"جيروزاليم بوست": الاعتراف الأممي بسيادة المغرب على الصحراء يُضعِف الجزائر ويعزّز مصالح إسرائيل في المنطقة    برادة يدعو الآباء والأمهات إلى مساندة المؤسسات التعليمية بالمواكبة المنزلية    الركراكي يرفع إيقاع "أسود الأطلس"    مؤتمر نصرة القدس و"معا للقدس": أية قوة يتم إرسالها لغزة يجب تحديد ولايتها بواسطة مجلس الأمن بالتشاور مع الشعب الفلسطيني    دعم المقاولات الصغرى بالمغرب .. "الباطرونا" تواكب والأبناك تقدم التمويل    مقترح عفو عام عن معتقلي حراك "جيل Z"    الحموشي يتقلَّد أرفع وسام أمني للشخصيات الأجنبية بإسبانيا    "لارام" تدشن أول رحلة مباشرة بين الدار البيضاء والسمارة    اتفاق مغربي سعودي لتطوير "المدينة المتوسطية" بطنجة باستثمار يفوق 250 مليون درهم    تحيين مقترح الحكم الذاتي: ضرورة استراتيجية في ضوء المتغيرات الدستورية والسياسية    الوالي التازي: المشاريع يجب أن تكون ذات أثر حقيقي وليست جبرا للخواطر    انتخابات العراق: ما الذي ينتظره العراقيون من مجلس النواب الجديد؟    هجوم انتحاري خارج محكمة في إسلام آباد يودي بحياة 12 شخصاً ويصيب 27 آخرين    ماكرون يؤكد رفض الضم والاستيطان وعباس يتعهد بإصلاحات وانتخابات قريبة    47735 شكاية وصلت مجلس السلطة القضائية والأخير: دليل على اتساع الوعي بالحقوق    التوقيت والقنوات الناقلة لمباراة المغرب وإيران في نهائي "الفوتسال"    مونديال أقل من 17 سنة.. المغرب يتعرف على منافسه في الدور المقبل    شراكة بين "اليونسكو" ومؤسسة "المغرب 2030" لتعزيز دور الرياضة في التربية والإدماج الاجتماعي    الرصاص يلعلع بأولاد تايمة ويرسل شخصا إلى المستعجلات    مديرية الأرصاد الجوية: أمطار وثلوج ورياح قوية بهذه المناطق المغربية    الرشيدي: إدماج 5 آلاف طفل في وضعية إعاقة في المدارس العمومية خلال 2025    إطلاق طلب عروض دولي لإعداد مخطط تهيئة جديد في 17 جماعة ترابية بساحل إقليم تطوان وعمالة المضيق-الفنيدق    بنسعيد في جبة المدافع: أنا من أقنعت أحرار بالترشح للجمع بين أستاذة ومديرة    "رقصة السالسا الجالسة": الحركة المعجزة التي تساعد في تخفيف آلام الظهر    "الفتيان" يتدربون على استرجاع اللياقة    استئنافية الحسيمة تؤيد أحكاما صادرة في حق متهمين على خلفية أحداث إمزورن    نادية فتاح تدعو إلى وضع تشغيل النساء في صلب الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية    كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم (المغرب 2025).. تعبئة 15 ألف متطوع استعدادا للعرس القاري    إصدارات مغربية جديدة في أروقة الدورة ال44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب    قراءة تأملية في كتاب «في الفلسفة السياسية : مقالات في الدولة، فلسطين، الدين» للباحثة المغربية «نزهة بوعزة»    التدبير‮ ‬السياسي‮ ‬للحكم الذاتي‮ ‬و‮..‬مرتكزات تحيينه‮!