بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    اتحاد طنجة يفوز على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«القوس والفراشة » لمحمّد الأشعري: روايَةٌ عَنْ مَعْنَى الانْكِسَار النّاتج عَنْ فَجِيعة، وموْت مُغلّف بِالعُنف، وعُنفٍ مُسْتمدّ مِن إحْباط


آل ومآل الفرسيويين
تنفتح الحكاية في رواية « القوس والفراشة» لمحمد الأشعري بيوسف الفريسيوي وهو يتلقى رسالة من سطر واحد تخبره باستشهاد ابنه الوحيد ياسين في أفغانستان؛ على إثر هذا الخبر سيصبح يوسف شخصا آخر يخطو لأول مرة في أرض خلاء،فقد بدأ يستقبل الأشياء بنوع من اللاإحساس،لأنه ببساطة لم يعد يحسّ بأي شيء ؛بيد أن انتفاء الإحساس يترافق لدى يوسف «بنوع من القدرة على الإنجاز التقني الكامل والمصفى (ص13)»؛ ولذلك فهو يحكي في الرواية سيرته الخاصة، ويحكي ،في الآن ذاته، سيرة سلالة آل « الفرسيوي»، الأسرة الريفية المتواضعة والآتية من بومندرة إلى بلدة زرهون، تمكّن آل الفرسيوي من الإرتقاء اجتماعيا واكتساب موقع إلى جانب سلالة الشرفاء. بهذا المعنى، تصوّر رواية «القوس والفراشة» مآل أجيال متلاحقة بدءا من محمد الفرسيوي الجد الذي أمضى عشرين سنة في ألمانيا قبل أن يقرر العودة إلى المغرب رفقة زوجته الألمانية «ديوتيما»؛ لينتهي به الأمر فاقدا للبصر مرشدا سياحيا بوليلي. أما الجيل الثاني فيمثله يوسف الفرسيوي (ابن محمد) وهو بطل الرواية، صحافي يكتب عمودا في جريدة حزب يساري، و ينشر بين الفينة والأخرى مقالات في مجلات متخصصة، يتنقل بين الحانات والمطارات، كما قضى سنوات في السجن بسبب انخراطه في حركة يسارية.
الجيل الثالث يمثله ابن يوسف ياسين الفرسيوي والذي تابع دراسة الهندسة بفرنسا والتحق بأفغانستان ليستشهد في عملية انتحارية.
تتقاسم البطولة في رواية محمد الأشعري «القوس والفراشة « شخصيات تنسُج علاقاتها مما هو محيطٌ بها، أوْ مما يشكّل طوية تحنّ إليها وتجعل حياتها قابلة لأن تُعاش. يَسْتأثر يُوسف الفرسيوي بسرد الأحداث، يشاركه والده محمد الفرسيوي، وزوجته بهيّة، وصديقتيه ليلى وفاطمة، وصديقيْه إبراهيم الخياط وأحمد مجد.
نتعرّف على يوسف الفرسيوي في الخمسين من عمره وقدْ فقَد الطاقة في الاستمتاع بالحياة؛ بعدما عاش حياة هادئة باستثناء علاقته المعقدة بوالده محمد الفرسيوي الذي يتهمُه بقتل والدته الألمانية ديوتيما . نعلمُ أيضا أنّ يوسف الفرسيوي قضى سنوات بالسجن المركزي بالقنيطرة دون أن يعرف لماذا؛ كما انخرط في جماعة يسارية متطرّفة عندما كان بفرانكفورت، وقاده هذا الانتماء إلى جماعة يسارية مُنشقة عن الحزب الشيوعي، ثمّ انخرط،بعد ذلك، في حزب يساري معتدل. تميّزت علاقته بزوجته بهيّة بتوتّر مُزْمن، ومع قتل ابنه الوحيد ياسين تسارعت وتيرة انهيار العلاقة بينهما. كان ياسين يتابعُ تكوينا في الهندسة بإحدى المدارس الفرنسية، وقرّر أن يذهب إلى أفغانستان ويجاهد مع مجاهديها إلى أن يلقى الله، وقد لقيهُ بالفعل ولمْ يبلغ بعد العشرين من عمره.
