الأميرة للا أسماء تزور جامعة غالوديت    أشغال تجهيز وتهيئة محطة تحلية مياه البحر بالداخلة تبلغ نسبة 60 بالمائة    جماهير الوداد الرياضي والجيش الملكي مع موعد تاريخي    قادمة من أوروبا.. تنسيق أمني يحبط محاولة تهريب أزيد من 51 ألف قرص مخدر    شركة FRS DFDS تعلن عن موعد توقف استغلالها لخط "طريفة – طنجة المدينة"    بعد مقال "شمالي".. مجلس جماعة طنجة يؤجل التصويت على منح 45 مليون سنتيم لجمعية مقرّبة من نائبة العمدة وهذه أبرز النقاط المصادق عليها    رئيس البرلمان الأنديني: المغرب عاصمة عالمية للدبلوماسية البرلمانية    هل يتجه حزب العدالة والتنمية إلى الحظر بعد أن تحول إلى جماعة إسلامية حمساوية    سوريا.. السلطات تعتبر القصف الإسرائيلي لمنطقة قريبة من القصر الرئاسي بدمشق "تصعيدا خطيرا"    "ندوة السلام".. بن عبد الله يدعو لتكثل عالمي يواجه إجرام إسرائيل ويحيي سكان طنجة    لهذه الأسباب سيغيب الدولي المغربي مزراوي عن فريقه … !    توقيع اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية    الجامعة الملكية المغربية تكرم المنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس الأمم الإفريقية للفوتسال    بسبب اختلالات رياضية.. الجامعة الملكية تصدر قرارات التوقيف والغرامة في حق عدد من المسؤولين    مخاريق: لا يأتي من بنكيران سوى الشر.. وسينال "العقاب" في الانتخابات    الناظور ضمن خريطة أطول أنبوب غاز في العالم يربط إفريقيا بأوروبا    يونس مجاهد: مجالس الصحافة وضعت للجمهور وليست تنظيمات بين-مهنية    رغم القطيعة الدبلوماسية.. وفد برلماني مغربي يحل بالجزائر    لبنان يحذر حماس من استخدام أراضيه للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    اللاعب المغربي إلياس أخوماش يشارك في جنازة جدته بتطوان    حقوقيون يسجلون إخفاق الحوار الاجتماعي وينبهون إلى تآكل الحريات النقابية وتنامي القمع    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    « بين التاريخ والرواية» كتاب جماعي يرصد مسارات أحمد التوفيق    في كلمة حول جبر الأضرار الناجمة عن مآسي العبودية والاتجار في البشر والاستعمار والاستغلال بإفريقيا: آمنة بوعياش تترافع حول «عدالة تعويضية» شاملة ومستدامة    «غزة على الصليب: أخطر حروب الصراع في فلسطين وعليها»    حادثة سير مميتة تنهي حياة سبعيني بالفقيه بن صالح والسائق يفرّ هاربا    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    عبد الله زريقة.. علامة مضيئة في الشعر المغربي تحتفي به "أنفاس" و"بيت الشعر"    للمرة الخامسة.. مهمة سير فضائية نسائية بالكامل خارج المحطة الدولية    سفينة مساعدات لغزة تتعرض لهجوم بمسيرة في المياه الدولية قرب مالطا    العرائش تسجل أعلى نسبة تملك.. وطنجة تتصدر الكراء بجهة الشمال    العلاقات التجارية بين المغرب ومصر.. وفد اقتصادي مغربي يزور القاهرة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    رسالة مفتوحة إلى السيد محمد ربيع الخليع رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    تفاصيل إحداث قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء يوفر أزيد من 20 ألف منصب شغل    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غابرييل كامب البربر : ذاكرة وهوية

ينشد مؤلف هذا الكتاب غابرييل كامب (1927-2002) أن يحيط بعالم البربر في كليته، بدءاً من مصر وحتى جزر الكناري، مروراً بالنيجر والسنغال، بالتوسل بالكثير من العلوم ، من حفريات وجغرافيا وعراقة ولسانيات وفنون...