‬ 2/1    مراكش تحتفي بعودة السينما وتفتح أبوابها للأصوات الجديدة في دورة تجمع 82 فيلما من 31 دولة    والآن سؤال الكيفية والتنفيذ .. بعد التسليم بالحكم الذاتي كحل وحيد    حادثة سير خطيرة بالطريق السيار العرائش – سيدي اليماني    رسميًا.. المغرب يقرر منح التأشيرات الإلكترونية لجماهير كأس إفريقيا مجانا عبر تطبيق "يلا"    برلمانية تستفسر وزير التربية الوطنية بشأن خروقات التربية الدامجة بتيزنيت    "ساولات أ رباب".. حبيب سلام يستعد لإطلاق أغنية جديدة تثير حماس الجمهور    انعقاد الدورة ال25 للمهرجان الوطني للمسرح بتطوان    رونالدو يكشف أن مونديال 2026 سيكون الأخير له "حتما"    الحكومة تعتزم إطلاق بوابة إلكترونية لتقوية التجارة الخارجية    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    بموارد ‬تقدر ‬ب712,‬6 ‬مليار ‬درهم ‬ونفقات ‬تبلغ ‬761,‬3 ‬مليار ‬درهم    الكاتب ديفيد سالوي يفوز بجائزة بوكر البريطانية عن روايته "فلش"    الشاعرة والكاتبة الروائية ثريا ماجدولين، تتحدث في برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية.    المغرب ‬رائد ‬في ‬قضايا ‬التغيرات ‬المناخية ‬حسب ‬تقرير ‬أممي ‬    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الريسوني وثنائية الكفر والإيمان
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 29 - 11 - 2012

يبدو أن الأستاذ «أحمد الريسوني»، رغم باعه الطويل في مجال علم المقاصد ورغم انخراطه النظري والعملي في المجال السياسي الذي يقوم على التعدد والاختلاف، لم ولن يتجاوز، فكريا، ثنائية الكفر والإيمان، أو على الأقل، هذا ما تشي به مقالاته الأسبوعية بجريدة «المساء»، خصوصا بعد عودته من رحلته العلمية إلى الديار السعودية. ولكونه بقي سجينا لهذه الثنائية منذ شبابه، كما سنبين ذلك أسفله، فهو غالبا ما يركب الخوض في البديهيات ويجعل منها مجالا للتحدي وموضوعا للسجال، كأن «يبرهن» على تفوق الإيمان على الكفر أو أن «يثبت» رسوخ التدين لدى الشعوب، إلى غير ذلك من الأفكار التي تدخل في باب تحصيل الحاصل. فحين يستهل إحدى مقالاته الأخيرة، مثلا، بهذه الجملة: «الدين والتدين واقع لا يرتفع، ولا محيد عنه، أحب من أحب وكره من كره. وقد ثبت على مر التاريخ، وخاصة في العصر الحديث، أن الشعوب المسلمة هي الأكثر تأثرا بالدين والأكثر ممارسة للتدين...»، فإنما يقر واقعا يعرفه الجميع؛ ولا أعتقد أن هناك من سيتصدى له لإثبات العكس.
لكن أن تتم المفاضلة، من جهة، بين الشعوب المسلمة وباقي الشعوب الأخرى، ومن جهة ثانية، بين الشعوب المسلمة في العصر الحديث والشعوب المسلمة في العصور السالفة، فأمر فيه نظر؛ ذلك أن المقارنة لن تستقيم، علميا، إلا إذا اعتمدنا على أدوات علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الإناسة، وكذا أدوات التحليل الثقافي والفلسفي والسياسي، وغيرها. وهذا ما لا نستطيعه ولا ندعي القدرة على الخوض فيه. ثم إذا سلمنا بالمفاضلة التي يقيمها الأستاذ «الريسوني» بين مسلمي العصر الحديث ومسلمي العصور القديمة، فهل نضعها في مستوى التدين المنحط (الذي من بين أشكاله وتجلياته، حسب صاحب المقال، التدين المغشوش والتدين المعكوس والتدين المحروس، جريدة «التجديد» 25 مارس 2008)، أم في مستوى التدين الرفيع الذي، حسب علمنا، لم يضع بعد له «المقاصدي» الألمعي أي تعريف.
