قمة "تيكاد 9".. المغرب يعزز موقعه الاستراتيجي والجزائر تواجه عزلة دبلوماسية متزايدة    الأمم المتحدة تشيد ب"كرم" الملك محمد السادس على إثر المساعدات الإنسانية إلى غزة    اعتماد الانتقاء عبر الملفات بدل الامتحانات في ولوج الماستر    الخميس تحت الشمس والغيوم.. حرارة مرتفعة وأمطار متفرقة    الرابور مورو يحيي حفل ضخم بالبيضاء بشبابيك مغلقة    عيد الشباب.. الملك محمد السادس يصدر عفوه السامي على 591 شخصا    تعيين سيدي معاد شيخًا للطريقة البودشيشية: إرادة مولوية سامية ورؤية ربانية    فاس: توقيف شخص تورط في تزوير المحررات واستعمالها في إعداد ملفات تأشيرات 'شينغن'    سامويل ولُولي... حين قادهم الطريق إلى بيت الجار        ارتفاع عدد الموقوفين في قضية هتك عرض قاصر بموسم مولاي عبد الله    إطلاق ميزة الدبلجة الصوتية بالذكاء الاصطناعي في "فيسبوك" و"إنستغرام"        حجز عجول بميناء طنجة .. ومستوردون يوقفون الاستيراد بسبب الرسوم    الملك يهنئ هنغاريا بالعيد الوطني    توجيهات جديدة لضمان التطبيق السليم للعقوبات البديلة في المغرب    كريستوف بوتان بخوص المساعدات الإنسانية لغزة: بفضل نفوذه الشخصي ومكانته الخاصة الملك محمد السادس الوحيد القادر على مثل هذه المبادرات    البيت الأبيض يطلق حسابه الرسمي على منصة "تيك توك" الصينية    خطة السيطرة على غزة .. تصعيد عسكري يهدد مباحثات الهدنة بالانهيار    إيران تهدد باستخدام صواريخ جديدة    تحقيق بفرنسا إثر وفاة مدوّن فيديو    أوروبا تسجل رقماً قياسياً في إصابات الأمراض المنقولة عن طريق البعوض            مقاولات المغرب الصغرى والمتوسطة "تحت رحمة" الأزمة: 90% منها لا تجد تمويلا بنكيا    دراسة: أجهزة السمع تقلل خطر الخرف لدى كبار السن بنسبة تفوق 60%    تقرير: ثلث شباب المغرب عاطلون والقطاع غير المهيكل يبتلع فرص الشغل            للمرة الثالثة: الموقف الياباني من البوليساريو يصفع الجزائر وصنيعتها.. دلالات استراتيجية وانتصار دبلوماسي جديد للمغرب    مدرب تنزانيا: مواجهة المغرب في الشان مهمة معقدة أمام خصم يملك خبرة كبيرة    إطلاق فيديو كليب "رمشا الكحولي" بتوقيع المخرج علي رشاد        شباب الريف الحسيمي يواصل تعزيز صفوفه بتعاقدات جديدة        أمين عدلي ينتقل إلى الدوري الإنجليزي في صفقة ضخمة    إيزاك يخرج عن صمته: "فقدت الثقة بنيوكاسل ولا يمكن للعلاقة أن تستمر"    أمن طنجة يوقف مواطن دنماركي مبحوثا عنه دوليا    تمهيدا لتشغيل الميناء.. إطلاق دراسة لاستشراف احتياجات السكن في الناظور والدريوش        المغرب يعزز مكانته كقوة إقليمية في قلب التنافس الدولي بالصحراء والساحل    مبابي يقود ريال مدريد لتحقيق أول انتصار في الموسم الجديد    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفن المعاصر بمدينة ميدلت    حجز 14 طنا من البطاطس بتطوان قبل توجيهها للبيع لانعدام شروط النظافة والسلامة    البطولة الإحترافية 2025/2026: المرشحون والوجوه الجديدة ومباريات الجولة الأولى في إعلان MelBet    بدر لحريزي يفوز بمنصب ممثل كرة القدم النسوية في عصبة الرباط سلا القنيطرة    تكريمات تسعد مقاومين