عليه من عطفها ومن حنانها، منذ أن بدأ يحبو إلى أن بلغ سن الرشد. ولقي نفس المعاملة من إخوته، وكان يرى فيه أبوه الخلف له، في تدبير شؤون الزاوية وهي أمنية كل أب يحرص على مستقبل ابنه. لقد قطع أشواط حياته تباعا وبدأ يكتسب الخبرة تدريجيا وعلى مراحل، كان مدللا دون مغالاة. وعندما بلغ السادسة من عمره، اهتم أبوه بتعليمه طبقا لما كان سائدا في هذه الفترة، حيث الطابع الديني كان المرجع الأساسي للأسر المغربية المحافظة. فأدخله إلى الكتاب القرآني لحفظ القرآن الكريم وأصول الدين، وليتدرب على القراءة والكتابة، غير أن طموحه في التثقيف كان أكبر من كل هذا، لذلك اهتم بالجانب الثقافي، وحدد آفاقه رغم أنه لم يتلق تعليمه العالي، لكن طموحه دفعه لكي يتمكن من المعرفة في حدها الأقصى، لما كانت له من قدرة على الاستيعاب، ولذكائه الفطري وقوة رغبته في الوصول بمجهوده إلى أعلى درجات المعرفة. ولم تقتصر معرفته على لغة الضاد، بل سعى أن يكون له إلمام باللغة الفرنسية، لغة أعدائه. وكان قصده من ذلك استغلال هذه اللغة للتواصل مع خصومه، بدبلوماسية عالية لتفادي أي مكروه خاصة، وقد قرر أن يتحمل الشدائد لمحاربة الوجود الفرنسي بكل أشكاله. إن هذا التفكير العميق لا يمكن أن يصدر إلا من شخصية لها أبعاد لا يدرك كنهها إلا هو، كأي عصامي ممن خلدهم التاريخ، سواء في الأدب أو الفن أو على المستوى السياسي. فعصاميته زادت من قوة تفكيره ووعيه الشمولي، ولو لم يقم بهذه الخطوة الجبارة لما كان له أي شأن في التاريخ، هذا هو اعتقادي وأنا أخوض في أعماق نفسه الأبية الطموحة.