الخدمة العسكرية .. الفوج ال40 يؤدي القسم بالمركز الثاني لتكوين المجندين بتادلة    كأس إفريقيا .. المنتخبان التنزاني والأوغندي يقتسمان نقاط المباراة    كأس إفريقيا .. لا غالب و لا مغلوب في مواجهة السنغال والكونغو الديموقراطية    كأس إفريقيا .. نيجيريا تفوز على تونس و تعبر إلى دور الثمن    مصرع عشريني في اصطدام مروّع بين دراجة نارية وسيارة بطنجة    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    أزيد من 2600 مستفيد من قافلة طبية متعددة التخصصات بخنيفرة    عدوان إسرائيلي على وحدة الصومال    زخات رعدية قوية وتساقطات ثلجية مرتقبة بعدد من مناطق المغرب حتى الاثنين    "نسور" نيجيريا تنقض على تونس    تعادل مثير بين السنغال والكونغو الديموقراطية يبقي الصراع مفتوحًا في المجموعة الرابعة    كُرةٌ تَدُورُ.. وقُلُوبٌ تلهثُ مَعَها    العرض الرقمي الأول لفيلم عباسي    علماء روس يبتكرون مادة مسامية لتسريع شفاء العظام        اللجنة المحلية ل"كان 2025″ بأكادير تؤكد إلزامية التذاكر القانونية وتنبه إلى احترام القواعد التنظيمية    تعبئة استباقية وتدخلات ميدانية ناجعة بالجديدة لمواجهة التقلبات المناخية        أرض الصومال تعيش "حلم الاعتراف الإسرائيلي".. ودول إسلامية غاضبة    النيجر يعلن "التعبئة" ضد الجهاديين    "الجمعية الوطنية للمحامين بالمغرب" تطلب تدخّلًا أمميًا لحماية "استقلال المهنة وحصانة الدفاع"    لجنة الإشراف تراجع خطة العمل الوطنية للحكومة المنفتحة    القصر الكبير .. تنظيم ندوة فكرية هامة في موضوع "المدرسة المغربية وبناء القيم: الواقع والانتظارات"    ورزازات في الواجهة : العلامة الترابية "زوروا ورزازات" visit OUARZAZATE تتصدر مؤلَّفًا دوليًا مرجعيًا في إدارة العلامات التجارية بين الشركات    الخدمة العسكرية.. الفوج ال40 يؤدي القسم بالمركز الثاني لتكوين المجندين بتادلة في ختام تكوينه الأساسي    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    بنين تحقق انتصاراً ثميناً على بوتسوانا بهدف نظيف    أمطار رعدية وثلوج مرتقبة بعدد من مناطق المغرب    بورصة البيضاء .. ملخص الأداء الأسبوعي    انطلاق فعاليات مهرجان نسائم التراث في نسخته الثانية بالحسيمة    المسيحيون المغاربة يقيمون صلوات لدوام الاستقرار وتألق "أسود الأطلس"    الطقس يعلق الدراسة بإقليم تارودانت    فيضانات آسفي تكشف وضعية الهشاشة التي تعيشها النساء وسط مطالب بإدماج مقاربة النوع في تدبير الكوارث    أوامر بمغادرة الاتحاد الأوروبي تطال 6670 مغربياً خلال الربع الثالث من السنة    نسبة الملء 83% بسد وادي المخازن    علماء يبتكرون جهازا يكشف السرطان بدقة عالية    مقتل إسرائيليين في هجوم شمال إسرائيل والجيش يستعد لعملية في الضفة الغربية    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    من جلد الحيوان إلى قميص الفريق: كرة القدم بوصفها طوطمية ناعمة    الانخفاض ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    إخلاء عشرات المنازل في بلدة هولندية بعد العثور على متفجرات داخل منزل    جبهة دعم فلسطين تطالب شركة "ميرسك" بوقف استخدام موانئ المغرب في نقل مواد عسكرية لإسرائيل    الأمطار تعزز مخزون السدود ومنشآت صغرى تصل إلى الامتلاء الكامل    التهمة تعاطي الكوكايين.. إطلاق سراح رئيس فنربخشة    انعقاد مجلس إدارة مؤسسة دار الصانع: قطاع الصناعة التقليدية يواصل ديناميته الإيجابية    الشاعر «محمد عنيبة الحمري»: ظل وقبس    تريليون يوان..حصاد الابتكار الصناعي في الصين    «كتابة المحو» عند محمد بنيس ميتافيزيقيا النص وتجربة المحو: من السؤال إلى الشظيّة    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    الحق في المعلومة حق في القدسية!    إلى ساكنة الحوز في هذا الصقيع القاسي .. إلى ذلك الربع المنسي المكلوم من مغربنا    أسعار الفضة تتجاوز 75 دولاراً للمرة الأولى    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    جمعية تكافل للاطفال مرضى الصرع والإعاقة تقدم البرنامج التحسيسي الخاص بمرض الصرع    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



..والحداثة إذا عربت !!