في خريبكة    المركز الفرنسي للسينما يكرّم المخرجة المغربية جنيني ضمن سلسلة "الرائدات"    10 أعمال مغربية ضمن قائمة ال9 لأفضل الأعمال في جائزة كتارا للرواية العربية    وزارة الصحة تطلق صفقة ضخمة تتجاوز 100 مليون درهم لتعزيز قدرات التشخيص الوبائي    مهرجان سينما الشاطئ يحط الرحال بأكادير    دراسة: المعمرون فوق المئة أقل عرضة للإصابة بالأمراض المتعددة    خبيرة أمريكية تكشف مدة النوم الضرورية للأطفال للتركيز والتفوق    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خُدعة الأحلام في رواية «تل الخزامي» لعبد الوهاب الرامي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 10 - 2018

منذ بداية الألفية الثالثة، حصل تراكم في السرد الروائي المغربي يحيل على نضج وثراء التجربة السردية مثلما يفيد تنوع الأشكال التعبيرية بين عمل وآخر، وكل هذا مرتبط بالمساحة التخيلية للكتاب المغاربة. واللافت في هذا التنوع هو انخراط الكتاب في المسير الروائي المغربي من خارج شعبة الأدب العربي، حيث قدموا إلى هذا الفعل الكتابي من مجالات علمية ومهنية مختلفة كالطب، والفلسفة، والتاريخ، وعلوم الإعلام، وما إلى ذلك. ويعبر هذا بجلاء عن الإغراء التخييلي الذي يستقطب المنشغلين به خارج الأدب. وقد يكون هذا الخرق نفسه موضوعة سوسيولوجية تفترض الانشغال البحثي فيها.

إن التراكم الحاصل في المنشورات الروائية، وما يحمله من اختلاف وتنوع الأبعاد التخييلية وطرائق الكتابة، من الواقعية السحرية إلى الرواية التاريخية، مرورا بالغرائبية والعجائبية، وغيرها كثير، هو ما يدفع القارئ إلى النظر في هذه الأعمال نظرة إبداعية نقدية تراهن على الفسيفساء الجميلة التي ترسم معالم الرواية المغربية. وقد حصدت الرواية المغربية جوائز مهمة في العالم العربي، ووصلت إلى لوائحها القصيرة، مثلما فتحت المغرب على نوافذه السردية. وقد نقول، بقليل من المكر، إن متابعتنا للإصدارات الروائية في العقدين الأخيرين، وتقديم بعضها للقراء تشكل منصة استراتيجية بالنسبة لنا، لاعتبارات متعددة، أولها أن قدَر الكتاب المغاربة أن يكتبوا عن بعضهم البعض بدل انتظار الشرق كي يقوم بذلك، وثانيها لتحفيز القراء أكثر على متابعة الأعمال الروائية المغربية.
ولأن الأمر كذلك، فنحن ننخرط في هذه المغامرة النقدية، من جانب، لبسط حدود القراءة والتأويل، ومن جانب آخر، لوصل المتعة بمؤانسة القراء.
من هنا أعرض عملا روائيا صدر مؤخرا هو “تل الخزامى” للكاتب “عبد الوهاب الرامي”، هذا الأخير القادم من علوم الإعلام والاتصال إلى الأدب، والذي راكم حسب ما تبينه سيرته الحياتية ما يربو على عشرين مؤلفا، منها، ما عدا ما يتصل بحقل تخصصه الأصلي، روايتان باللغة العربية وثالثة بالفرنسية وديوانا شعر.
دائما تكون البداية مقلقة ومفتوحة على طرق متعددة، وكأن كل طريق يحيل على مقاربة مفترضة. كما أن الرواية المطروحة في الطرقات لا تعتمد البدء من الحرف الأول لتجد نهايتها في الصفحة الأخيرة، بقدر ما تكون الصفحات البيضاء، قبل البدء وبعد الختم، أفقا للقراءة والتخييل، مثلما قد يركز القارئ على حدث حكائي بسيط يجعل منه بؤرة رئيسة في الحكي ، وهكذا دواليك.