يُوسف الفرسيوي،بَطلُ الرّواية، هُو الآن في فَتْرة حَرِجَة من حياته.
تابع الصفحة الأولى
من الملحق
حينما ذهب إلى ألمانيا،ذات يوْم، كان يكره والِدهُ ويكرهُ البلد الذي قتل أمّه، وكان يتُوق إلى تشييد حياة بعيدة كلّ البُعد عن الأجْواء المشحونة بالغموض والفتن النائمة، بعدما أدخله انتحار والدته في اضطراب كبير؛ بيْد أن اكتشافه للرّيف لغة وأمكنة وتاريخا وأشخاصا من قلب فرانكفورت،سيسلّمُه لبلده، فعاد ممتلئا بفيض التسامح تجاه والده وزوجته الجديدة.
يكتبُ يوسف الفرسيوي على امتداد الرواية » رسائل إلى حبيبتي« ، وهي تأملات في الحبّ واليأس ينشرها على حلقات في الجريدة التي يشتغل بها، قبل أن تصدُر في كتاب اعتبره أحد أصدقائه أهمّ كتاب صدر في الحبّ بعدَ ( طوق الحمامة ). يُوسف كاتب عمود يومي في جريدة الحزب، ويُنجز تحقيقات كلّ شهر، كما يكتب مقالا نقديا فنيا كلّ أسبوع لمجلة مُتخصصة. مقالاته عن فضائح العقار وصفقات الأراضي العمومية بمراكش ستثير فضول الدوائر الأمنية ودواليب القضاء.
لذلك سيعود ذات يوم من مراكش بفكرة مُلحة: أن يبتعد بشكل نهائي عن مواضيع المرحلة، ويعود إلى قضايا المهد؛ هُناك حيث يعيش والدهُ محمد الفرسيوي آخر فصول حياته حبيس عماهُ وسجين المسار السياحي لمدينة وليلي، يبيعُ للناس أساطير العصر الروماني ممزوجة بأسطورته الشخصية.
من هذا المنظور، يحيا محمد الفرسيوي الأب في القرون الماضية، ضريرا يطاردُ هرقل وباخوس ومنشغلا بالأبدية. ويعيش يوسف الفرسيوي الابن في الحانات والمطاعم والمطارات، منشغلا بالحكايات العابرة، يكتبُ عن الحبّ ويُحسبُ على اليسار. توزعه بين انتحار أمه الألمانية ديوتيما، ومقتل ابنه ياسين يجعل حياته تبدو مثل صفعة ظالمة.
شُعورٌ باليأس يُخالجُ
الفرسيويين؛
محمد الفرسيوي الذي يتماهى مع الخراب حتى يُصبح هو نفسه دارا مهجورة (ص197)؛ ويوسف حين يعترف:» الخواءُ يسكنني (ص203)»؛ وياسين الحفيد لمّا يختار الجهاد مع الطالبان. يتعلّق هذا الشعور باليأس باعتراف يوسف الفرسيوي بندم شديد خالجه لكونه لمْ يقترب من والده ولم يفهمه، واعتبره دائما مجرّد شخصية فاقعة الألوان، بهلوانا قاسيا يُجيدُ المشْي على الكلمات والمشاعر.
حين تتعطّل لغة الحواسّ
و رغم أن مصائر آل الفرسيوي تبدو متقاطعة فيما بينها، موزعة بين رغبة وحلم ولقاء وعزلة ومرارة ويأس ، فإن هذه الأحوال لم تمنع يوسف من القول : « ... لا أحد يملك شيئا لأحد ، وأن كلّ شخص في هذا العالم مهما كانت له علاقات صلبة وحميمية فإنه لا يواجه مصيره إلا وحيدا ومعزولا، وباستعداد فطري للاكتئاب والبكاء على النفس (ص14)» . ويتابع في ذات اللحظة المحيطة به كأنه يقاوم الانهيار والفجيعة قائلا:» لا أحد ، أبدا، لا أحد يحقق سعادته بسبب الآخرين مهما كانوا قريبين منه، وأحباء. لا تتحقق أي لحظة سعادة كثيفة أو هشة إلا من خلال التفاصيل التي نعثر عليها في دواخلنا (ص14)».
