الرجال الطيبون لا تخطئهم فراسة العين القارئة لأثرهم في دنيا الأيام.. والحاج بوشعيب فقار، عملة أصيلة من هؤلاء الرجال.. وهي عملة تكتسب معنى مفارقا، حين نجد أنه رجل سلطة، مارس دوره الإداري في قلب وزارة الداخلية، بتدرج موفق، دون أن يتلوث فيه شئ مركزي هائل: الإنسان.. ولعل الإدارة الترابية المغربية، قد تألقت في الكثير من الملفات والقضايا، لأنه كان فيها رجال من طينة الحاج فقار. الرجل الذي نجح، في أن يجمع إليه، بقوة المحبة والتقدير والإعتزاز، جمهورا غفيرا ونوعيا من الرجال والنساء، الجمعة الماضية، بمركز تكوين المعلمين غاندي بالدارالبيضاء، تنادوا كلهم إلى لحظة تكريمه، ليس بدافع من تزلف إلى رجل سلطة، بل أساسا لأن للرجل أثره الإنساني في العلائق. ويكاد الخاطر يقول إن مقولة «الأسلوب الجديد للسلطة» كانت متوفرة في الرجل منذ سنوات، وذلك رأسماله القوي. سمة الحاج فقار الكبرى، هي الوفاء.. الوفاء للمبدأ الإنساني الذي ظل يؤمن به، وهو أن ترجمة المواقف يجب أن تتم من داخل الإدارة الترابية، في نكران هائل للذات [نظرية غرامشي].. الوفاء لوالديه، تلك المدرسة التي تشرب منها كل شئ، لأن الرجل كان له حظ أن يكبر في بيت، ظلت العلاقة بين الأب والأم فيه علاقة ود أصيل، لا افتعال فيها، وتنطبق عليه عميقا معنى عبارة: «العشرة».. وعلى مدى 70 سنة من الزواج، ظل الأب والأم، كزوجي حمام لا يتكلمان كثيرا، ولكن يمارسان علاقة رفقة طيبة، عميقة في مخزونها الإنساني.. ومن تلك البئر اغترف الحاج فقار وإخوته وأخواته، ولهذا كان مبدأ الوفاء للعائلة هائلا بين الجميع. بل إن القدر قد جعل الوفاء بين الأم والأب، يترجم حتى في لحظة الرحيل الأبدي، فما أن غادر الأب الحاج إدريس دنيا الأحياء، حتى صامت الأم عن حلاوة العيش ولحقت به بعد عشرة أيام فقط من رحيله، ونامت في قبر ملاصق لقبر رفيق حياتها، فكانت «عِشْرَةً في الحياة» وصارت «عِشْرَةً في الأبد».. ما أجمل الدرس، وما أعمقه.. ثم الوفاء للصداقات وللحي الذي كبر فيه (الحي المحمدي)، الحي الذي تعلم منه دروس الوطنية في الميدان، والتي ليست شعارا في مقر حزب أو في مظاهرة، بل هو عمل يومي تراكمي، دؤوب، صبور. والوطنية كم تكون هنا هائلة، حين يكون الإمتحان فيها مفتوحا بشكل يومي، أمام رجل سلطة، فهي تجعل الإنساني فيه في تحد هائل. وهذا بعض مما يترجم ذلك الحضور الكبير في لحظة تكريمه، وكيف تسابقت الكلمات، لتنير جوانب متكاملة من صورة الرجل. وهو التكريم الذي كان له معنى آخر في دلالاته الوطنية والإنسانية، حين اختار رجل من طينة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، أن لا يتردد في الحضور وأن يجلس إلى جوار الحاج فقار في منصة التكريم. تلك صورة تقول كل شئ. كم كان لافتا أن يأتي ذلك التكريم، من رجال التعليم (وليس من السلطة، التي لربما ليس لها هذا التقليد في التواصل مع أطرها)، فهو عنوان آخر للوفاء، من جسم التربية والتكوين لرجل اشتغل فقط أربع سنوات في ثانوية محمد الخامس بالدارالبيضاء، قبل أن تسرقه الداخلية لأكثر من 34 سنة. ولا يزال الخاطر يذكر، كيف نبهني للرجل، منذ أكثر من 20 سنة، المرحوم مصطفى القرشاوي، حين قاده حديث معي، إلى أن ينبهني، ونحن في سيارته «أن ليس كل رجال الداخلية إدريس البصري». واستعاد أمامي تفاصيل عن رجال من الداخلية نزهاء، منهم الحاج فقار، زمن كان الراحل القرشاوي رئيسا للمجلس البلدي لجماعة عين الذئاب.. شكرا الحاج فقار أنك أنت أنت، مغربيا أصيلا من جيل نادر من الرجال.. الجيل الذي يفلح وحده أن يقول، مثلما قلت للناس في لحظة تكريمك، هذه الكلمات المتلألئة: «أنا أقصر قامة من هامة طيبوبتكم - كل مناي دوما أنني مررت من هنا [الأثر] - فقط أحببتكم جميعا، أنا لم أقم بشئ غير ذلك».