على واجهة الإعلام العربي والدولي، وفي المنابر الأكاديمية العالمية، تردد / يتردد مصطلح « الحداثة» بكثافة، على ألسنة المفكرين السياسيين والاقتصاديين، كما على ألسنة الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى أن مصطلح الحداثة، صعب التحديد لغويا وعلميا، إلا أنه أصبح يستخدم إعلاميا لتحديد مرحلة فنية / صناعية / حضارية متميزة آخذة في التلاشي والاضمحلال، وطهور مرحلة جديدة ، ذات مواصفات وقيم حديثة.
«الحداثة» في مفاهيمها الغربية، ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا فقط، وإنما هي منهج مميز للحضارة الحديثة، يعارض منهج التقليد، بل يعارض كل الثقافات التقليدية السابقة الأخرى، إنها في الموسوعات الأكاديمية،هي ذلك الوعي المتجدد بمتغيرات الحياة / هي تلك المستجدات الحضارية المتوالية / هي الانسلاخ من الماضي، ومن هيمنة أفكاره ومنجزاته والانخراط الشامل في العصر الحديث بقيمه الثقافية والحضارية.
والحداثة في هذه المفاهيم، ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو نخبة أو جنس معين، فهي استجابة حضارية للقفز على الثوابت، وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الفاعل، تجاه التجارب والانجازات السابقة في كل المجالات ولدى كل الشعوب.
إن مرتكزات الحداثة الغربية في نظر العديد من الباحثين، تمثلت في ظواهر كبرى بارزة للعيان هي: الثورة العلمية والتقنية الهائلة التي غيرت جذريا نظام المعارف و حورت وقلبت الوضع الإنساني نفسه بما وفرته من أدوات تحكم وتسيطر على الوسط الطبيعي/ الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية / هي المثل والقيم الإنسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والإيديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي إعلان لشأن الإنسان وتكريس لحريته الذاتية.
والواقع أن هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما :
– النموذج الرياضي-التجريبي : أي إعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الإنسان، وبالتالي تحويل المعرفة إلى وظيفة نفعية أداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وان كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار» اليقين العلمي» كما بين ذلك الفيلسوف الألماني هايدغر.
– مفهوم « الذاتية» الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة، ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول لليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي أفكارا تنتمي عضويا إليه أو ترد إليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما. ويعني هذا المفهوم في ما وراء هذه التحديات الأنطولوجية تكريس حرية الإنسان في تجسيد إرادته «المطلقة» في بناء وعيه واختيار مؤسساته وإدارة حرياته الشخصية.
ومن الواضح ان هذا الإطار المرجعي- القيمي للحداثة أصبح اليوم-في الظاهر على الأقل- ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات، فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان واحترام إرادة المواطن.حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة ومسكوتا عنها.
