هذا هو عنوان الرواية.. «l incompris» تحيلنا منذ الوهلة الأولى إلى شخصية مفعمة بالغموض والسرية والإبهام... الحي المحمدي، اسم فضاء موجود في المكان والزمان. هذا ما يبدو لنا في الأول. لكن بعد قراءة الرواية وأكثر من ثلاثمائة صفحة، يُخيّل إليك بأن الروائي فؤاد سويبة لا يكشف عن فضاء الحي المحمدي، بل يبنيه حجراً حجراً خارج تراتبية الزمن، ليقدم لنا رواية تنقلنا إلى مسافات الذكرى التي تُغري بتموضع الكلمة في قعر الإحالات العديدة والأحوال المتعددة. والحالة هاته، فالرواية ها هنا، لا تقتصر على الأحداث والشخصيات والفضاءات، فهي تتمثل أيضاً في طبيعة التخييل، وتُقرّبُ المسافة بين العالم الملموس المُمَثِّل، والعالم التخييلي المُمَثَّل له... «سبع الليل» ليس هو الشخصية الرئيسية، بل هو الشخصية المحورية التي اختارها المؤلف ليجعل منها مفتاحاً لفهم حي خارج الحي، لزمن خارج الزمن، لنص خارج النص، لشخصية خارج الشخصية... شخصية آتية من بعيد... من براريك كاريان سنطرال... كانت أمه تحمله على ظهرها حين لفظت أنفاسها الأخيرة برصاصتين، كان الطفل نائماً ليستيقظ على الدماء... مّي عيشة ماتت شهيدة... والطفل لايزال يرسم الخطوات الأولى في حي أصبح ساحة للشهادة والشهداء والقنابل من فوق الرؤوس والاعتقالات والخلايا السرية.... بقي أبوه «باسو» يتعارك مع الزمن لبيع الخضر بالتقسيط ليضمن لقمة العيش... «باسو»: الأب الغريب المتسلط، يتزوّج برحمة علّها ترحم بالإبن اليتيم، «باسو» ابن القدميري الذي هاجر في بداية الثلاثينيات من لفقيه بن صالح هروباً من الجفاف القاتل... في الرواية، نستشف بأن الألم الإنساني درجات وأشكال وألوان... وفيها أيضاً مجموعات من الصور والمشاهد المتراكمة لمجموعة من الشخصيات في تفاعلها مع الزمان والمكان والأحداث البسيطة والغريبة. شخصية «سبع الليل» تنشأ وتترعرع مع السّرد والحكي، وهذه الشخصية كائن متفرد، أبدع المؤلف في كونه متفرداً، أليست «مُتفرد» على وزن «متمرد»؟ متفرد، لكنه في الآن نفسه، ممثل للنوع البشري الذي فيه ومن خلاله يتحقق التوازن بين متطلبات الفرد وضرورات الحياة الاجتماعية التي يتم تحديدها من الخارج... لم يكن الفتى مجتهداً ولا كسولا، بل كان بين المنزلتين... بين الجميل والقبيح، بين الخير والشر، بين اللطف والوقاحة، بين الحب والكراهية... أو قل بين الموت والحياة... «كان خلال الحفلات المدرسية يخلق شخصيات ويوزعها على التلاميذ الآخرين. ولهذا يمكن استخلاص بأن البطل/ الشخصية تقمص كل تلك الشخصيات حتى أصبح مزيجاً منها كلها... ينسى الأب الماضي ويموت «بالأزيمار»، وفي نفس السنة يموت المغفور له محمد الخامس.. بهذه الثنائية في الموت، ينتقل السرد الروائي إلى مرحلة أخرى، إحالة قوية للمرور من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر... وهذا الجهاد الأكبر هو ما ينتظر شخصية «سْبَعْ الليلْ» توطدت علاقاته بالعالم