والبربر قد عُرفوا من زمن الفراعنة في مصر، باسم الليبو، واحتلوا المنطقة الشاسعة بين الأبيض المتوسط وجنوب النيجر ومن البحر المحيط إلى مشارف النيل. وأما اليوم فلم يتبق من بلاد البربر هذه مترامية الأطراف غير مزق لغوية ومجموعات بعضها كثيرة العدد، متفرقة منعزلة عن بعضها.
والمؤلف ينطلق في بحثه من العصور الموغلة في القدم، ساعياً إلى فهم كيف تعرض البربر للتأثيرات الخارجية، من بونيقية ورومانية وإفريقية وعربية... وكيف أمكن لهم أن يظلوا على وفائهم لعاداتهم وتشبثهم بلغتهم واستمرارهم على أساليبهم في العيش.
16) كان الموري بالنسبة إلى الروماني أو الإفريقي المتروّم، كمثل ما سيكون البربري بالنسبة إلى الغازي العربي على وجه التقريب.
الموريون، غربيو إفريقيا
إذا ذكر المؤلفون الإغريق والرومان السكانَ الليبيين الأبعد إلى الغرب أسموهم بالموريين، ولم يسموهم بالنوميديين، لكن هذا التمييز لم يتحقق له الرسوخ النهائي إلا عندما علم الرومان بوجود مملكة محلية في المغرب. وقد كان أرتيميدور، في القرن الثاني قيل الميلاد، لا يزال يُدخل الليبيين القاطنين إلى جوار أعمدة هرقل في النوميديين. غير أن من المحتمل أن يكون التمييز بين النوميديين والموريين أقدم عهداً، إن صح أن اسم الموريين، كما هو مسلم به عامة، لم يكن يزيد عن اسم جغرافي ذي أصل فينيقي. وقد صار [المؤرخون] منذ القرن السابع عشر، وإسوة بما فعل بوشار، إلى تفسير الأصل في اسم الموريين بأنه اختصار لكلمة سامية : ماهوريم، ومعناها «الغربيون». وقد يكون هو الاسم الذي أطلقه الفينيقيون على سكان شمال إفريقيا من قاطني الغرب (المغرب عند المؤلفين العرب). ثم إنهم لما تحققت لهم معرفة أفضل بالليبيين في شرق بلاد البربر صاروا يقتصرون بهذه التسمية على الأقوام ساكني الطرف الأقصى من الغرب؛ أي ساكني المغرب (المغرب الأقصى عند المؤلفين العرب).
لقد نبه ج. جسيل بحذره المعهود إلى عدم وجود سبب ليلاّ نأخذ بالدعوى التي جاء بها سترابون في أن كلمة «موري» ذات أصل محلي. وليس يقف الأمر عند هذا الحد، فهذا بلين كتب أن القبيلة الرئيسية بين القبائل التي سكنت موريتانيا الطنجية كانت هي قبيلة الموريين، وأن الحروب لم تبق منها على غير بعض الأسر. وقد سعى بعض المؤلفين بالاعتماد على هذه النصوص إلى البحث لاسم الموريين عن أصل بربري. فقد رد رين هذا الاسم إلى الجذر Our الذي يوجد في اسم جبل عمور، فيكون معناه «الجبل»، ومن ثم يكون الموريون بمعنى الجبليين، أي المستقرين في مقابل الرعاة، وهي الكلمة التي يجعلها رين ترجمة لكلمة «النوميديون». غير أن هذا التفسير النَّزوي، وما يرافقه من ترجمة خاطئة من لدن سترابون، ليس له من قيمة. وقرَّب آخرون بين اسم «الموريين» والاسم الحالي (والقديم) لجبال الأوارس (أورس، أوراسيوس)؛ فيكون في ذلك تفسير للحرف الصافر الذي يرد في الاسم الإغريقي (??????????) يجد هنا تفسيره. وقد اعتقد المتكئون على هذه الافتراضات أنهم أقاموا البرهان على أن مملكة بوخوس المورية، وقد كان بوخوس معاصراً ليوغرطة، لم تكن تقوم في المغرب بل في الأوراس.
يصطدم هذا الانزلاق الهائل بجغرافية إفريقيا القديمة كلها نحو الشرق بتناقضات تاريخية صارخة لاسبيل إلى القبول بها. فلا يمكننا، في حدود المعارف المتوفرة لنا اليوم، أن نموضع الموريين، الذين نعرف أنهم كانوا يمتدون وجوداً حتى المحيط، إلا في غرب بلاد الربر.
