سيرةُ تخييلٍ وليستْ سيرةَ وقائعَ توضيحٌ اخترتُ هذا العنوانَ للتعبير مجازياً عن صعوبةِ القبض على عوالمِ الكتابة الأدبية وعناصرها الفنية والفكرية، وخاصة عندما تسعى الكتابة إلى أن تكونَ جزءاً لا يتجزأ من حياة الكاتب ذاتِهِ أو أن تكونَ كتابة ما اصطُلِحَ عليه بالسيرة الذاتية. أعتبرُ في هذا المستوى، أدواتَ الكتابة وعناصرَها أدوات صيدٍ للمكن من أشياءِ العوالم الوجدانية والعقلية والحسية؛ فاللغةُ والسارد والشخصية والصوت والمنظور والبناء والعوالم المحكية، أشبه بتجربة حملِ سِنّارةٍ في بحر الحياة الفردية والجماعية، وأشبه بمحاولة تجميع الرسوبات واللُّقياتِ والبواطن والتنقيبات التاريخية والوجدانية والعقلية والحسية… وبمحاولة البحث في مختبرات الوجدان والأجساد عما يسكنها من التحف، مثلما تسكنها الكثير من المتلاشيات والحشوات والزيادات… هل لدى الصياد / الكاتب القدرة على المراجعة والتصنيف والتدقيق والغربلات…؟ وهل يدرك الصيادُ / الكاتبُ تجربةَ رميِ السنارة والانتظار؟ وهل يمتلك الجرأة للتعبير عن الإخفاق في الصيد؟ وهل ما اصطاده حقيقيٌ أم مجردُ خدعٍ بصرية وعقلية وحسية؟ لقد بنى سي أحمد وهوب مسارّهُ أستاذا باحثا مجدا، وها هو، اليوم، ب»حكايات الزيراوي الذي» يخترق مساحة أخرى للتأمل والتفكير والسرد؛ مساحة الوقوف على عتبات السرد الذاتي، ورمي السنارة في بحار الذاكرة وشطآنها، ويرفع سنارته ملتقطا شيئا ما. ما الذي التقَطَهُ الكاتب أحد وهوب في كتابه السيري، وفي جزئه الأول فقط؟ وما الذي أضاعه؟ وما الذي يَعِدُنا به في الجزء الثاني كما ذكر في هذا الكتاب الأول. من خلال قراءة نصوص السير الذاتية أو الذهنية، ندركُ أن الذي يضيعُ كثيرٌ وكثيرٌ، لأنه مرتبطٌ بالتفاصيل والجزئيات وزوايا النظر والتأمل؛ مرتبطٌ بما يظهر أولاً، وما يتوارى ثانياً، وما يُخبَّأُ دون وعيٍ ثالثاً، لأنَّ للكتابةِ جانبُها الواعي اليقظُ، ولها أيضا جانبٌ لا واعٍ ومدفونٌ تحت جلد السرد واللغة. إن أفقَ الكتابة من هذه الطينة الفنية والفكرية الذاتية صعبٌ وعسيرٌ. وللقبض على بعض العناصر المرئية وغير المرئية في الكتاب وفتح نقاش حول خصائصه ومميزاته، أقترح فكرة مداخل: المدخل الأول: الكتابة تحايُلٌ ومرواغةٌ وتخييلٌ لكتابِ «حكايات الزيراوي الذي…» هندستُهُ الخاصة، ومنها معمارُهُ القائم على تقسيم واضح يُعبِّرُ عنه العنوان العام، وتعبر عنه، أيضاً، عناوين فرعية، وعددها ثلاثةٌ وأربعون عنوانا فرعياً، وتدخل هذه العناوين في علاقات تواشُجٍ في متواليات سرد، يقود الواحد منها إلى الآخر في تدرج فني وتعاقب دلالي، من خلال دلالاتٍ مباشرةٍ على مستوى اللغة والإحالة الواقعية على سيرة كرونولوجية دينامية؛ من الطفولة إلى المرحلة الأولى من الشباب؛ إذِ السارد: «ينبش في ذاكرته، لعله يتذكر بدايات وعيه بالأشياء، بالأمكنة التي رأى فيها النور»؛ كما ورد في الصفحة 4 من بداية النص. الكتاب، إذن، سيرةُ سردٍ ينبُشُ في آثار حيوات متنوعة ويقتفيها، ومن بينها حياة السارد الزيراوي، وشبكة العلاقات العاطفية والنفسية والاجتماعية والسياسية والعقلية والمهنية التي تقاطعت فيها ذوات فردية «دادا؛ الأم الجميلة الطيبة السر والمسار، وبّا صالح؛ الأب الصلب، المرجعي الداعم من بعد وأثر، والفقيه سيدي محمد بنعزوز؛ المعلم الأول الزهيد…» وذوات جماعية « الأقران والأساتذة النماذج المغربية الراقية روحا وفكرا وحماسا…»، وذوات مؤسسية «المسيد والمدرسة، ومدرسة تكوين المعلمين، وكازا، مدينة الوعود والرعود…». الكتاب، إذن، كما طرحتُ في التوضيح، سردٌ يشتغل بقانون التوازي بين ظاهر وباطن؛ ظاهرُهُ الرغبة في النبش في الذاكرة والتاريخ والهوية الفردية والجماعية، وباطنُهُ نقض أطروحة الصديق المشاكس الرحماني، ومن يدور في فلكه تلميحا لعلاقات التوتر الهوياتي الجغرافية والعرقية التي يذيبها السرد الذاتي بتفكيك أطروحة الحياة المرجعية الفعلية عبر الحياة التخييلية المستعادة التي أنتجها السرد الذاتي على شكل حكايات صغرة متراكبة، منذ الطفولة إلى المرحلة الأولى من الشباب، وصولا إلى هذه المرحلة من العمر التي امتلك فيها الكاتب والأستاذ المبدع أحمد وهوب الرغبة في كتابة هذه السيرة الذاتية والذهنية «من أجل إغاظة صديقك الرحماني أنت من خلال سرد حكايات الزيراوي (نسبة على قبيلة ولاد بوزيري) ترد الاعتبار إلى هذه التربة التي أثبتت الكثير من «زيراوة» الطيبين. من المكافحين بعرق الجبين. من الذين حفروا في مسار حياتهم بأظافرهم في الصخر لمواجهة صعاب الحياة وأهوالها. لكل منهم حكايات تحكى. حكايات ليست «زيرو» كما يدعي صديقك في تعليقاته المغرضة» الصفحة 5 من الكتاب. الكتاب، إذن، ذاكرةٌ مستعادةٌ رغم ما قد يتسرب في هذه الكتابة من تخييلات وتحويرات وإضافات وتشنجات استجابة لطبيعة الكتابة ذاتها التي لا يمكنها أن تكتب الحقائق ومواد العالم كما هي. وحتى ولو ابتعدتِ الكتابة عن الحقائق دونَ وعيٍ منها، وضدَّ إرادتها، لأن الحقائق المنقولة زاويةُ نظرٍ فقط للعالم وأشيائهِ، قد تحجُب زوايا أخرى من النظر، وقد تلغيها أيضا، وتظلُّ الكتابة قادرةً، ضدَّ خططها، على خلق منظور خاص لتأملِ الحياة والإنسان والكون، مما يجعل الكتابة أفقا لقراءة الماضي والحاضر والمستقبل دون خوف أو توجس أو خجل من شيء ما، ودون تغليف السرد باليقين والتمامية والكمالية. كل سردٍ ذاتيٍّ تخييلٌ إبداعيٌّ يتكئُ على اللغة الفردية الإبداعية، واللغة الفردية الكتابية الإبداعيةِ لا علاقة لها باللغة الشفاهية العامة أو بالحكي الشفوي العام، اللغة، هنا، منظور وزاوية سرد فقط. وكل اعتقاد بكتابة اليقين والحقيقة ضربٌ من الوهمِ والتَّيْهِ، وكلُّ اعتقادٍ بإمكان صيد كل شيء، ينتهي بقبض ريح. الكتابةُ يدٌ تصطادُ الريحَ، والريحُ، هنا، آثارٌ غيرُ مرئية بالمعنى المباشر… لا يقينَ ولا واقعَ سوى بقايا حيواتٍ وظلالٍ وأطيافٍ… وهذا ما يمكن اصطيادُهُ. إن الطفلَ الذي ظهر في عنوان ميلاد»، مثلاً، لا نراه طفلاً، مثل أطفال العالم، إنه طفولة ومنظورٌ، والشاب الذي نقترب منه في عنوان «وأخيرا وصلتُ إلى كازا ومفاجأة في الانتظار»، أو في عنوان « الزيراوي في الدارالبيضاء، وماذا بعد؟» يبدو منظورا بالغا وناضجا وكبيرا بتأطير السرد والوعي، ومسارات الدراسة والتخرج والصداقة والعمل بالتدريس التي يحملها الكتاب ويحيطها السرد بالاهتمام كما في العنوان الطويل جدا «مداراتُ مسار الزيراوي قبل دخول مدرسة المعلمين وأثناءها متعددة، ومنها ما كان قاصمةَ الدهر: موت الوالد كان بداية الخروج من طور إلى طور، وموت دادا من بعده بعشرين عاما جعله يحتار أيةَ جُبّة يلبس، كان الشعور الحقيقي باليتم العنوانَ الأبرز للمرحلة، لكن الحياة يجب أن