ما يهما من مقالات الأستاذ الريسوني هو بناؤها الفكري؛ وهو بناء قائم على الثنائية التي هي من خصائص الفكر المطلق. والفكر المطلق، كما هو معروف، يعادي التعددية الفكرية ويعمل على إلغائها؛ وبالتالي فهو يعادي حرية التفكير وحرية المعتقد، الخ. نحن لا نقول بأن هذا ما يدعو إليه الدكتور «أحمد الريسوني»؛ لكن منطق الفكر القائم على الثنائية (التي تحكم العقل الكلاسيكي)، يؤدي حتما، من الناحية الفكرية، إلى سيادة الفكر المطلق، ومن الناحية السياسية، إلى سيادة الاستبداد والطغيان والتعسف وغير ذلك من الظواهر التي تتنافى والفكر الديمقراطي. وما دفعنا إلى الاهتمام بالرجل، هو موقعه في الحقل السياسي تنظيرا وتطبيقا.
سنقتصر، في هذا المقال، على نتناول ما كتبه الأستاذ «أحمد الريسوني» بجريدة «المساء» بتاريخ 24 أكتوبر 2012، تحت عنوان:»الدين..محبوب الشعوب». وقد استغل ظروف ما قبل عيد الأضحى، ليعود بنا أربعة عقود إلى الوراء، فيخبرنا بأنه في مثل هذه الأيام من ذي الحجة كان يجلس مع «صديقه الملحد» (كذا) الذي بادره بالحديث عما تسببه هذه الشعيرة من «كارثة اقتصادية» و»خسارة فادحة للثروة الحيوانية»؛ وبما أن صديقه كان يشرب سيجارة، فقد رد عليه بالقول: «وهذه السيجارة التي تستهلكها أنت وأمثالك، أليست كارثة وخسارة حقيقية بجميع المعاني»؟ وبعد نقاش حاد، أسمع كل واحد منهما الآخر ما عنده، مضى كل منهما في طريقه.
وبالطبع، فإن الحديث عن «الصديق الملحد» ما هو إلا ذريعة لوضع تصنيف لأصدقاء الدراسة بالثانوية المحمدية بمدينة «القصرالكبير»، التي تتلمذ فيها الأستاذ «الريسوني». وهكذا يقول: «كنا يومها مجموعة من أصدقاء الدراسة، وكنا مثقفين ومسيسين. لكننا انقسمنا إلى مجموعتين: مجموعة المؤمنين ومجموعة الملحدين». وهو بهذا التصنيف إنما يصدر عن خلفية إيديولوجية وفكرية واضحة. فالذي يتحدث اليوم ليس «الريسوني» التلميذ، وإنما «الريسوني» المتخصص في علم المقاصد والرئيس السابق ل»حركة التوحيد والإصلاح» وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، سابقا؛ وأخطر ما في الأمر أنه لا يجعل من الثقافة والسياسة مجالا للإبداع المعرفي والنظري المتنوع والمتباين، تنوع وتباين الواقع الملموس، ولا يجعل منهما حقلا لإنتاج الفكر والمعرفة النظرية التي تقوم عليها الممارسة السياسية المجسدة لمشاريع مجتمعية مستقبلية تعبر عن مصالح القوى السياسية والاجتماعية الحاملة لهذه المشاريع، وإنما هما، بالنسبة إليه، مجال للصراع بين الإيمان والإلحاد (أو الكفر والإيمان). وهذا التصنيف هو الذي لا زال يؤطر تفكيره وموقفه من كل القضايا، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو فكرية أو حقوقية، أو إعلامية حتى. فالمدافعون عن حقوق الإنسان هم «إخوان ملحدون»، والدولة والإعلام، منبت خصب للملحدين. ولا نحتاج، هنا، أن نذكر بما يترتب عن هذه الثنائية من أحكام في غاية الخطورة، ليس أقلها تكفير المخالفين. ولنا، في تاريخ البشرية، قديما وحديثا، ما يكفي من أمثلة على ما تسببت فيه من مآسي.