من هذا المنظور، يمكن أن نقرأ سيرة الفرسيويين في الرواية بوصفها «حالة وجودية» لمصائر متقاطعة ؛ إنها حكايات جادة ورصينة وعالمها مغمور بالانكسار (يوسف) والوهن(محمد ) والضياع ( ياسين). ففي الوقت الذي يعلم فيه يوسف باستشهاد ياسين في أفغانستان يختلّ عالمه الداخلي وتتعطل حواسّه وأحاسيسه أيضا،حتى توافقه مع بهية بعد الزواج منها لم يدم طويلا لتستقرّ علاقتهما في توتر مزمن وكان هذا يجعله دائم الإحساس بالخسارة (ص18)؛ ولعلّها أيضا خسارة والده التي انطبعت في كيانه بكثير من اليقين والألم، قبل أن تتوالى خساراته المدوية منحدرة به إلى ظلمات الإفلاس والشماتة قبل أن يغرق في ظلمة مطبقة (ص66).
حين تتعطّل حواس يوسف الفرسيوي وتنهار أحلامه في الحياة متلاحقة منذ مقتل ابنه ياسين وتذكره لمقتل والدته وتوتر علاقته بزوجته بهية ، ومحنة صديقه إبراهيم الخياطي مع ابني خليله المهدي وعصام ... أثناء كل ذلك سيجد في علاقته بليلى وفاطمة تعويضا عن حالات الفقدان التي ألمّت به خاصة علاقته بليلى والتي أقامت كما يقول من حوله «سياجا من الواقعية « جعله يسترجع دفعة واحدة تفاصيل هامة عن علاقته بالأشخاص والأمكنة، ليس كتذكر، بل كإمكانيات متعددة وفعلية (ص 202) في الوجود؛ مثلما يعيش الفرسيوي الأعمى الآن أيامه متأملا خرائب وليلي مطاردا أشباح آلهتها، يحيا يوسف متنقلا بين المطارات والمطاعم والحانات والنساء؛كلاهما يقاوم المتردّي والأوهام الضائعة مع وجود فارق : اشتغال يوسف على الحكايات العابرة،والروايات التي تذبل فور قطافها، واشتغال الأعمى في الخرائب على الأبدية (ص184).
من هنا ألا تبدو رواية «القوس والفراشة» بأحداثها وشخصياتها استعادة لرغبات منسية وتدربا على الحياة في تجلياتها البسيطة،دون الخضوع للمرارات المتوفرة بكثرة في الأجواء العامة (ص202) ؟ ولماذا كلام الشخصيات متوهّج، لكن لا أثر فيه للغضب ولا للعناد بل فيه حيرة قاتلة كما في ملامح شخص وقع في متاهة (ص 203) ؟
كل الشخصيات تتكلم : قد تعرّي المخبوء أو تتأمل السقطة، لكن «ساراماغو» الذي يزور مراكش في الرواية ويرافقه يوسف وليلى في زيارة لبلدة وليلي يحضر صامتا، بالكاد يتكلم أو يبتسم، بيد أن حضوره في الرواية مرفوقا ب»الإنجيل حسب المسيح» يحمل معنى التأكيد على أن العلاقات التي نخطئها هي أيضا إمكانات فعلية لرابط من نوع آخر (ص44)، وأن التأرجح الذي بُني عليه العالم بين الضلالة والهدى ينتصر في جزء منه للأسطورة والمتخيل الاجتماعي، وفي جزء آخر منه لقيم الشكّ ضدا على كل اطمئنان لمواضعة ثابتة أو يقين فجّ أو وعي مزيّف .