والسؤال الذي مازال يطرح نفسه بقوة على عالم اليوم : ماهي الحداثة؟ هل هي مشروع تحديث يقوم أساسا على العلم والتقنية، في رؤية عقلانية تتغلب فيها الثقافة على الطبيعة ويصبح الإنسان فيها مركزا للكون ومصدرا للقيم. أي تلك الرؤية التي أحدثت قطيعة بين الإنسان وماضيه، عن طريق ضبط عقلاني للتطور العلمي-التقني، أم الحداثة هي سلسلة عمليات للتحديث تقوم على فعاليات تراكمية يدعم بعضها بعضا، وتتجه نحو نمو علمي وفني وسياسي واقتصادي، « في درب العقلنة التي اختص بها الغرب» الذي يربط وجوده»رابط داخلي» لم يكن عرضيا، والذي أنتج بدوره علمنة الثقافة وعقلنتها، بالتوازي مع نمو المجتمعات وقواها المنتجة وزيادة انتاجية العمل وتمركز السلطات السياسية وكذلك تشكيل الهويات الوطنية ومبادئ حقوق الإنسان .
بدأت الحداثة، بحسب هيغل، مع عصر
الأنوار، بفعل أولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار أن هذا العصر هو « حد فاصل» أو «مرحلة نهائية في التاريخ» في هذا العالم الذي هو عالمنا، ويفهم من هذا أن الحداثة، استمرارية الزمن الحاضر في أفق الأزمنة الحديثة التي تشكل تجددا مستمرا.
وفي الواقع، كان هيغل أول فيلسوف طور مفهوم الحداثة ووضع مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، واستخدام هذه العلاقة ضمن سياق تاريخي للدلالة على الأزمنة الحديثة، واعتبارها مفهوما زمنيا يعبر عن القناعة بالزمن المعاش والمرهون بالمستقبل والمنفتح على الجديد الآتي، الذي يتضمن وعيا تاريخيا جديدا يفصل بين الزمن القائم الذي يعاصره، والذي يبدأ مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية وحركات الإصلاح الديني التي جاءت لاحقة لذلك.
يعني هذا في نظر العديد من الباحثين المختصين، أن الفكر الغربي يتميز منذ عصر النهضة إلى الآن بكونه لا يتوقف عن مساءلة مقوماته وأساليب اشتغاله، الأمر الذي جعل من النقد مكونا من مكونات النظر إلى الذات والأشياء والزمن.حتى أن عصر الأنوار كرس هذا الإجراء الفكري وأعطاه بعده العقلي. ومنذ بدايات ما يسمى بالحداثة الفكرية وهذه الحداثة لا تكف عن محاسبة نتائجها بأساليب تسترشد بمقاييس العقل والعلم لأن الفكر الفلسفي الغربي، منذ ديكارت الى الستينيات من القرن الماضي، استبعد عموما كل الملكات الإنسانية الأخرى من أهواء وخيال واعتبرها مصدرا للخطأ وعنصرا مشوشا على المعرفة الحقة.
هكذا يمكن النظر للحداثة من جهتين متكافئتين، بمكن النظر إليها كانفتاح لحقل إمكاني أي لحقل من الممكنات التاريخية انطلاقا من تمازج وانصهار الروحين : العلمية والتحررية السياسية، ويمكن النظر إليها كتجربة ثقافية خصوصية في فهم وتأويل هذا الانفتاح وفي تأسيس عالم تاريخي جديد انطلاقا من هذا التأويل، وفي هذه الحالة يمكن القول بأن الحداثة كتجربة خصوصية غربية لم تستنفذ هذا الحقل الإمكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية وليست الإمكانية الوحيدة داخله، وهذا التمييز الذي قمنا به بين هاتين الدلالتين غير المتكافئتين للحداثة يفتح مسلكين كبيرين للتفكير:
– إعادة النظر الجذري في الحقل الإمكاني الآنف الذكر، وفي ممكناته التي استنفذت خارج إكراهات التأويل الخصوصي الثقافي الغربي له.
– وأما المسلك الثاني فيتمثل في إعادة تشكيل الوعي الفلسفي للأزمنة الحديثة بذاتها وفي الفحص النقدي لفعلها التأسيسي المؤطر لمساراتها اللاحقة والمتمثل في تأويل تمازج الروحين العلمية والتحررية وفي النظر في هذه المسارات وفي مفضياتها ومآلاتها التاريخية وفي المطالب التي انتهت إليها.
