اُنظر إليهم مليا، حدِّقْ جيدا في وجوههم، وسحناتهم، أمعن الشَّوْفَ في مظهرهم ومخبرهم، جَرِّبْ أن تبحر قليلا في عيونهم، ستصدك حتما، ستدفعك إلى الوراء، غارسة في لحمك، شوكة الندم، ومطواة العدم. عيون باكية، عيون مطفأة بسبب البرد والجوع، واليتم القاهر؛ عيون شاردة تنظر إليك وأنت تنظر إليها، مشيرة إليك بألف رمش، وألف سبابة لا مرئية، معرية حقيقة الوضع، وكاشفة ترهات السياسة، والخداع، والأكاذيب. تقول بصمت يفتت الحجر الصوان : أين العهود اللواتي، وأين الوعود الحالمات، المضمخات بالعسل، المسربلات بالدعة، وبأغنية الغد الجميل، غد الخبز والماء، والدواء، والكهرباء والتعليم، والطرق السالكة.؟ أين أصوات آبائنا، وأمهاتنا الذين صدقوا الوعد، واستناموا إلى «المعقول» وصبروا ليروا صباحا مشرقا يحمل إليهم البشرى، ويعبد لهم طريق الأماني، وسبيل الكرامة، ومشوار الحق، مشوار التكافؤ، و المساواة، وطمر الماضي الوبيل؟. اُنظر إليهم بعينك، وبعين الحكومة لعل القذى يصيبها، فيدمعها، وقد يدميها لتقف على حال غير الحال، حال تقول بلسان مبين: لم يطرأ شيء، لم يحدث تغيير، الحصار هو الحصار، البرد تفاقم وسكن العظام، وَهَدَّ الرُّضَّعَ، والشيوخ/ الهياكل، والنساء المقرورات المختبئات من الثلج والصقيع، بالثلج والصقيع. أطفالنا، طفلاتنا في القرى القريبة والبعيدة، في المداشر المُخَلَّعَة، والدواوير المنهوكة والمنتهكة، ينتعلون أحذية المطاط المثلوجة، ويلبسون أطمارا وأسمالا كأنها خيام متحركة يئنون تحتها، تئن عظامهم، ونتوءات أجسادهم، وهزال أبدانهم، الجائعة المتضورة، العطشى التي تتحرق إلى شرارة نار، أو لهيب قارورة غازية، وتتشوف إلى خبز ساخن، وقطاني، ودواء لهزم السعال والزكام، وتنتظر بشارة فتح، فتح مسرب في جوف الثلج لإبعاد منجل الموت، ومُدْيةِ الوحدة والعزلة. صور ترفع السبابة متهمة حكومةَ لاهيةَ في المجال والنزال، والكلام تلو الكلام، معلنة حالها، وحالها يدمي القلب، ويكسر الروح، وَيَدُكُّ الكبرياء، ويزري بالبهتان السياسي، واجترار الحديث الذي لا يغني ولا يسمن، بل يقتل كل أمل في الإنقاذ السريع، ورمي حبل النجاة لركاب القارب المثقوب، وساكنة المغرب المعطوب. صور فضحت وتفضح ما تسيل به ألسنة الوزراء والمدراء والكبراء، إذ تَسيل خَلاًّ تُنْقَعُ فيه جراح الفقراء المعوزين، وَتَلِدُ ملحا يُهَيّْجُ الجرح، ويرفع الألم، ويبطئ البُرْءَ والدواء. هل نقول إنها تسيل كذبا وَمَهْلاً وحمأ مسنونا، وربما طيف عدل معمم لن يأتي أبدا، وظل كرامة، وعيشا كريما سرابيا ليس إلا، وفيء دوحة مثقلة بيانع الثمار، لها السلال أياد تحتية تترجى القطاف...؟ أحلام كاذبة، وسراب «بقيعة» عاش في «حماها» شعب يرْزَح تحت نير الفقر الكافر، والأمية الظالمة، والتعليم المترنح المفلس والمأزوم. ولك أيتها الحكومة الرشيدة هدية اليونسكو، الذي حَيَّنَ مجددا التذكير بإفلاس التعليم المغربي، وصنفه في أسفل سافلين، كل ذلك والحكومة لاهية، وهاوية، تتنابز بالألقاب، تَخْرُجُ مبللة من فضيحة، لتغطس بثيابها المزركشة في فضيحة أخرى، وهكذا دواليك. كل هذا يرى ويسمع، والحكومة لاهي هنا، ولا هي هناك، لا هي في قضايا جَدَّ جِدُّها، واشتعل فَتِيلُها ك: قضية التعليم المذكور، وقضية الصحراء المغربية التي لم يعد يعرف عن تطوراتها، الرأي العام الوطني شيئا، فكأنها لا تستنزف جهدا ومجهودا وطنيين، بشريا وحمائيا، وماليا واقتصاديا، وسياسيا، وديبلوماسيا، وحقوقيا، وهلم جَرًّا. أين منها الإجماع الحزبي السياسي؟ وما مبادرة الحكومة في هذا الصدد؟ وهل يحضر الملف ببال بنكيران كرئيس للحكومة، ويوضع على طاولته، أم أن الملف يستوجب الإبعاد والنسيان، طالما أن الأمر لا ينذر بخطر ما، ولا بقلقلة في المدى المنظور؟. والحال أن القلقلة كائنة، وقد تكون عاتية ما لم نَسْتَنْفِرْ عتادنا، وَعُدتنا من الآن، ونضع قرون الاستشعار رهن السهر، والتخطيط التكتيكي، والاستراتيجي قبل أن تباغتنا البغتة، وتَرُجُّنَا الصيحة، ويَنْسَرِبُ الملف الحارق من بين فروج أصابعنا ونحن ننظر. ملفان أوليان أساسيان لأنهما قوام سيادتنا، وركن كينونتنا، وسهم حاضرنا ومستقبلنا، ورهان وجودنا وغدنا. عنيت: الملف الصحراوي، والملف التعليمي، كل ذلك والحكومة غافلة، أو أنها تاركة إياهما إلى حين، بعد أن تنفض اليد من الحارق الاجتماعي. لكن، أية يد تحترق، ونحن نرى، ونبصر أنها مولية الظهر حتى للملفات الأخرى، ومنها تحريك الأجور المجمدة، وتحرير الترقيات المقيدة، وإطلاق الشغل والتشغيل في هذا القطاع، وذاك القطاع، إعمالا لورقة من برنامجها الشامل الكامل، والذي حث على التشغيل، ووعد ألوف الشباب بالعمل على فتح أبواب أمل العمل والوظيفة في وجوههم متى ما وتقوا به، وصدقوا برنامجه، ووعوده، وتقواه وورع أصحابه ، ومنها وَأْدُ الحوار الاجتماعي مع النقابات المهنية بدعوى الأزمة المالية الخانقة، وضعف الاقتصاد الوطني، بينما تقول الحكومة أنها حققت نموا غير مسبوق، وقلصت نسبة العجز، ما يعني أن الاقتصاد الوطني في عافية وأمه راضية. فكيف نحل هذه المفارقة؟ إن لم يكن بالقول إنها من عقابيل التخبط، و»التَّلْفة» وسوء التدبير، ومعاداة الطرف الثاني، الطرف الآخر، المعارض الذي لا يتغنى بأمجاد الحكومة .. هذه الحكومة الوقور الجليلة التي تحسب كل صيحة عليها، وَتُؤَوِّلُ كل خطاب لا يماشيها، بالعدو المبين، الذي يريد أن يخطف الرئاسة والكياسة من رئيس الحكومة، ويُعيده إلى حجمه، قصدت منزوع الدستورية، إلى حزبه بالأحرى. انظر إليهم طويلا لتعرف -السيد رئيس الحكومة- أن نظرتهم المنطفئة، ونضارتهم الذاوية، ونشاطهم الفاتر، وعجزهم عن الحركة والضحك وهم صغار، إدانة ما بعدها إدانة: إدانة لسياسة الحكومة، التي ما فتئت تمطرق رؤوسنا بجليل أعمالها، وسابغ كرمها ونجدتها لعموم الفقراء المحشورين في خواصر، وبواطن وشواهق الدواوير، والجبال، والتلال، يلتفون ببرنس الجوع والمرض والموت البطيء. فأية مفارقة هذه؟ وأي تناقض واضح فاضح لفشل الحكومة التي سلخت أكثر من سنتين، تحكم، وتدبر، وتخطط، وَتُؤَجْرِئُ، وتوجه، وتستهدف، وتضغط على أزندة بنادق خاوية وفارغة. فالتدبير السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي إذا لم يُرَ في الواقع رؤية العين، ويتبلور في شكل معونات عينية ملموسة، وتحققات مادية محسوسة تفيد مباشرة الساكنة الموجوعة، والفئات العريضة المعوزة، ليس بتدبير، بل هو تقصير صارخ، وتمرير مكشوف للأيام، فالشهور، فالسنوات الباقيات على رافعة الكلام، والقفشات، والتكشيرات، والحضورات في الندوات والمهرجانات والتلفزات، والبرلمان، لكن دار لقمان هي دار