الخارجي... بالحاج السكوري وغضباته الأسطورية... بمكتب الشافة... بمؤسسة سعيد فرجات... وما أدراك ما مؤسسة سعيد فَرْجَاتْ... كانت حُلم كل الطامحين في اقتحام عالم أب الفنون... «اللي بْغى لْعْسْل، يْصْبْر لقْرْصْ النّحْلْ...» هكذا تحدث البطل المحوري في قرارة نفسه... الأعمال الشاقة، والتكلف بالحراسة والتنظيف والصباغة والسياقة وتوزيع الرسائل إلى أن أضحى قاب قوسين أو أدنى من الجنون! فهل سيصل الفتى إلى طموحه، ويحقق الهدف المنشود؟ هنا يتركنا الروائي في حيرة من أمرنا، والجواب لنا لا لغيرنا، فكل منا عليه أن يرسم مسار البطل على ضوء قراءته الشخصية/ الذاتية... إنها بحق رواية مرتبطة برؤية معينة ومصير الإنسان... رواية ليست واقعية بل تعبر عن واقع ما.. «أمّ ماتت في ساحة الشرف، أب لقي حتفه بعد مرض مفاجىء، حياة قصديرية داخل مدن قصدير مملوءة عن آخرها.. تعليم غير مؤطر... صراعات ونزاعات في الساعة واليوم... الحرمان والفقر المدقع... وفي المقابل، شاب طموح يحب الحياة بشهواتها ولذاتها، سيتوجه نحو المسرح وهو يصيح: فيمَّا بْغاتْ تخرجْ، تخْرُج!... من سينما سعادة إلى سينما مبروكة، واللقاء بالمرأة الشغوفة بالثقافة، KARINE... علاقة مفعمة بالانتظار والهروب من الفراغ. عالم الفن المسرحي عالم شائك يتحول فيه الإنسان إلى وحش وشيطان... الطاعة ولاشيء غير الطاعة... الحياة مراقبة من كل الزوايا والأركان... وعلى الممثل ولو كان سَبُعاً ألاّ يسبح ضد التيار، وألا يكون الوحيد في اتجاه معاكس للجماعة، هذا سيقوده إلى الهلاك ولامحالة... قلنا في العنوان إنها شخصية مبهمة غامضة... نتعاطف معها تارة، وتارة أخرى، نبتعد عنها لنتركها عرضة للعالم الخارجي وصراعاته... هي رواية كاتب وما كتب... رواية تحرّر فيها الخيال الأدبي بأسلوب ممتع وسلس... شخصية «سْبع الليل» تُدهشنا وتُمتعنا في الآن نفسه... شعور الدهشة والإمتاع يغمرنا بسبب الكتابة نفسها... كتابة أنيقة... فيها شيء من إدريس الشرايبي، ولا مبالغة... كتابة تنسُجُ الحكي بخيوط تقود السرد الى اللامتناهي... أشياء كثيرة تمر بها الراوية... بمفارقات وتناقضات... بالمد والجزر، بالأنا والآخر... بالذاتية والموضوعية... بالهزل والجد.. بالفقر والغنى... بالجهل والمعرفة... بالعلمي واللاعلمي... بالمشهور والنادر... كل هذه الأشياء تمر، وعلى إيقاع «سْبَع الليل» القوي يعيش النّقيض «سْبَعْ الليل» الضعيف... ويقدم لنا المؤلف ازدواجية الشخصية على مستويات متداخلة، نفسية وسلوكية واجتماعية وثقافية، وبذلك نستطيع تأويل النص الروائي، وربما ذهبنا أبعد من هذا المدى في تأويل بعض الشخصيات... فهذه الرواية تربط الأدب بالحياة خارج شرنقة اللغة والتكليف البلاغي بالمجان... ولهذا نرى بأن هذا العمل يستحق الوقفة... والقراءة... والتأمل... ولم لا... النقل الى الصورة السينمائية... وليس هذا بغريب على ناقد سينمائي وعاشق للفن السابع اسمه فؤاد سويبة...