ولإبراز الصفة التي أضفاها الشيخ عن نفسه وعن أصدقائه من «المؤمنين» و»الملحدين»، بكونهم «مثقفين ومسيسين»، يقول «الريسوني»: وطالت المناظرات والسجالات في لقاءاتنا، إلى أن تفرقنا في الكليات والجامعات بين فاس والرباط»، مضيفا أن، «في ذلك الوقت، كان أصدقاؤنا الملحدون، ومن ورائهم بعض الأساتذة ‹المغربيين والفرنساويين›(كذا)، يقصفوننا وسائر التلاميذ بوابل من المقولات المرعبة، خاصة تلك الصادرة عن فلاسفة يقام لهم ويقعد»، من أمثال «كارل ماركس»، صاحب مقولة «الدين أفيون الشعوب»، و»فريديريك نيشه» الذي أعلن «موت الإله»، و»تشارلز داروين»، صاحب نظرية التطور، الذي يرجع أصل الإنسان إلى الحيوان، مؤكدا أن عددا من فلاسفة النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ساروا في هذا الاتجاه، والذي وجد الصدى عند بعض المثقفين العرب من أمثال «سلامة موسى» و»علي أحمد سعيد» المعروف ب»أدونيس».
وفي ما يخص هذا الأخير ، فقد اهتم به «الريسوني»، بشكل خاص، لكونه أعلن، سابقا (غشت 2009)، أنه «لم يعد لله ما يقوله»، ثم عاد، بمناسبة حديثه عن الربيع العربي، ليجعل الدين والشعر، الذين يشكلان عصب ثقافة العالم العربي، في صراع دائم، تغلب فيه، اليوم، الدين على الشعر، مما جعل صاحب المقال يتساءل إن كان الصراع هو بين الدين والشعر أو بين الدين والفكر الإلحادي، ليخلص إلى أن الدين متغلب على الدوام، مضيفا، فيما يخص المغرب، أن صيحات «ما صايمينش» و»ما مصليينش»و»ما معيدينش، لم تؤد لا إلى فراغ في المساجد ولا إلى تغيير نمط الحياة في رمضان ولا إلى انخفاض في أسعار الأكباش .
ونحن إذ نشاطر الأستاذ «الريسوني» في هذه الاستنتاجات وفي هذه الخلاصات، نشير إلى أن الصيحات التي يتحدث عنها اليوم، هي، في جوهرها، لا تختلف عن تلك المواقف التي عاشها وهو تلميذ بالثانوية المحمدية بمدينة «القصر الكبير». لقد تغيرت، بطبيعة الحال، الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتواصلية وغيرها، لكن هوية المغاربة كشعب مسلم، تبقى ثابتة، لا ينال منها المد والجزر الذي قد تعرفه الساحة السياسية والثقافية والفكرية. وسواء تحدثنا عن الأجواء التي عاشها «الريسوني» وهو تلميذ أو طالب، أو تحدثنا عما تعرفه الساحة اليوم من تفاعلات، تتداخل فيها عوامل شتى، منها العامل النفسي والعامل الاجتماعي وغيرهما، فإن الثابت أن الدين الإسلامي، هو دين أغلبية المغاربة، بمن فيهم حتى أولائك الذين سماهم الفقيه «الريسوني» بالملحدين.