لقمان. والشاهد على تمرير الأيام في الكلام عوض التدبير الحق، والتشمير الفعلي، ما نسمعه ونقرأه - دوما- عن السيد بنكيران الذي لا يعيا - وربما هي فلسفة حزبه- من كيل التهم للأحزاب التي ليست معه، الأحزاب التي تعارض تدبيره للشأن العام، ورشقها بالنعوت التي لا تليق برئيس حكومة، وزعيم حزب يدعي أنه يترفع عن الصغائر والدنايا، ويتدثر بالصمت عند المُلِّمَات والرزايا. فزيادة على «التبوريدة» المشهورة التي تناولتها في مقال سابق، ونعت خصومه السياسيين بالمغرضين الذين يتحينون خسرانه، وينتظرون سقوطه، أو يعملون على إسقاطه، تصدى يوم السبت الفارط بمناسبة انعقاد المجلس الوطني لمستشاري حزبه، للأمين العام لحزب الاستقلال، حيث نعته برمز الفساد، كما غمز من قناة الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي. وتهجم - في نفس «المحفل الرهيب»- على حزب الأصالة والمعاصرة، ناعتا إياه بما يفيد أنه حزب مُعَوَّقٌ، وُلِدَ وهو يحمل معه عيوبا خلقية. أما التفسير الوحيد لهذه الخرجات غير المتحكم فيها، والتهجمات المنفلتة من عقالها، فيَكْمُنُ في كون هؤلاء معارضين له، ولسياسته التدبيرية، و»تطبيقاته» الأحادية ليس إلا، وتكمن في ضَيْق صدره، وعناده ولجاجته اللامبررة في عدم اعتراضه بضياع أكثر من سنتين في «الهدر طُوِّلَتْ خُطَبُه» على حد تعبير الشاعر البحتري، وفي اللاشيء. بماذا أتى «الربيع» إلى المغرب؟ وفيم كان نهوض 20 فبراير؟ وماذا فعل دستور استفتي حوله، وصودق عليه، للمواطنين العُزَل، الذين لا حاضر ولا مستقبل لهم، الذين لهم العراء غطاء، والصمت ملاذ وثواء؟ . لماذا تصرون على الكلام عوض العمل، وتسامحون الفاسدين والمفسدين، لصوص المال العام، بجرة عبارة قاتلة وَمُخْزية وَمُجَنْدِلَة بما لا يقاس لبرنامج حزب رئيس الحكومة، وهي العبارة التالية : (عفا الله عما سلف).. لقد كان على بنكيران أن يضيف: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»؟، إمعانًا في الإيضاح والتفسير. هل من المعقول، وكنتم بنيتم برنامج الاستحقاق التشريعي على «المعقول»، أن تُدِيرُوا للفساد ظهر المِجَن، أنتم الذين هِجْتُم وَمِجْتُمْ، وتقافزتم كما في سيرك مجنون، وأغلظتم الأيمان بأنكم ستستأصلون الفساد من جذوره، إذ هو رهانكم على البقاء أو الفناء، لم تفنوا بل بقيتم و»اسْتَكْرَسْتُمْ» لأن البقرة حلوب، والضرع مدرار، والمال يأتي ، من حيث لا تَحْتَسِبون، بالقنطار. كيف لحكومة، كيف لرُبَّان سفينتها أن يرفع اليد مستسلما أمام جائحة الرشوة والفساد، ويقول: لا قِبَلَ لِي بمحاربة الرشوة، ساعدوني «عَفَاكُم». طَلَبْتَ ذات ضائقة وكارثة ألمت بساكنة الأطلس وسط ثلوج قبل أكثر من سنة، «يد الله»، فتسارعت أيدي الجمعيات الاجتماعية، والتربوية والحقوقية والنسائية، لتنقذ ما يمكن إنقاذه، سارعت بالخضر، والفواكه، وعلب السردين، والجبن، والألبسة المستعملة، والبطانيات. غير أن الحكومة التي تعيش هاجس خوف سحب البساط من تحت أرجلها، والتي تريد الاحتكار والاحتقار، أوقفت هذه المساعي النبيلة، وحرمت، بالتالي، ساكنة ظمأى للمزيد، تحت دعوى عقلنة توزيع الإمداد، وترشيده، وتكليف السلطات المحلية والإقليمية بالإشراف على العمليات الإحسانية، لا الجمعيات. فماذا تسمى هذه الفذلكة الماكرة غير الاحتكار، والهيمنة، وتوجيه