لنتوقف عند عنوان الرواية، والذي ينم في بساطته الظاهرية عن الطبيعة في بعدي العنوان “تل/الخزامى”، بينما العنوان الفرعي “عودة آل مرقوب” يشير إلى دلالة عودة شخصية من شخوص الرواية. بين العنوان الأول والثاني مساحة العام والخاص، اللامحدود والمحدود. وبينهما بياض يوقظ فضول القارئ، ويدغدغ مساماته لمعرفة هذا الذي يكون “بين- بين”، وكأن “بين- بين” هو السؤال الرئيس في الرواية. صحيح أن القارئ سيجد تطابقا ماهويا بين العنوان والرواية، يعني هذا أن الكاتب لا يضلل متلقيه، ولا يكذب عليه حتى وإن كان الكذب أجمل ما في الأدب. فالمؤلف لم يقدم عمله بتسمية مطابقة للعالم الغرائبي والعجائبي الذي رسمه في الرواية، واختار، من جهة، تسمية “الخزامى” وما تتضمنه من روائح أسطورية وخرافية حد التوحش، ومن جهة ثانية، ما يدل عليه “آل مرقوب” من غرابة فارقة.
لنتواطأ مع الرواية ومؤلفها، ولنقل إن الروائي حر في اختيار العنوان الذي يريد. ولنبدأ برسم حدود ممكنة لقراءة هذا النص، من قبيل: بنية التحول/المسخ (1)؛ غرابة الأسماء والأمكنة (2)؛ بنية الحلم (3)؛ خدعة الأسماء والأمكنة/التاريخ والجغرافيا (4).
1 – غرابة الأسماء والأمكنة :
تكمن أهمية رواية عبد الوهاب الرامي في أنها تروم خدعة القارئ. فحين قراءتها يحصل لديك اعتقاد أن تفاصيلها موجودة في الأرشيف الاستعماري، أو في ما قبل التاريخ، أو في حكاية خرافية قديمة محفورة في الذاكرة الجماعية لشعب أو منطقة ما. لكن حين الغوص فيها، تجد جميع افتراضاتك محروقة على الطاولة، وكأن الكاتب ينحت عالمه السردي من داخل وخارج التاريخ والخرافة والأسطورة، وما إلى ذلك من النصوص المحكية المخبوءة في مكان قصي. ولعل هذه الخدعة هي الداعي الأول لكتابتها حيث الأسماء محجوبة بالغرابة، وموشومة بالعجيب المدهش إلى حد يتصور للقارئ أنه أمام أسماء العفاريت التي نسيها النبي سليمان في مدونته الكبيرة، هذا بينما زمن الرواية لامحدود أو، بالأحرى، لا يشير إلى أية علامة دالة على واقعة ما.
لنتأمل، تدليلا على ذلك، أسماء شخوص الرواية: حنيشة، ريعانة، سنوم، شهلب، هلام، فوالة، رقيوش، هشيل، صندر، سعالة، جقالة، مرقوب، دغيشة، شهالة، طحرور، خرباب، برغوط، قرموط، إلخ.
ولو ابتعدنا عن هذه الوسومات الغرائبية قليلا، سنجد، من موقع آخر، أن غرابة بعض الأسماء تقوم على مفارقتها للجغرافيا والتاريخ معا، خصوصا أنها تستند إلى الشرف كبنية دالة على علية القوم ومرتبتهم في الوجود. فالشخوص يتخاطبون بإضافة “سيدي، وللّا” للأسماء الشخصية، وهما صفتان معروفتان عند الأشراف المغاربة. وفي ذلك دلالة عميقة على ربط الغرابة بالواقع المغربي.
إلا أن الغريب يتجاوز هذه المسميات لينكشف في العلائق التي تربط أفراد القبيلة، أي في طقوس قبيلة “آل برغوط” التي تمتح من رمزية “سيدي برغوط” حيث خرافة الاسم وتضاعيفه المتعددة ترتقيان به إلى سلطة فوقية مطلقة “وكان ضريح سيدي برغوط يبدو منتصبا فوق “تل الخزامى” وكأنه يرعى القبيلة من فوق…” (ص. 11).
فهذا الولي، ذو الرمزية المستبدة، هو الثاني في تراتبية مرجعيات القبيلة بعد “سيدي هلام”، إلا أن قوته نابعة من الخوارق المتداولة بين أهل القبيلة. إنه السلطة القاهرة في لاشعورها لدرجة لا يحق معها اللجوء لبركاته إلا في الأمور الجسام حين يستعصي الأمر ويستشكل على الجموع.