وهنا نسائل فقيهنا عن صديقه الملحد وعن باقي المجموعة؛ هل بقوا على إلحادهم أم غيروا مواقفهم؟ كما نود أن نسأله عن إخوانه من مجموعة «المؤمنين»؛ هل قوي إيمانهم أم ضعف؟ وأين قادتهم المناظرات والسجالات التي تحدث عنها...؟ بالطبع هذا لا يبدو أنه يهم السيد «الريسوني»، بالرغم من أن مسار البعض منهم قد يستحق الاهتمام، خصوصا وأننا نعلم أن مرحلة التلمذة ومرحلة الجامعة، رغم أهميتها الكبرى في تكون الشخصية، ما هي إلا مراحل عابرة، لا يزال الشخص فيها يبحث عن نفسه وعن ذاته؛ ومن هذا المنطلق، نتساءل:هل يحق لنا أن نبني أحكاما قطعية ونهائية بناء على معطيات متغيرة، خاصة وأن الأمر يتعلق بالدين والتدين؟ وأعتقد أنه لو تأمل مسار أصدقاء الدراسة، لوجد «فيه خيرا كثيرا». وعلى كل، فهذا ما وجدته شخصيا في مسار أصدقائي في الدراسة، الذين ينتمون ليس فقط إلى نفس الفترة التي انطلق منها «الريسوني» في مقاله، ولكن أيضا إلى نفس الجهة؛ وأقصد، هنا، مدينة «تطوان». لذا، نرى أن الحكم على مواقف لشباب لا زال يتلمس طريقه نحو فهم أفضل للعالم المحيط به، وإن كان، أحيانا، بطريقة تمردية، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات المحيطة بهذه المرحلة. فكم من مفطر في رمضان أصبح يصوم، إيمانا واحتسابا، يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكذا الأيام البيض! وكم من منكر للصلاة أصبح يحافظ عليها في وقتها ! وكم من عاشق متيم بحب الخمر حج واعتمر! الخ. ونعتقد أن إيمان هؤلاء الذين مروا من مخاض السؤال الوجودي والبحث عن الذات، هو أقوى وأفضل بكثير، لكونه مبني على الاقتناع، من إيمان البعض الذي لا يعدو أن يكون نفاقا اجتماعيا أو تقليدا وإتباعا للغير. ويمكن أن يصدق هذا على أصحاب الصيحات المشار إليها أعلاه، بعد أن تهدأ عاصفة ما يمكن أن نسميه ب»الاحتجاج الوجودي» أو بالمراهقة الفكرية، مع العلم أن وجود مثل هذه الظواهر (التمرد على الموروث وعلى المعتقد، وغيرهما)، هو وجود ملازم لكل الحقب التاريخية ولكل المجتمعات البشرية، فما بالك بمجتمع متعدد الثقافات ومنفتح على كل التيارات الفكرية، مثل المجتمع المغربي؛ وسواء اعتمدنا في فهم هذه الظواهر على التفسير الأنثروبولوجي (الاهتمام بالعلاقة الوثيقة بين الثقافة والشخصية الإنسانية)، أو التفسير القرآني ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، فالنتيجة هي أننا سنجد أنفسنا أمام وضع معقد، لا يمكن للفكر الأحادي أن يستوعبه، ولا لثنائية الكفر والإيمان أن تفك طلاسيمه.
لكن الدين يبقى، فوق هذا وذاك، عنصرا حاسما في الصراع الأبدي الذي يعيشه الإنسان مع نفسه ومع محيطه، سواء تعلق الأمر بالمؤمنين أو بالملحدين، حسب التصنيف الذي وضعه «الريسوني». وبما أن «الدين ليس منتوجا سياسيا إيديولوجيا»، كما قال الأستاذ «الريسوني» في ختام مقاله، («ولو أن السياسة، كما يعترف هو بذلك، كثيرا ما تتدخل فيه وتستغله»)، ولا «هو صناعة كهنوتية، (ولو أن الكهنوت قد يتلبسه ويشوهه»)، بل هو «على امتداد الزمان والمكان، يسكن في أعماق الإنسان»، لأنه «في جوهره ليس أفيون الشعوب، وإنما هو محبوب الشعوب»، فإن هذه المكانة السامية للدين تجعل من الذي يستغله سياسيا متهما بالسرقة الموصوفة والنصب والاحتيال، ذلك أن استجداء أصوات الناخبين، مثلا، عن طريق الدين هو خداع وغش لهم واستغلال لوجدانهم ولعاطفتهم الدينية ولحاجتهم الروحية من أجل مكاسب آنية وحسابات سياسية ضيقة. وهذا أمر مدان أخلاقيا وسياسيا لأنه، في نهاية المطاف، يصب في نفس الاتجاه الذي يسلكه من يستغل فقر المواطنين وحاجاتهم لشراء ذممهم وأصواتهم. فالذي يدعو إلى الله أو الذي يقوم بعمل إحساني، فإنما يقوم بذلك، مبدئيا، لوجه الله، طلبا للأجر والثواب. لكن حين «يستثمر» هذا العمل الإحساني والدعوي في السياسة لكسب الأصوات، كأن يدعو من أحسن إليهم أو قام بوعظهم وإرشادهم إلى التصويت لفلان أو علان، أو لدعم هذا الحزب أو ذاك، فإنما يطلب، بذلك، مقابلا «سياسيا»؛ وهو سرقة أقرب منها إلى الطلب. وبهذا ينتفي الهدف الأسمى الذي أوهم به الناس، ويصبح مجرد رشوة انتخابية، لا تختلف في شيء عن تلك التي يدفعها أصحاب «الشكارة». ولذلك، فإن الدعوة إلى عدم استغلال الدين في السياسة تكتسي مشروعية سياسية وأخلاقية ودينية، أيضا، خصوصا وأن من يستجدي أصوات الناخبين لا يميز في ذلك بين المؤمن والملحد، ولا بين التقي والفاسق، بل همه الوحيد هو الوصول إلى «السلطة».