المسألة بحسبان الانتخابات الجماعية التي تلوح في الأفق؟. آلاف العربات المدفوعة، آلاف العربات المجرورة، والعربات ذوات المحرك، تحمل الخضر، والفواكه من كل نوع ولون، تسد المنافذ، والمداخل، تخنق حركة المرور، تملأ الرحب والساحات، والحواري، والأزقة والشوارع، دفعا لغائلة الجوع والفقر، تطرح مشكلا جسيما على المتاجرة القانونية المضبوطة والبيع القار في المحلات والدكاكين، فيما هي تطرح مشكلا على نفسها وهي تلعب لعبة الكر والفر مع السلطات العمومية، ثم وهي تحكي بطريقتها بؤس الحال، وتعري الفروق الاجتماعية، والهوة الطبقية التي تَنْحَفِرُ وتتوسع يوما على ظهر يوم. آلاف المتسولين والمتسولات من كل حَافٍ وَعَارٍ، وَمُقْعَدٍ، وأعمى، أطفال ونساء ورجال، يسدون عين الشمس، ينسجون في المفترقات، وعند المحطات المختلفة، وشارات المرور، الدعاوي، والأدعية الصادقة والماكرة، والأكاذيب الحاذقة، وَيَخْتَلِقُون سِيرًا خيالية طمعا في الخبز والمال في واقع لم يتح لهم فرص العمل، أوهم من استمرأ التسول والاستعطاء لأنه يدر من دون تعب، ولك أنْتَ أن تتحدث عن الكرامة كيفما شئت !!. أحزمة فقر تُزَنِّرُ المدن، تُفَرِّخُ الجريمة، وتهدد الأمن العام. عمال يُسَرَّحُونَ، ولا مُدَافِع، ولا مستجيب لأوضاعهم، ومآسيهم هم وأبناؤهم الذين يصبحون - بين عشية وضحاها- مهددين في قوتهم، وتعليمهم، ووجودهم الكريم. اُنظروا جميعكم إليهم، تأملوا هذه الصور القاتمة وغيرها، وقولوا هل صحيح أنكم على الطريق الصحيح، وأن الكرامة والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم، متوفرة موفورة، وقد مست جميع الفئات وخصوصا المحرومة والمغبونة، ووصلت إلى أبعد قرية ومدشر ودوار ودار؟. هل فكت الحصار عن الأطفال والشيوخ والنساء؟ هل أطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف؟ فإذا لم تَحِيرُوا جوابا، فأعلنوا صراحة أنكم لاَهُونَ مُسَرْنَمُونَ ليس غير، وأنكم بين المطرقة والسندان، ولنا ولكم في» مصر» عبرة وعنوان، تماما كبقية الشعب الذي شجت مطرقة الغلاء والإحباط رأسه، وَهَرَسَهُ سندان الهشاشة، والفقر واليأس، وسراب الانتظار الكاذب.. «انتظار الذي يأتي ولايأتي» كما قال المرحوم صامويل بيكيت Bekett Samuel. إشارات: 1 - إشادة صندوق النقد الدولي (النكد الدولي) بصمود الاقتصاد الوطني في وجه القلاقل والزوابع، ورضاه عن حكومة بنكيران بالتلازم، لا تعني شيئا بالنسبة للنابهين والعارفين إذ أن المباركة إياها وبال على جيب وقوت السواد الأعظم من المواطنين، وتعني في ما تعنيه، اطمئنان البنك لنجاح حكومة المغرب في الحفاظ على التوازنات المالية ضدا على تحسين الوضعية الاجتماعية للمواطنين.. في العيش الكريم. وتعني : تجميد الأجور، وتقليص مناصب التوظيف، وتفويت بعض المؤسسات العمومية إلى القطاع الخاص (خصخصتها)، وإغلاق باب الحوار الاجتماعي، ورفع الدعم عن المواد والخدمات الاجتماعية الأساسية، ومن ثم، فأي تهليل لهذه الإشادة - في ما يفعل بنكيران وصحبة- ما هو إلا تضليل، ومداراة لِلْنَّزْفِ الذي تعرفه البلاد، وتفاقم سوء الأحوال المعيشية للمواطنين. 2 - اسْتَكْرَسْتُمْ: معناها التصقتم بالكراسي، وتشبثم بها كالرضيع يُعْوِلُ ليل نهار خوفا من الفطام. وهي كلمة نحتها الراحل الزعيم اللبناني (كمال جنبلاط).