مملكة شبه مجهولة
من باجا إلى بوجود :
لا نعرف الشيء الكثير عن مملكة الموريين، بل إن اللايقين الذي يسم معارفنا يمتد إلى فترة أقدم منها في التاريخ. ومع ذلك فوحدة الاسم الذي ظل يحمله غرب بلاد البربر حتى وفاة بوجود والتشابه في الأسماء التي حملها سادتها المتعاقبون (باجا وبوخوس وبوجود) يحملانني على الاعتقاد بأن الأسرة الواحدة قد حكمت منذ القرن الثالث وحتى اضمحلالها وتلاشيها بوفاة بوخوس الأصغر.
كانت أسرة بوخوس في القرن الأخير قبل الميلاد تسيطر على أقاليم تمتد حتى جبال الأطلس في أقل تقدير. بل إن بوجود قد ذهب لمحاربة الإثيوبيين. لكن هذه الدعوى التي قال بها سترابون لا تسمح بالتأكيد على أن مملكة باجا، التي قامت قبلها بقرنين من الزمن، قد كانت على قدرها اتساعاً. غير أنتي لا أعتقد أنها كانت منحصرة بجوار المضيق؛ فقد كان هذا الملك يهتم بالشؤون النوميدية، وقد دعم مطامع ماسينيسا في وراثة الحكم على ماسيسيليا وأمده ب 4000 من الرجال قاموا له بالخفر والحراسة. وتسمح لنا هذه الإشارة المختصرة من تيت ليف بأن نؤكد أن باجا لم يكن ملكاً صغيراً بل كان ملكاً يسيطر على الأقاليم الواقعة بين المضيق وماسيسيليا في أقل تقدير. وفي جوار ماسيسيليا تم تحديد موقع قبيلة الموريين، التي عُرفت باسمها المملكة [المورية]. وخلال الصراع النهائي بين سكيبيون وحنّا بعل أرسل باجا، الذي كان لا يزال حليفاً لماسينيسا، بسوقات [عسكرية] كان لها إسهام في إلحاق الهزيمة بالقرطاجيين.
لقد تأكد أن المملكة المورية لم يُقيَّض لها في ما بعدُ تنظيم مُمَركز؛ فهذا إسكاليس، وهو مُليْك كان حليفاً أو تابعاً لملك موريتانيا، الذي كان وقتها هو بوخوس أو سوسوس، قد كان في حوالي سنة 80 قبل الميلاد يحكم طنجة وضواحيها. ثم أطاح به سيرتوريوس. وليس من الحكمة القول إن المملكة المورية قد تحقق لها قبيل بذلك التنظيم على عهد باجا. لكن المؤكد أن الممالك كانت أقل تمركزاً في الأزمنة البدائية؛ فما كان الملوك يزيدون عن رؤساء لتجمعات تتفاوت في ما بينها اتساعاً. وقد كان الفينيقيون أقاموا منذ قرون عديدة مستودعات تجارية مهمة على السواحل الأطلنتية من جانبيّ مضيق جبل طارق. وفي إفريقيا كانت ليكسوس (العرائش) هي أقدم وأقوى مدينة تجارية في أقصى الغرب، وتعود الحكايات الأسطورية بتاريخ بنائها إلى سنة 1000 قبل الميلاد. والواقع أن المعطيات الأثرية لا تسمح في الوقت الحالي بالرجوع بتاريخ بناء هذه المدينة إلى أبعد من نهاية القرن السابع [الميلادي]. وفي المقابل فإن جزيرة موغادور [الصويرة] قد كان يقبل عليها البحارة المشرقيون منذ القرن الثامن [للميلاد]، وربما تكون هي المقصودة بجزيرة سرني التي ورد ذكرها في رحلة حانون وفي رحلة سكيلاكس وفي رحلة بوليب وفي رحلة بطليموس. وقد كانت توجد بين هذه الجزيرة والمضيق مرافئ من قبيل سالا  [سلا]، التي ستصير مدينة ذات أهمية تحت حكم يوبا الثاني، ومن قبيل بناصا على وادي سبو. وتبقى العلاقات بين المملكة المورية وهذه المدن الفينيقية على الساحلين المتوسطي والأطلسي غامضة إلى حد كبير. لكن النفوذ البونيقي، وما كان من النفوذ الإيبيري الأقدم منه، والذي زاده قوة وتعزيزاً، كان له أثر عميق؛ صارت معه هذه المدن، وحتى المدن الأخرى الواقعة في الداخل، كأنها بؤر للثقافة البونيقية، قبل أن تصبح مراكز للرَّوْمنة. ومنذ القرن الرابع كانت الجرار الكبيرة المصنوعة في هذه المدن تباع إلى الموريين في الأرياف ولأمرائهم الذين ربما كانوا قد بسطوا سيطرتهم على هذه المدن أيضاً. ويوجد في [مدينة] وليلي نقش بكتابة تبين سلسلة النسب لكبير القضاة [القرطاجيين] سويتنكن، وفي هذه الكتابة الدليل على أن المدينة كان لها وجود منذ القرن الرابع [الميلادي]، وأن وظيفة القاضي قد تقررت فيها منذ بداية القرن الثالث.