هكذا يكون ضريح سيدي برغوط أحد المفاتيح الرئيسة لقراءة غرابة الأسماء وحدودها التراتبية، مثلما تشكل الطقوس الناظمة للقبيلة شرطا ضروريا في بنية القرابة والزواج، وما إلى ذلك، فتتحدد القبيلة في نظامها المادي والرمزي الخاضع – بالضرورة- لتل الخزامى أو مقام سيدي برغوط. إنه نظام صارم يخضع له الجميع خضوعا تاما، وهو مراقب دون هوادة من مجلس الشيوخ السبعة عشر الذين “ينقسمون هم أنفسهم إلى متزوجين وغير متزوجين” (ص. 13)، ولا يمكن، في نفس المنحى، لأحدهم أن يترأس هذا المجلس إلا إذا كان مرتبطا بالضريح. أما نظام القرابة داخل القبيلة فهو أكثر غرابة من الأسماء ذاتها، ذلك أنه لا يحق الزواج داخل الأسرة الواحدة إلا لمن ولدوا وفق حساب الأعداد الفردية، ذكورا كانوا أو إناثا. وهي طريقة نظامية تهدف من ورائها القبيلة إلى “تأمين الإعمار والبقاء” (ص. 13). بهذا المعنى ينكشف نظام القبيلة بطقوسها الرمزية في الولادة، والموت والزواج وغيرها من العلامات الفارقة المؤسسة للحْمة القبيلة والناظمة لها (ص. 14). ولا يستقيم النظام القبلي المسطر إلا بالخضوع التام لمجلس الشيوخ، ولميثاقها الموقع بالدم على لوحة طينية. “(…) وكانت اثنتا عشرة قطرة كافية لتبني قرار المجلس كما تقضي بذلك طقوس العهد الأكبر” (ص. 186). فإذا كان الدم ناظما رئيسا في بنية القبيلة قديما وحديثا، فإنه يتخذ داخل هذه القبيلة ميثاق شرف فوقي يُلزم الجميع على الامتثال والخضوع التامين لما يتم التعاقد حوله.
لا غرو إذن أن تكون الغرابة أساس البناء الروائي في “تل الخزامى”، إن على مستوى الأسماء أو الطقوس. فمثلا على صعيد الأخلاقيات التي تسنها القبيلة حين القران بين “سيدي” و”للّا، قضت المجالس المتعاقبة “ألا تعبّر المرأة المتزوجة أبدا عن حبها لزوجها قوْلا خلال فترة معاشرتهما ولو طالت دهرا” (ص. 15).
وتتجلى الغرابة كذلك في الأمكنة الموظفة في الرواية. فالمتمرد من القبيلة يُرمى به إلى ما وراء “هضبة الشوك” خارج تخوم القبيلة، وهو مكان سحيق عامر بحيوانات أسطورية، إنه الجحيم بجميع الأوصاف الممكنة، بينما الخاضع للقبيلة يعيش في الأمن والطمأنينة.
إجمالا، إن الرواية ملغومة بالمفارقات العجيبة والغريبة، وهو ما يدفع بالتحول/المسخ إلى حدوده القصوى داخل هذا المتن التخييلي.
2 – بنية التحول :
حاولنا في قراءتنا لبعض الروايات المغربية الوقوف على موضوعة التحول باعتبارها بنية ثابتة في السرد المغربي المعاصر (منتوج الألفية الثالثة)، وها هي تتضح في هذا النص الروائي. فالتحول يحيل على معنيين يفيد الأول التبدل والتغير، فيما يدل الثاني على المسْخ métamorphose.
يهمنا في هذا المقام، أساسا، هو ضبط الدلالة الأخيرة للتحول. إن فرضية التحول/المسخ مبررة في غرائبية الرواية حيث يكون المسخ مكوِّنا مهيكِلا من مكوناتها، وشكلا رئيسيا في بنائها العام. فحين مقاربة تمظهرات السلطة عامة داخل نظام ضبط القبيلة، على اعتبار أن سلطة الشيخ برانية، وسلطة “سعالة” اللامحدودة منبنية على المعرفة ببواطن الأمور، إذ هي الوحيدة القادرة – بعد الولي الصالح- على وهب الحياة للرجال، ومنح الشيوخ سعادة جنسية كبيرة (ص. 34)، يمكننا أن نزعم، بالنظر إلى رموز السلطة، بتحول القضيب إلى لسان امرأة. فسعالة تجسد حقا هذا الرمز، بوصفها المتحكمة في دواليب القبيلة والعارفة بأسراها الدفينة والقادرة على حبك الأحلام والحكايا رغبة في مصلحتها البعيدة. إن السلطة الذكورية المرتبطة بالقضيب تنهار في الرواية لصالح اللسان الذي يتحول هو ذاته إلى قضيب رمزي.