وإذا كانت الدول الديمقراطية، في الغرب، قد حسمت في الأمر بفصل السياسة عن الدين، باعتبار أن السياسة فن الممكن وتدخل في مجال النشاطات التجريبية التي لا تتدخل فيها السماء (كما يقول الشيخ «محمد متولي الشعراوي»)، فإن شعوب العالم الإسلامي، في غالبيتها، لا زالت تعاني من الأنظمة الديكتاتورية الجاثمة على صدرها باسم الدين الذي يتخذ ذريعة لتبرير الاستبداد وتأبيده.
وفيما يخص المغرب، فإنه بالرغم من بعض المكتسبات الديمقراطية التي تحققت بفضل نضالات القوى الديمقراطية وتضحياتها، فإن المشوار لا زال طويلا، والإجهاز على المكتسبات يبقى واردا، ما دام الخلط قائما بين القضايا التي تتدخل فيها السماء والقضايا المتروكة لنشاطات العقول وطموحات النفس البشرية (كما يقول»الشعراوي»). ويجب أن نسجل، في هذا الصدد، بان هذا الخلط لا تركبه الدولة وحدها، بل حتى الأحزاب والحركات السياسية التي تعتبر نفسها إسلامية، ولكل منهما غاياته في ذلك.
وبما أن الأستاذ «أحمد الريسوني»، المسؤول السابق في حزب العدالة والتنمية والرئيس السابق ل»حركة التوحيد والإصلاح»، الجناح الدعوي لهذا الحزب ، يعتبر من منظري هذين التنظيمين، فإنه من باب تحصيل الحاصل القول بأنه من الذين يستعملون الدين لأغراض سياسية. فهو، من جهة، ينتقد التوظيف السياسي للدين من قبل المؤسسات الدينية الرسمية، لكنه، من جهة أخرى، يبارك استعمال الدين من قبل حزب العدالة والتنمية باعتباره حزب المؤمنين الذين «يعيشون للدين وبالدين منذ طفولتهم وفي كل حياتهم، ويضحون بمصالحهم ومكاسبهم وفرصهم لأجل الدين ولأجل الصالح العام، ويعرفهم الناس على هذه الحال واحدا واحدا»(«الريسوني»، جريدة «المساء»، 24 دسمبر 2009). وبهذا يبيح لنفسه ولحزبه ما ينكره على الآخرين. ومن الواضح أن ثنائية الإيمان والإلحاد هي التي تؤطر مواقفه السياسية. فهنا لا مجال لمقولة «لا نزكي على الله أحدا»، بل بالعكس، فهو يزكي على الله هؤلاء الذين «يعيشون للدين وبالدين»، حسب تعبيره، بينما تلصق تهمة الانتماء إلى «فسطاط الكفر»إلى كل من يعارضهم.