عربيا، يعود ظهور مصطلح الحداثة الى مطلع القرن الثامن عشر، مع ظهور القوافل الاستعمارية الأولى على الخريطة العربية، التي أشعرت الأمة العربية، أنها متخلفة عن الركب الحضاري الإنساني، والتي حفزت همم عربية عديدة ونخب عربية عديدة لمواجهة القوافل الغازية من جهة، والدعوة الى الانخراط في العصر الحديث، والاستفادة من منجزاته وصنائعه وقيمه الحضارية. وما انفكت هذه النخب والهمم منذ محمد عبده وحتى الآن، وطوال قرنين من الزمان تناضل من أجل الخروج من أزمات التخلف، والانخراط في العهد الحضاري الجديد، مع التمسك بالهوية العربية / الإسلامية.
في كتابه « العرب والحداثة…دراسة في مقالات الحداثيين » يضع الدكتور عبد الالاه بلقزيز أفكار هؤلاء، وسمات خطابهم، ومدى عقلانيته، ونقاط ضعفه وقوته، موضع تساؤل في محاولة جادة لإعادة كتابة تاريخ الحداثة في الفكر العربي المعاصر. وفي هذا الإطار، يميز الكاتب بين طورين رئيسين مر بهما الفكر الحداثي العربي، الأول : يتمثل في نشأة خطاب الحداثة إبان القرن التاسع عشر، وانتهاء منتصف القرن العشرين. والثاني : يطلق عليه طور النضوج الفكري للحداثيين العرب، الذي يتميز على خلاف الطور البدائي الأول، بسريان النزعة العقلانية في شتى مفاصله الفكرية، وهو يبدأ من النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن. وقد اقتصر المؤلف في كتابه هذا على تحليل الطور الأول ويأمل التعرض للطور الثاني في جزء آخر يأمل في إصداره قريبا.
تتوزع اهتمامات المؤلف ما بين رصد الأطوار التي مر بها الحداثيون العرب، وما بين تحليل الخطابات السائدة تجاه الحداثة، وبديهي أن ينصب النقد في مجمله على خطاب الأصالة المناهض للحداثة، والذي وافق ظهوره بروز تيارات الإحيائية الإسلامية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
في سياق نقده لهذا التيار، يرى المؤلف أن مثل هذه الدعوات تعد بمثابة تراجع الوعي العربي من حالة اليقظة والتفاعل التي دشنها الإصلاحيون الإسلاميون الكبار وعلى رأسهم كل من رائد التجديد في الدنيا والدين الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، إلى حالة التراجع الحضاري والتقوقع حول الذات والتذرع بإيديولوجيات الهوية والاسلمة، مع الانصراف الكامل عن الممكنات الأخرى والتي، بحسب الكاتب، يمكن أن تؤدي وظيفة الممانعة الايجابية دونما تغريم المجتمع والثقافة بغرامة الانكماش والانكفاء والتشرذق على الذات، وفي كل الأحوال، يؤكد الكاتب ارتفاع المنسوب الإيديولوجي لدى الفريقين، حيث ذهبت إيديولوجيا الأصالة إلى « التشنيع على مدنية الآخر وثقافته واصمة إياها بالجاهلية، كما انتقلت من الدفاع عن الهوية في وجه الأجنبي إلى الهجوم على دعاة المعاصرة باسم الجهاد».
وفي مقابل ذلك، تحول الاهتمام بالحداثة من صعيد الإطار النظري إلى مستوى الايدولوجيا، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام إفقار معرفي لفكرة الحداثة نفسها في السياق العربي، حتى بالنسبة للداعين لها، ومن ثم باتت الحداثة في مجملها عبارة عن مجموعة من الأفكار النخبوية التي تتخندق في خطاب النخبة الثقافية دون ان تجد لها رصيدا مؤازرا بين القطاعات الجماهيرية العريضة، ما اضطرها، في النهاية، إلى الانكفاء على الذات والاكتفاء بموقع الدفاع في وجه تيار الإحياء والتقليد المتجدد. على الرغم من ان خطاب الحداثة، بحد ذاته، ليس خطابا برانيا أو مفروضا من الخارج، حتى لو أرجعنا نشأته إلى الاحتكاك بأوروبا، إضافة إلى أن المطلوب حاليا وفي كل وقت مضى ليس التغريب أو «التغربن»، وإنما القيام بنقد تركيبي لخطابي الماضوية الزمنية (خطاب التيار الإحيائي) والارتحال إلى الغرب (خطاب التغريب) وعندها فقط، يبدأ تاريخ الحداثة العربية في احتلال الموقع الذي يليق به.