وللتحول لبوس أخرى في متن محكيات الرواية، وهو ما يجسده النموذج/المشهد التالي (ص. 46):
“استدرك صوت سعالة وقد أصبح خشنا لحد الإفزاع:
– لا أنا لست سعالة يا للا ريعانة، أنا برغوط بعظمه، ولحمه، ودمه.
التفتت سعالة، فانطرحت ريعانة أرضا وهي ترى أمامها وجها سحابيا ذا لحية بيضاء طافحة.”
إذ يحدث هنا مسخ هلامي لشخصية بدل أخرى. وبلغة أدق، تتلبس “سعالة” شيخها سيدي برغوط، وكأن هذا الفعل يحيل على تغيير في موازين القوى داخل القبيلة أو بالأحرى تبادل رمزي بين القضيب واللسان، حتى وإن كان هذا الأخير برانيا في حين يعود إلى الاحتجاب في العلاقات الخاصة جدا، وهي العلاقات المحرمة في نظام آل برغوط : “- لا تنسيْ يا للا سعالة أنك أصبحت عضوا في مجلس الشيوخ. وإذا لم يعتبر الشيوخ هذا الأمر بدعة، فلأنني أعددتُ النفوس لتقبل هذا الخرق السافر للأعراف كضرورة ملحّة، وكذلك تلبية لنداء سيدي برغوط كما فسّرتُ لهم (ص. 119).
إن القيمة المائزة في هذا النص الروائي هو تحولات العجيب والغريب فيه، حتى وإن كان متخيّلا في بعديه الأول والأخير. فالتحول لا يمس شخوص الرواية فحسب، وإنما أمكنتها وحيواناتها، حتى يخال لقارئ الرواية أن الشخصية المتحكمة في تحويل الرموز والعلامات والشخوص والأحلام هي المالكة للسلطة، وإن كانت غير مؤهلة نظاميا لها. إن مركزية التحول تبدو – في نظرنا- في تغيير عتبة البركة من سيدي برغوط إلى للا حنيشة. “وبدونك (للا حنيشة) ليس هناك لا سيدي برغوط ولا بركته ! أفهمت الآن ؟” (ص. 129).
وكأننا أمام خدع مثالية يجسد فيها “الشيخ الأكبر” صحبة للاسعالة سلطة قاهرة، إلا أن الخدعة تنكشف في آخر المطاف، وتنكشف معها الأقنعة الدالة على المسخ لتعود الأمور إلى مقامها الأول. مثل الطفلة حنيشة (ابنة سيدي مرقوب وللا ريعانة) التي شكلتها ونحتتها سعالة عبر إيهام الجميع بولادة حنيشة بشعر أخضر، أو باستغلال عيد ميلاد الطفلة لتلفيق حقائق تلزم الجميع بالطاعة والإذعان. إلا أن هذا الأمر سيتم فضحه وتظهير التباساته المتعددة من خلال التحول الذي وقع لبعض شخوص الرواية كفوالة، وصندر، وشهلب.
3 – بنية الحلم/ رواية الأحلام
يمكننا وصف عمل الرامي هذا برواية الأحلام. ماذا يعني ذلك ؟ فهذا التخييل الروائي ذو حمولة عجائبية وغرائبية ليس فقط في أسماء الشخوص والأمكنة بل في البنية الحكائية ذاتها، ذلك أن الحلم هو الرافعة الرئيسة لهذه البنية، أو بالأحرى هي بنية الرواية ككل، والرائع فيها هو التساوق المتناغم بين المكان والحلم، بين تأويل الأحلام والرغبة في السلطة إلى حد أن أضحى سارد الأحلام سلطة بعينها في مجلس الشيوخ. وأكثر من ذلك فالتبئيرات المتعددة في الرواية عبارة عن أحلام، حيث يكون الصراع على سلطة امتلاك ناصية تفسير الحلم. وقد يكون الحلم كذلك بداية لحكاية جديدة. إن الرواية تعجن تسلسل الأحلام إلى حدود يبيت معها الحلم في الأخير وهما من أوهام السلطة.
فهذا التسلسل العجيب لحكي الأحلام لا يستقيم إلا حين وقوع الأزمة، أزمة ما في السلطة ومحيطها، إضافة إلى كونه بوصلة السارد يرتق به الفصول والشخوص والأمكنة.