أما الحزب الذي ينتمي إليه وينظر له، فمن «حقه» يستعمل الدين ليس فقط في خطابه السياسي وفي الادعاء بتبنيه للمرجعية الإسلامية (والتي لم يظهر لها أي أثر في طريقة تدبيره للشأن العام)، وإنما أيضا من خلال حركة التوحيد والإصلاح التي تستعمل الدعوة كغطاء لأهدافها السياسية. ف»الريسوني»، العضو بالمكتب التنفيذي للحركة، يدعو إلى «الاستغلال الجيد للمساجد ومنابرها». وهذا ما يقع بالفعل. فيكفي أن تستمع إلى بعض الخطباء المنتمين لحركة التوحيد والإصلاح وللعدالة والتنمية أو المتعاطفين معهما، لكي تدرك كيف يتم توظيف خطبة الجمعة (وما أدراك ما خطبة الجمعة!) لتمرير خطاب سياسي كله إيحاءات وكله إشارات، خصوصا حينما يكون البلد في حال تعبئة سياسية مثل أيام الحملة الانتخابية ونحوه. فحين يدعي أحدهم بأن الدين كله سياسة وأن الرسول (ص) هو أول سياسي، دون أن يبين أي مفهوم للسياسة يقصد، فإنما بذلك يغذي الخلط، إما جهلا، وإما قصدا، بين ما هو من قبيل النشاطات التجريبية وبين ما هو من مجال تدخل السماء. فهلا تأمل هذا الخطيب، مثلا، قصة الرسول الكريم مع تلقيح النخل؟ لقد نصح عليه السلام القوم بأن لا يلقحوا النخل، ففعلوا، ولم يأت النخل بالثمر المرجو، مما جعله (ص) يقرهم على ما دأبوا عليه بقوله:»أنتم أعلم بشؤون دنياكم»؛ وهذا يعني أن رسول الله (ص) يعلي من قيمة التجربة الميدانية ومن قيمة العلم المادي. والسياسة، التي أصبحت علما قائما بذاته، أو ليست من صميم النشاطات التجريبية؟ أو ليست تدبيرا وتخطيطا وقرارات، ونحو ذلك...؟ ؟؟ وهل من الضروري أن ندخل السماء في كل هذا؟
إننا لا ندعو إلى حصر الإسلام في الشعائر وفي العبادات؛ أو إلى حصره أيضا في المساجد؛ لكننا ندعو إلى احترام أماكن العبادة وعدم استغلالها سياسيا؛ كما ندعو إلى الترفع عن استغلال الدين من أجل مكاسب سياسية لأن الإسلام هو دين الجميع، ولا يحق لتوجه معين أن يستغله. فإذا كان الدين «محبوب الشعوب»، كما يقول «الريسوني»، ونحن متفقون معه، فإن الحكمة تقتضي أن يبتعد الجميع عن استغلاله وعن جعله مطية لتحقيق مصالح مادية أو معنوية. فالشعب المغربي، المجبول على حب الإسلام، يستحق كل التقدير والاحترام؛ وكل محاولة لاستغلال هذا الحب لتحقيق مكاسب سياسية (انتخابوية، بالأساس) باسم الإيمان وباسم الإسلام، إنما هي تعبير عن قدر غير قليل من الصفاقة ومن عدم الاحترام، ليس فقط للمحب (الذي هو الشعب)، ولكن أيضا للمحبوب (الذي هو الدين).
خلاصة القول، إن ممارسة السياسة، تنظيرا وتطبيقا، اعتمادا على ثنائية الإيمان والإلحاد، هي ليست اختزالا لمجال معقد يتميز بالتعدد والاختلاف فقط، بل هي ممارسة غير أخلاقية وغير ديمقراطية لأنها تقوم على نزعة إلغاء الآخر وإقصائه، إن لم نقل استئصاله، بينما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لم يعلمانا أن نكتفي بجعل الناس (الذين هم شعوب وقبائل)»فسطاطين»، ثم نضفي على أحدهما ما نشاء من أوصاف الهدى والتقى ونرمي الآخر بما نشاء من أوصاف الضلال والفجور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.