ليْلُ هافانا ونساء آل الفرسيوي
في رواية «القوس والفراشة» كتاب للمراثي يقع ( لحكمة ما ) تقريبا في وسط الرواية؛ هو كتاب / أو لحظة لإبراز المآل التراجيدي لكل محاولة شعرية في هذا العالم (ص209) قد يكون خُلْوة أو نسيانا أو فسيفساء قطعة أثرية رومانية، أو إحساسا بالظلم والمرارة والمحبة، لكن كتاب المراثي ،قبل هذا وذاك ، مقارنة قاسية بين ليل هافانا وليل مدن مراكش والدار البيضاء والرباط مجتمعة؛ مقارنة بين ما يفترض أن يكون ليلا بهيا بسعة العالم وليل ملفوف بصمت رهيب. في كتاب المراثي إعلان صادق من يوسف يخبرنا فيه أنه للتغلب على الاكتئاب يرجع إلى العلبة ، كما تقول ليلى ، والعلبة هي خزانات الأحاسيس والصور والكلمات التي نضع فيها تلقائيا كل ما يحصل لنا في لحظات الحبّ الكثيفة... حيث اللقاء مع امرأة لها قدرة خارقة على جعل الكلمات والأشياء متعادلة تماما في الكثافة والهشاشة الزمنية(ص216).
بهذا المعنى يمكن فهم تلك المسافة الغامضة بين الرغبات والأهواء في علاقة يوسف بنسائه:بهية وليلى وفاطمة والغالية وأضيف إليهنّ ديوتيما . نساء آل الفرسيوي في الرواية لحظات فانيات، لهنّ حضور الوفيّات لكن سرعان ما يغبن بكبرياء؛تعلو خدودهن حمرة الخجل، ويقفن رغم ذلك على حافة الانتحار والانهيار.
الذهاب بعيدا في شجاعة الرأي
يذهبُ يوسف الفرسيوي في رواية «القوس والفراشة» بعيدا في شجاعة الرأي، يتلو علينا حياته لأنه يحتاج إلى المصالحة مع ذاته أولا، ويحتاج إلى فهمٍ عميق لتاريخها. من هنا، تأتي الأحداث في الرواية مصحوبة بتأمّل في معنى:
أ) الخسارة، يقول يُوسف: صرتُ أدرك بسهولة أن الخسارة ليست ما نفتقدهُ، ولكن ما يتبقى في نفوسنا من شعور بالعجز عن فعل شيء لم نفعله (ص21). في رواية «القوس والفراشة» إلحاح على مُقاومة كلّ ما يكون سالبا للكينونة، ومن تلك المقاومة تتوقُ شخصيات الرواية إلى التغلّب على الخسارة.
ب) تتأمّل رواية «القوس والفراشة « أيضا معنى الانكسار الناتج عن فجيعة وعن موت مغلّف بالعُنف، وعنفٍ مُسْتمدّ من إحباط. وفي النهاية:» كلنا ننْهزم أمام الموت، لكن لا شيء أفظع من الهزيمة أمام الحياة (ص208)».
ج) ليْس همّ الشخصيات في رواية « القوس والفراشة» التسْليمُ بسكينة مرجُوّة من أجل إعادة ابتكار العلاقة مع الواقع، بل همّها يكمن في ما هو أعمّ أي في المُمْكن الإنساني. وتتخذ هذه العلاقة مع الواقع بوصفه ممْكنا عدّة أوجُه أهمّها:
- انشغالُ الرواية ببعض ما يُهيمنُ على الساحة الإعلامية من قضايا في السياسة وتدبير المال العامّ،والرشوة والامتيازات العشوائية،والأغنياء الجُدد والفضائح الجنسية. وهذا ما يضفي على الرواية مُسْحة سياسية لافتة للنظر من خلال اهتمام شخصياتها بأسئلة الديموقراطية والمواطنة والسلطة والفساد الإداري والبيروقراطية. وبهذا المعنى، تصنعُ الرواية زمنا ومكانا أفسحُ من الراهن.
- الرّاهِنُ في رواية «القوس والفراشة» ليس موْتورا، وما يمكن أن يُحمل على عالم الضغينة والكراهية من جانب الطاعون الظلامي ، يوازيه تجربة جيْل قيل عنه إنه من »عبدة الشيطان« بينما هو على لسان عصام ومهدي ،توأميْ إبراهيم الخياط، يعلنُ أمام الملأ:
« لا نُريد أن نكون فلاسفة أو سياسيين، نحن نريد فقط أن نُغني ونرقص ونُحبّ البلاد على طريقتنا (ص213)».