وفي الواقع، لم يدخل مفهوم الحداثة الساحة العربية من باب الفكر أو الإنتاج النظري، اللهم إلا لدى القلة من الرواد الأوائل ممن كانوا مستعدين لتحمل أعباء السير في الاتجاه المعاكس. فمن اللافت للنظر في هذا الإطار، ان الحداثة قد طرقت الأبواب العربية من المدخل الأدبي والفني في حقول المسرح والشعر والرواية والسينما والموسيقى، ولم تستطع أن تؤلف تيارا عريضا على صعيدي الفكر والسياسة. وربما لهدا السبب، لا يزال سؤال الحداثة مطروحا على الوعي العربي.
غير أن الكاتب يرجع هذا الأمر لسببين ، أولهما : تجدر التيار التقليدي بقوة في المجتمعات الإسلامية، واندفاعه المتجدد الذي يتغذى من أعراض أزمة الدولة الوطنية الحديثة، بما تشمله من ظواهر الإقصاء والتهميش الاجتماعيين، فضلا عن فشل البرامج التنموية، والتصدعات الحادة في منظومة القيم. وثانيهما :
هشاشة الحداثة العربية ذاتها وعدم قدرتها على الاستيعاب التام لفلسفة مثيلتها الغربية القائمة على تغليب عنصري العقلانية والنزعة الإنسانية، بما يعني تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية والأخلاقية بصفة خاصة. الممانعة الثقافية اللاحقة أو البعدية، حيث ارتد المجال الاجتماعي إلى تجديد أصوله المحلية بعد انتصار الحداثة في تلك المجتمعات، إذ شهدت مصر وإيران منذ سبعينيات، بصفة خاصة، عودة الإيديولوجيات الرافضة لمضمون الحداثة بعد أن كانتا مركزين مهمين من مراكز الحداثة الثقافية الإسلامية. وبالمثل، حدث تراجع للحداثة الثقافية إبان عقد ثمانينيات القرن المنصرم في كل من :
تونس وتركيا وباكستان واندونيسيا، مع تزايد وتيرة تأثير الحركات الصحوية الداعية للتمسك بالتراث الحضاري الإسلامي ونبذ كل ما يمت بصلة للحداثة بمفاهيمها وقيمها الغربية.
على واجهة الإعلام العربي والدولي، وفي المنابر الأكاديمية العالمية، تردد / يتردد مصطلح « الحداثة» بكثافة، على ألسنة المفكرين السياسيين والاقتصاديين، كما على ألسنة الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى أن مصطلح الحداثة، صعب التحديد لغويا وعلميا، إلا أنه أصبح يستخدم إعلاميا لتحديد مرحلة فنية / صناعية / حضارية متميزة آخذة في التلاشي والاضمحلال، وطهور مرحلة جديدة ، ذات مواصفات وقيم حديثة.
«الحداثة» في مفاهيمها الغربية، ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا فقط، وإنما هي منهج مميز للحضارة الحديثة، يعارض منهج التقليد، بل يعارض كل الثقافات التقليدية السابقة الأخرى، إنها في الموسوعات الأكاديمية،هي ذلك الوعي المتجدد بمتغيرات الحياة / هي تلك المستجدات الحضارية المتوالية / هي الانسلاخ من الماضي، ومن هيمنة أفكاره ومنجزاته والانخراط الشامل في العصر الحديث بقيمه الثقافية والحضارية.
والحداثة في هذه المفاهيم، ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو نخبة أو جنس معين، فهي استجابة حضارية للقفز على الثوابت، وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الفاعل، تجاه التجارب والانجازات السابقة في كل المجالات ولدى كل الشعوب.
إن مرتكزات الحداثة الغربية في نظر العديد من الباحثين، تمثلت في ظواهر كبرى بارزة للعيان هي: الثورة العلمية والتقنية الهائلة التي غيرت جذريا نظام المعارف و حورت وقلبت الوضع الإنساني نفسه بما وفرته من أدوات تحكم وتسيطر على الوسط الطبيعي/ الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية / هي المثل والقيم الإنسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والإيديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي إعلان لشأن الإنسان وتكريس لحريته الذاتية.