الاسم الذي حقق الثراء
لابد أن مملكة الموريين، واسم الموريين بشكل خاص، قد سارا بالتدريج إلى اتساع وانتشار. فأما المملكة فقد تحقق لها ذلك الاتساع في أعقاب حرب يوغرطة؛ فقد سلم بوخوس الأول صهرَه وحليفه يوغرطة إلى سيلا، وحصل في مقابل خيانته وتحالفه الجديد على الجزء الغربي من المملكة النوميدية، الذي تكونه ماسيسيليا القديمة. فهذا الأمر أدى إلى الارتداد بالحدود بين المملكة المورية والمملكة النوميدية عن ملوية إلى أمساغا (الوادي الكبير). وأغلب الظن أن يكون هذا الحد ظل قائماً حتى العصور الوسطى؛ فقد رأينا أنه كان لا يزال له وجود في عهود ما قبيل التاريخ، ذلك بأنه يقوم فاصلاً بين منطقة الدلمنات والمنطقة حيث لا وجود لغير الجثوات. وجرياً على قاعدة معلومة، صار رعايا بوخوس، ملك الموريين، الجددُ موريين والبلاد التي كانت من قبلُ نوميدية صارت تسمى موريتانيا، إسوة ببقية المملكة. غير أن التقسيمات القديمة التي تعود إلى ما قبل التاريخ ظل لها وجود، وفي هذا تفسير لأن يكون الرومان بعد ما أعدموا بطليموس، آخر الملوك الموريين (في 40م)، قاموا بتقسيم المملكة [المورية] إلى قسمين؛ موريتانيا القيصرية (ماسيسيليا سابقاً) وموريتانيا الطنجية (أول مملكة للموريين).
كان التَروُّم في هذه المقاطعات أقل رسوخاً مما في ولاية إفريقية التي كانت محكومة من وال روماني، وجُعلت منطقتها العسكرية في وقت لاحق على تنظيم خاص عُرف باسم نوميديا. وفي هذا الاختلاف من حيث التعمير والتثاقف الذي وقع بين المجموعتين من المقاطعات تفسير للتحول التدريجي الذي صار إليه اسم الموريين؛ فقد صار، خلال القرون التي عمرتها السيطرة الرومانية، تغلب في معناه الدلالة على أولئك الذين بقوا في إفريقيا خارج الثقافة السائدة وخارج الهياكل السياسية. فقد كان الموري بالنسبة إلى الروماني أو الإفريقي المتروّم، كمثل ما سيكون البربري بالنسبة إلى الغازي العربي على وجه التقريب. وهكذا ستظهر آلهة مورية (انظر الفصل الرابع) ? وسيشتهر ذكرها في نوميديا وإفريقيا أكثر مما في الموريتانيتين - وسيصير المؤلفون خلال القرون الأخيرة من السيطرة الرومانية وعلى عهد الوندال يكثرون من الحديث عن عصابات، ثم عن ممالك «مورية»، في البلدان النوميدية سابقاً، وسيذكرون وجودها حتى في قلب تونس الحالية!