- في رواية «القوس والفراشة» صفحاتٌ تحتفلُ بالمُبْهج والحُنوّ،بالبوح وبالمشاعر الحارقة، خاصة في علاقة يوسف بليلى وفاطمة؛ في هذه الصفحات واللحظات يتحرّر يوسف من رتابة يوميّ تؤثثه مُفارقات البلد.
المُبْهجُ في هذه الرواية يسمحُ بتخطي الخيبة في الحبّ والسياسة والتاريخ؛ المُبْهجُ لا يحوّل شخصيتيْ فاطمة وليلى طيْفيتين، بل يمنحهُما وُجودا بمشاعر شديدة الاتقاد؛ معهما وبرفقتهما لا يضعُ يوسف مصيرهُ للمُساومة، ولا يتحدثُ إليهما بلغة الأقنعة. من هنا، عوْدة الشخصيات إلى ما هو مَنْسي، وعَوْدتها إلى مواقع الحنين، والرّحيل بالذهاب إلى البعيد للتأكّد من أن الدنيا واسعة ولا مجال فيها للخوف أو للتوجّس.
روايةُ «القوس والفراشة» لمحمّد الأشعري جوابٌ على سؤالين:
لماذا حاضرُنا على ما هو عليه؟ ولماذا ننتمي اليوم إلى سُلالة الخوْف والقلق؟
إذا قرأتُم هذه الرواية ستتعرّفون على شخصيات آدمية تُجسّد كيْنونتها بشموخ في الماضي البعيد والحاضر الآني، سواء أكان الزمن جميلا أو بسيطا أو وعْرا.
لذلك، يُذكّرنا يوسف الفرسيوي بهذه الحقيقة: إنّ العالم الذي نحيا فيه أصْبح عالما فاسدا، ونحن أضْحَيْنا فِيهِ غُرباء.
ما القوسُ وما الفراشة؟
كان ياسين ابن يوسف الفرسيوي يحمل في كيانه فكرة تركيب قوس المصب يربط بين ضفتي الرقراق، قوس ضخم غير منتظم ،لا أثر فيه لأي تماثل، يفوق في علوّه قصبة الأوداية، تبدأ قاعدته الأولى في ذراع المصب بالرباط، ثم يعلو إلى أعلى نقطة في مساره،قبل أن ينزل صوب قاعدته الثانية على الضفة المقابلة.قوس من الفولاذ،مصبوغ بالأزرق،كأنه خيط ماء يلعب فوق المحيط (ص108). القوس سيضفي على المدينة الجديدة ميسما من الجنون ويمكن أن يخرجها من نسق العمران البحت إلى نسق الخيال البحت(ص110).هو ترجيع أوهام وأحلام شاب يحلم بالتغيير ضدا على الرتابة.
أما الفراشة فهي تحديدا «عمارة» أحمد مجد صديق ياسين ، مبنى ضخم استمر أحمد نجم في إنشائه وفق تصوّره المستفز زاعما أن ما ينقص مراكش هو بناية تخرجها من نكهة الماضي السحيق. قوس ياسين لن يتحقق ، وعمارة الفراشة بهندستها المُحلقة وبطوابقها التسع عوض الأربع ترى النور تحرصها لوبيات العقار وجيش من المحافظين والمخبرين والفضوليين.
القوس والفراشة رمزان لمغرب اليوم: القوس رمز لمغرب المُنى ولما هو محلوم به ولم يتحقق؛ والفراشة رغم وداعتها فإنها في الرواية ذات ملمح «كروتيستيكي» أسياده أصحاب المال والسلطة، يحققون مُتعهم وأحلامهم ويبيعونها كما يبيعون كل الوطن في المزاد...
---
محمد الأشعري:القوس والفراشة،رواية،المركز الثقافي العربي،ط1/ 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.