والواقع أن هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما :
– النموذج الرياضي-التجريبي : أي إعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الإنسان، وبالتالي تحويل المعرفة إلى وظيفة نفعية أداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وان كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار» اليقين العلمي» كما بين ذلك الفيلسوف الألماني هايدغر.
– مفهوم « الذاتية» الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة، ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول لليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي أفكارا تنتمي عضويا إليه أو ترد إليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما. ويعني هذا المفهوم في ما وراء هذه التحديات الأنطولوجية تكريس حرية الإنسان في تجسيد إرادته «المطلقة» في بناء وعيه واختيار مؤسساته وإدارة حرياته الشخصية.
ومن الواضح ان هذا الإطار المرجعي- القيمي للحداثة أصبح اليوم-في الظاهر على الأقل- ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات، فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان واحترام إرادة المواطن.حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة ومسكوتا عنها.
والسؤال الذي مازال يطرح نفسه بقوة على عالم اليوم : ماهي الحداثة؟ هل هي مشروع تحديث يقوم أساسا على العلم والتقنية، في رؤية عقلانية تتغلب فيها الثقافة على الطبيعة ويصبح الإنسان فيها مركزا للكون ومصدرا للقيم. أي تلك الرؤية التي أحدثت قطيعة بين الإنسان وماضيه، عن طريق ضبط عقلاني للتطور العلمي-التقني، أم الحداثة هي سلسلة عمليات للتحديث تقوم على فعاليات تراكمية يدعم بعضها بعضا، وتتجه نحو نمو علمي وفني وسياسي واقتصادي، « في درب العقلنة التي اختص بها الغرب» الذي يربط وجوده»رابط داخلي» لم يكن عرضيا، والذي أنتج بدوره علمنة الثقافة وعقلنتها، بالتوازي مع نمو المجتمعات وقواها المنتجة وزيادة انتاجية العمل وتمركز السلطات السياسية وكذلك تشكيل الهويات الوطنية ومبادئ حقوق الإنسان .
بدأت الحداثة، بحسب هيغل، مع عصر
الأنوار، بفعل أولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار أن هذا العصر هو « حد فاصل» أو «مرحلة نهائية في التاريخ» في هذا العالم الذي هو عالمنا، ويفهم من هذا أن الحداثة، استمرارية الزمن الحاضر في أفق الأزمنة الحديثة التي تشكل تجددا مستمرا.
وفي الواقع، كان هيغل أول فيلسوف طور مفهوم الحداثة ووضع مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، واستخدام هذه العلاقة ضمن سياق تاريخي للدلالة على الأزمنة الحديثة، واعتبارها مفهوما زمنيا يعبر عن القناعة بالزمن المعاش والمرهون بالمستقبل والمنفتح على الجديد الآتي، الذي يتضمن وعيا تاريخيا جديدا يفصل بين الزمن القائم الذي يعاصره، والذي يبدأ مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية وحركات الإصلاح الديني التي جاءت لاحقة لذلك.
يعني هذا في نظر العديد من الباحثين المختصين، أن الفكر الغربي يتميز منذ عصر النهضة إلى الآن بكونه لا يتوقف عن مساءلة مقوماته وأساليب اشتغاله، الأمر الذي جعل من النقد مكونا من مكونات النظر إلى الذات والأشياء والزمن.حتى أن عصر الأنوار كرس هذا الإجراء الفكري وأعطاه بعده العقلي. ومنذ بدايات ما يسمى بالحداثة الفكرية وهذه الحداثة لا تكف عن محاسبة نتائجها بأساليب تسترشد بمقاييس العقل والعلم لأن الفكر الفلسفي الغربي، منذ ديكارت الى الستينيات من القرن الماضي، استبعد عموما كل الملكات الإنسانية الأخرى من أهواء وخيال واعتبرها مصدرا للخطأ وعنصرا مشوشا على المعرفة الحقة.