ولقد احتفظ الإسبان في زمن [حروب] الاسترداد، واحتفظ الأوربيون من بعدهم، بهذا الاسم، بل إنهم زادوا توسيعاً لدلالته، إذ صار يدل على سائر من نسميهم اليوم المغاربيين أو سكان شمال إفريقيا. وقدم الموريون المطرودون من إسبانيا للاستقرار في المدن الإفريقية؛ حيث احتفظ لهم العرب باسم الأندلسيين. لكن ذكريات العصور القديمة الكلاسية، بالإضافة إلى الإيحاء «الانتقاصي» الذي تنطوي عليه الصفة الإغريقية M????? (Mauros) ، قد أعادا الحياة على عهد الاستعمار إلى اسم الموريين واسم موريتانيا (Mauritanie بدلاً من Maurétanie)، فصارا يدلان أحدهما على السكن الرحل، وغالبيتهم من المعربين، والثاني على البلاد الواقعة في جنوب المغرب؛ والمراد بها موريتانيا الطنجية سابقاً.
الجيتول
سمّى القدامى الجنس peuple الثالث الذي قطن شمال إفريقيا باسم الجيتول. وإن تحديد موقع الجيتول شيء يغلب عليه التكهن والتخمين؛ فقد ورد الحديث عن وجودهم في المغرب وفي الجزائر وفي تونس في وقت واحد، فكأننا بالليبيين سكان هذه المناطق كانوا عند نطاق معين من خط العرض يُجعل له تلقائياً اسم الجيتول. وهو اسم لم يظهر إلا في وقت متأخر في الأدبيات، وكان سالوست هو أقدم من ذكره من المؤلفين، وقد نَسب إلى الجيتول أنهم اضطلعوا بدور مهم في تكوّن الشعب النوميدي. ويقول تيت ليف إن بعض الجيتول كانوا جزءاً من جيوش هانيبال.
والذي يبدو أن الجيتول كانوا في موريتانيا الطنجية شديدي التهديد [لجيرانهم]. وقد كان لبعض قبائل الجيتول، من البانيور والأوتولول، اندفاعة صوب الشمال، فقامت خلالها باحتلال البلاد التي لا يبعد أن يكون منها أصل قبيلة الموريين. وسار هؤلاء الجيتول في توسع صوب الجنوب حتى وصلوا [بلاد] الأثيوبيين. ووقع الأمر نفسه كذلك في المقاطعات الرومانية الأخرى في إفريقيا. وكان الخلاف بشأن دلالة الكلمة «إثيوبي» بما تعذر معه لوقت طويل تحديد موقعهم. فهل كان الجيتول يغطون السهوب والصحراء معاً، أم كانوا يقتصرون على الأطراف الجنوبية من بلدان الأطلس، فيما الصحراء قد تُركت لأقوام من الملوَّنين؟ وقد صرنا نعرف اليوم أن سكان الصحراء كانوا خلال العصور القديمة على شبَه بسكانها الحاليين، فلم تعد المشكلة مطروحة؛ فالجيتول الرحل كانوا يتنقلون في الصحراء وفي السهوب المجاورة كما هو فعل الرحل في الوقت الحاضر، وأما الأثيوبيون فقد كانوا يحتلون الواحات، كمثل الحراثين. وربما جاز لنا القول كذلك إن إثيوبيا تبتدئ في شمال الواحات، أو إن جيتوليا تمتد في الجنوب إلى الحدود التي كان يصل إليها الرحل من البيض. ويحق لنا من كل الوجوه أن نذهب إلى الاعتقاد بأن الجرمنت، وهم شعب من الرحل كانوا يعيشون في فزان وفي تاسيلي نعاجر، قد كانوا من البربر وليسوا من الأثيوبيين، بخلاف ما يذهب إليه س. جسيل. وقد كانوا على علاقة موصولة بالجيتوليين. وأبعدَ إلى ناحية الشرق كان الليبيون الرحل الذين ذكرهم هيرودوت يتوغلون بعيداً في الصحراء؛ فقد كان «النسامون» يخرجون إلى واحة أوجلة ليجنوا منها التمور، أو بالأحرى ليأخذوا نصيبهم من محصولها. وقد ربما شط بعضهم في المسير