والحلم في تقليد التحليل النفسي هو مصدر الحقيقة. فهو لا يقدم نفسه بوضوح بقدر ما يختفي وراء الكلمات والأشياء، كما وراء الشخوص وواقعهم المادي. إنه – كما تظهره الرواية – خدعة يرغب الحالم من وراء سردها مصلحة معينة. ويتمثل ذلك في الصفحات 24، 29، 39، 57، 71، 82، 91، 86، 62). “إن الحلم خطاب من سيدي برغوط، يجب أن ندركه ونعمل به، وإلا سقطت علينا الصخرة العظيمة !” (ص. 91). إذا تابعنا سيرورة الأحلام في هذه الرواية، سنتحصل على المصدر الذي تتأسس عليه والمتجسد في سيدي برغوط، الضامن القوي لتدبير سياسته القبلية من خلال أحلام شيوخها. واللافت للنظر، من جانب آخر، هو مركزة الأحلام عند للاسعالة، هذه المرأة المالكة لقوى خارقة، إن على مستوى تفسير وتأويل الأحلام أو توجيهها نحو ما تريد الوصول إليه، وكذلك لمعرفتها اليقينية بمجاهل القبيلة، هي القريبة من ركيزتها الأساس المتمثلة في ضريحها المقدس، والتي بإمكانها وهب سعادة خاصة لشيوخ القبيلة…
إنها المرأة المالكة للنجوم، والليل، وتفاصيل المخبوء. ولأنها كذلك، فالرغبة في خرق محرم القبيلة لا يستقيم إلا بإبداع الأحلام وروايتها، أو بالتواطؤ مع آخرين لخلق أحلام أخرى يكون فيها سيدي برغوط شاهدا عليها.
إن تفكيك البؤر الحكائية المستندة إلى الحلم يحيل على مسألة رئيسة، وهي البحث عن الاكتمال، والقطع مع النقصان الذي تعيشه بعض الشخوص الروائية كسعالة وفوالة، وصندر، وشهلب… وهؤلاء غير متزوجين ومحرومون من ملامسة النساء حتى وإن كانوا يمارسون الجنس خفية، أو على الأقل يمارسونه برعب شديد: الخوف من نظام القبيلة الصارم الذي لا يبيح لهم الزواج، من جهة، والتوجس مما قد يصيبهم من سيدي برغوط/سيد القبيلة، من جهة ثانية. بين التحريم والمآل إمكانيات للخرق، وهي الإمكانيات التي عرفتها البشرية منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا. وتكون البداية في المخيال الجمعي امرأة/حواء. أما في الرواية الغريبة (تل الخزامى)، فمصدر الخرق والخطأ هي سعالة، وكأن سر المرأة نابع من امتلاكها للخدعة، وامتلاك هذه الأخيرة يفيد تملكها للسلطة.
ذلك أن السلطة الحقيقية في المجتمع هي للمرأة بينما الرجل لا يمتلك سوى الظاهر والقانون والنهار. إن الرواية تقيم هذا الخلط العجائبي مثلما تموسقه بنوتات الغريب والمدهش. وبذلك تفتح “تل الخزامى” نافذة أخرى في الرواية المغربية.
4 – بنية الخدعة :
لقد حاولنا النظر إلى الخدعة، في ما سلف، في تجلياتها المتعددة وبنياتها الرئيسة. وإذا كانت الخدعة عنصرا مركزيا في الرواية الكلاسيكية أو في النصوص الكبرى في السرد العربي، فإن الكاتب اشتغل عليها هنا من خلال طريقين مفتوحين على التظهير والتوضيح. فالخدعة تنبني على الغريب ما دام هذا الأخير يتضمن الأولى، إلا أنه، في سياق آخر، يبدو أن السارد أعيته الحكاية، وأراد إنهاءها بكل الطرق إمكانا حتى وإن كانت له اختيارات سردية متعددة. إلا أنه رأى في تبسيطها وتوضيحها أنموذجا ممكنا يستقر إليه القارئ في نهاية الرواية حيث ينفضح الجميع، وتتجلى حقيقة شَعر حنيشة، وموت خليلة شهلب، وخرق عقل صندر، ونهاية فوالة، وانتحار سعالة مدبرة الخدع. هكذا ينكشف الجميع، الراوي وشخوصه، مثلما ينكشف الروائي عبد الوهاب الرامي بين بساطة العنوان وغرابة الرواية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.