هكذا يمكن النظر للحداثة من جهتين متكافئتين، بمكن النظر إليها كانفتاح لحقل إمكاني أي لحقل من الممكنات التاريخية انطلاقا من تمازج وانصهار الروحين : العلمية والتحررية السياسية، ويمكن النظر إليها كتجربة ثقافية خصوصية في فهم وتأويل هذا الانفتاح وفي تأسيس عالم تاريخي جديد انطلاقا من هذا التأويل، وفي هذه الحالة يمكن القول بأن الحداثة كتجربة خصوصية غربية لم تستنفذ هذا الحقل الإمكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية وليست الإمكانية الوحيدة داخله، وهذا التمييز الذي قمنا به بين هاتين الدلالتين غير المتكافئتين للحداثة يفتح مسلكين كبيرين للتفكير:
– إعادة النظر الجذري في الحقل الإمكاني الآنف الذكر، وفي ممكناته التي استنفذت خارج إكراهات التأويل الخصوصي الثقافي الغربي له.
– وأما المسلك الثاني فيتمثل في إعادة تشكيل الوعي الفلسفي للأزمنة الحديثة بذاتها وفي الفحص النقدي لفعلها التأسيسي المؤطر لمساراتها اللاحقة والمتمثل في تأويل تمازج الروحين العلمية والتحررية وفي النظر في هذه المسارات وفي مفضياتها ومآلاتها التاريخية وفي المطالب التي انتهت إليها.
عربيا، يعود ظهور مصطلح الحداثة الى مطلع القرن الثامن عشر، مع ظهور القوافل الاستعمارية الأولى على الخريطة العربية، التي أشعرت الأمة العربية، أنها متخلفة عن الركب الحضاري الإنساني، والتي حفزت همم عربية عديدة ونخب عربية عديدة لمواجهة القوافل الغازية من جهة، والدعوة الى الانخراط في العصر الحديث، والاستفادة من منجزاته وصنائعه وقيمه الحضارية. وما انفكت هذه النخب والهمم منذ محمد عبده وحتى الآن، وطوال قرنين من الزمان تناضل من أجل الخروج من أزمات التخلف، والانخراط في العهد الحضاري الجديد، مع التمسك بالهوية العربية / الإسلامية.
في كتابه « العرب والحداثة…دراسة في مقالات الحداثيين » يضع الدكتور عبد الالاه بلقزيز أفكار هؤلاء، وسمات خطابهم، ومدى عقلانيته، ونقاط ضعفه وقوته، موضع تساؤل في محاولة جادة لإعادة كتابة تاريخ الحداثة في الفكر العربي المعاصر. وفي هذا الإطار، يميز الكاتب بين طورين رئيسين مر بهما الفكر الحداثي العربي، الأول : يتمثل في نشأة خطاب الحداثة إبان القرن التاسع عشر، وانتهاء منتصف القرن العشرين. والثاني : يطلق عليه طور النضوج الفكري للحداثيين العرب، الذي يتميز على خلاف الطور البدائي الأول، بسريان النزعة العقلانية في شتى مفاصله الفكرية، وهو يبدأ من النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن. وقد اقتصر المؤلف في كتابه هذا على تحليل الطور الأول ويأمل التعرض للطور الثاني في جزء آخر يأمل في إصداره قريبا.
تتوزع اهتمامات المؤلف ما بين رصد الأطوار التي مر بها الحداثيون العرب، وما بين تحليل الخطابات السائدة تجاه الحداثة، وبديهي أن ينصب النقد في مجمله على خطاب الأصالة المناهض للحداثة، والذي وافق ظهوره بروز تيارات الإحيائية الإسلامية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
في سياق نقده لهذا التيار، يرى المؤلف أن مثل هذه الدعوات تعد بمثابة تراجع الوعي العربي من حالة اليقظة والتفاعل التي دشنها الإصلاحيون الإسلاميون الكبار وعلى رأسهم كل من رائد التجديد في الدنيا والدين الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، إلى حالة التراجع الحضاري والتقوقع حول الذات والتذرع بإيديولوجيات الهوية والاسلمة، مع الانصراف الكامل عن الممكنات الأخرى والتي، بحسب الكاتب، يمكن أن تؤدي وظيفة الممانعة الايجابية دونما تغريم المجتمع والثقافة بغرامة الانكماش والانكفاء والتشرذق على الذات، وفي كل الأحوال، يؤكد الكاتب ارتفاع المنسوب الإيديولوجي لدى الفريقين، حيث ذهبت إيديولوجيا الأصالة إلى « التشنيع على مدنية الآخر وثقافته واصمة إياها بالجاهلية، كما انتقلت من الدفاع عن الهوية في وجه الأجنبي إلى الهجوم على دعاة المعاصرة باسم الجهاد».