حتى جاءوا عند الأقوام من السود المجاورين لتشاد والنيجر. وفي أقصى الغرب كان الفاروسيون الرحل، الذين يميّزهم سترابون عن الإثيوبيين، يقطنون بلداً «يعرف وفرة الأمطار في الصيف»، ولا توجد مثل هذه الظروف المناخية في الوقت الحالي إلا في جنوب وادي الذهب وليست حدود الأقاليم الجيتولية في الشمال بمعروفة أكثر مما هي في الجنوب. وقد رأينا عدم اليقين التي تسود في [تحديد المواضع] في المغرب الأطلنتي، وهو شيء يزداد تفاحشاً في الوسط من بلاد الربر؛ فهذا سترابون لم يزد على القول إن بعض الأراضي كان يقوم على فلاحتها الجيتول. ومن الثابت لدينا أن قفصة، أبعد إلى الشرق، كانت معدودة في بلاد الجيتول على عهد يوغرطة. وقد ضم ماريوس إلى جنده بعض السوقات من الجيتول، وأعطاهم أراضي في نوميديا وإفريقية، وبقي أحفاد الجيتول ماريوسيين مخلصين خلال الحروب الأهلية. وبعد نصف قرن من الزمن تم لسيتيوس الاستيلاء خلال الحرب الأهلية على «مدينتين جيتوليتين»، وذلك بعد احتلاله لسيرتا؛ ولكن ليس معنى ذلك أن هاتين المدينتين كانتا قريبتين إلى المدينة النوميدية.
ويولي س. جسيل أهمية كبيرة إلى دعوى أبوليوس الذي يعرّف نفسه بأنه نصف نوميدي ونصف جيتولي، وأن وطنه مداوروش كان يقع إلى جوار نوميديا وجيتوليا. وفي المقابل يكتب سترابون أن بين جيتوليا والساحل المتوسطي «يوجد الكثير من السهول والجبال، بل توجد كذلك بحيرات عظيمة وأنهار، وبعض هذه الأنهار ينقطع فجأة ويختفي تحت الأرض». وهذا وصف صحيح للمناطق الواقعة جنوب قسطنطينة، لكن لا يبدو أن فيه ما يؤكد صحة دعوى أبوليوس. ويدرج س. جسيل قبيلة المزالمة الكبيرة بين الجيتول، وأعتقد أنه يعتمد في هذا القول على نص أبوليوس. وإذا ما علمنا بأن حدود إقليم المزالمة كانت على عهد الإمبراطورية لا تكاد تبعد بأربعة كيلومترات عن مادور، وأن أبولوس قال إن هذه المدينة كانت تقع على تخوم نوميديا وجيتوليا، يكون من المغري أن نقوم بهذه التقريب. لكننا لم نجد تاسيت ولا أياً من المؤلفين الذين عرضوا للمزالمة ذكروا قط أن هؤلاء الأقوام يدخلون في الجيتول. وليس يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن تاسيت الذي أسهب في الحديث عن المزالمة في معرض تناوله لثورة تاكفاريناس يصفهم دائماً بالنوميديين. ثم إننا لا يمكننا حتى أن نعترض بالقول إنه يستعمل هذه الكلمة بمعناها العام والواسع، ذلك بأنه يميز بكل عناية بين النوميديين (المزالمة) الخاضعين لتاكفاريناس والموريين المؤتمِرين لمازيبا ويفرق بينهم والجرمنت. ويجمع بول أوروس في جملة واحدة بين المزالمة والجيتول، بما يبين أن المزالمة يتمايزون في اعتقاده عن الجيتول. ولو كان المزالمة من الجيتول فسيكون علينا أن نسلم بأن بعض الجيتول لم يكونوا من الرحل بأي حال، وأنهم كانوا لا يكادون يتمايزون عن المزارعين النوميديين؛ فمن الواضح أن المقابر الكبيرة التي في قسطل وفي جبل مستيري، ضمن بلاد المزالمة، قد كانت مدافن للسكان من المزارعين المستقرين ولم تكن بأي حال مدافن للرعاة الرحل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.