وفي مقابل ذلك، تحول الاهتمام بالحداثة من صعيد الإطار النظري إلى مستوى الايدولوجيا، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام إفقار معرفي لفكرة الحداثة نفسها في السياق العربي، حتى بالنسبة للداعين لها، ومن ثم باتت الحداثة في مجملها عبارة عن مجموعة من الأفكار النخبوية التي تتخندق في خطاب النخبة الثقافية دون ان تجد لها رصيدا مؤازرا بين القطاعات الجماهيرية العريضة، ما اضطرها، في النهاية، إلى الانكفاء على الذات والاكتفاء بموقع الدفاع في وجه تيار الإحياء والتقليد المتجدد. على الرغم من ان خطاب الحداثة، بحد ذاته، ليس خطابا برانيا أو مفروضا من الخارج، حتى لو أرجعنا نشأته إلى الاحتكاك بأوروبا، إضافة إلى أن المطلوب حاليا وفي كل وقت مضى ليس التغريب أو «التغربن»، وإنما القيام بنقد تركيبي لخطابي الماضوية الزمنية (خطاب التيار الإحيائي) والارتحال إلى الغرب (خطاب التغريب) وعندها فقط، يبدأ تاريخ الحداثة العربية في احتلال الموقع الذي يليق به.
وفي الواقع، لم يدخل مفهوم الحداثة الساحة العربية من باب الفكر أو الإنتاج النظري، اللهم إلا لدى القلة من الرواد الأوائل ممن كانوا مستعدين لتحمل أعباء السير في الاتجاه المعاكس. فمن اللافت للنظر في هذا الإطار، ان الحداثة قد طرقت الأبواب العربية من المدخل الأدبي والفني في حقول المسرح والشعر والرواية والسينما والموسيقى، ولم تستطع أن تؤلف تيارا عريضا على صعيدي الفكر والسياسة. وربما لهدا السبب، لا يزال سؤال الحداثة مطروحا على الوعي العربي.
غير أن الكاتب يرجع هذا الأمر لسببين ، أولهما : تجدر التيار التقليدي بقوة في المجتمعات الإسلامية، واندفاعه المتجدد الذي يتغذى من أعراض أزمة الدولة الوطنية الحديثة، بما تشمله من ظواهر الإقصاء والتهميش الاجتماعيين، فضلا عن فشل البرامج التنموية، والتصدعات الحادة في منظومة القيم. وثانيهما :
هشاشة الحداثة العربية ذاتها وعدم قدرتها على الاستيعاب التام لفلسفة مثيلتها الغربية القائمة على تغليب عنصري العقلانية والنزعة الإنسانية، بما يعني تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية والأخلاقية بصفة خاصة. الممانعة الثقافية اللاحقة أو البعدية، حيث ارتد المجال الاجتماعي إلى تجديد أصوله المحلية بعد انتصار الحداثة في تلك المجتمعات، إذ شهدت مصر وإيران منذ سبعينيات، بصفة خاصة، عودة الإيديولوجيات الرافضة لمضمون الحداثة بعد أن كانتا مركزين مهمين من مراكز الحداثة الثقافية الإسلامية. وبالمثل، حدث تراجع للحداثة الثقافية إبان عقد ثمانينيات القرن المنصرم في كل من :
تونس وتركيا وباكستان واندونيسيا، مع تزايد وتيرة تأثير الحركات الصحوية الداعية للتمسك بالتراث الحضاري الإسلامي ونبذ كل ما يمت بصلة للحداثة بمفاهيمها وقيمها الغربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.