تستمرَّ…» تبدو مسارات الوقار والحكمة التي يعبر عنها أحمد وهوب الأستاذ والمناضل في الحياة العامة، وتختفي قليلا مساحات أخرى من الشيطنات الفردية واللعب المشاكس ومغامرات الحب والتيه واللذة: اللذة باهتة في الكتاب، والمتع ملتصقة بالتفوق والنجاح في غياب متع اللذاذات الخفية العاطفية والجنسية . الكتابة، كما يمكن رؤيتها في بعض الأعمال، عودة الشيخ إلى صباه، لكن ليس بالمعنى الزمني، بل بالمعنى المجازي الفني الخارج عن القانون والمليء بالرغبات والحسيات. هذه المنظورات الجديدة المبدعة والمحورة للوقائع والعوالم المرجعية، تتخلى الكتابة عنها لصالح الطفولة والشباب والشيخوخة منظورا واحدا قارا طيلة السرد، وزاوية إدراك ووعي ثابت خلال المسار السردي بأكمله. ومع ذلك يمكننا اقتفاء آثار المواضي والحواضر والمستقبليات من خلال قراءة دقيقة لبعض فلْتات السرد باعتبارهِ تخييلا وإنتاجا جديدا لمظاهر حياة الزيراوي، هي حياة مصنوعةٌ باللغة والخيال، وليست حياة الحقيقة والواقع المادي المباشر. كيف يتجسَّدُ ذلك في كتاب الزيراوي الذي…؟ يمكننا الاقتراب من هذه الآثار الصغيرة والمركونة خلف الذات المؤطرة من خلال تتبع تشكل تقنية «الذي» في الكتاب. هذه «الذي» التي تتلوها نقط حذف بلا تحديد أو توجيه… ملتبسةٌ وغامضةٌ ومتوترةٌ رغم سعيها إلى الوضوح. لعلها «الذي» التي تسعى إلى تنفيس السرد وإزاحته عن الوقار والحكمة والالتزام الأخلاقي والوطني، لخلق أفق صغير لسرد المغامرات التي تنتظرها القراءة في مسارات السرد. الزيراوي الذي… عاش حيوات متنوعة من الطفولة إلى المرحلة الأولى من الشباب، والذي… قطع مسارات ومنعرجات، والذي… تقاطعت في حياته مصائرٌ عامة وفردية، والذي… خرج من الهوامش وصنع مركزاً داخل ذاته وأفقه المغربي بشجاعة وكرامة ونضال. الزيراوي الذي… المغربي الصاعد من تراب القرى الحزينة الفقيرة الصامتة، والمتجه إلى مدن سفلى، ومنها كويزة (تصغير محبوب لكازا؛ المفارقة العجيبة) كويزة العزيزة الرحيم ببنات وأبناء المغرب في أكثر من مرحلة تاريخية على حد تعبير الأستاذ والشاعر عبد الله راجع، الذي عرفه الزيراوي وعاش معه أسئلة الأدب والفن والحياة والمغرب، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدارالبيضاء. الزيراوي الذي… كائن مغربي يتعدد ويتنوع، ولكنه يظل واحدا، هو ذاته وسيرورته ومواقفه وتجاربه الفكرية والنضالية الراسخة والثابتة. كيف نقرأ الحكايات المتعددة؟ وكيف يمكن مد جسور التفاعل والتقاطع بينها، رغم اختلاف عناوينها وعناصرها ودقائقها؟ هنا، أقترح مدخلا ثانيا. المدخل الثاني: السرد الذاتي أفق لقراءة الذات الفردية والجماعية. كتاب «من حكايات الزيراوي الذي…» من طينة أدبيةٍ خاصةٍ، ومن وعجينةٍ فنيةٍ وإنسانيةٍ بديعةٍ، كل شيء مباشر وظاهر، لا إخفاء أو إيحائية. سرد مباشر ومتدرجٌ، يقوده ساردٌ فعلي مرجعي، أحمد نفسهُ الذي يتأرجح بين الحياة الفردية والعامة، وبين فعل القبض على هذه الحيوات بفعل الفن والكتابة. معادلة كبيرة وشاقة، ولكن الكاتب اختار المباشرة بلا لفٍّ أو دوران، وبلا أصباغ بلاغية أو تصويرية، وبلا إخراج فني مصطنع أو توضيب مفرط التقنيات والصنعِ. كتاب يريد رؤية الذات كما هي ذاتٌ فعليةٌ، ولا يريد التعبير عن هذه الذات باللغة الإبداعية ولا بالسرد المصنوع، لأن الكاتب منشغل بالكشف، ويحمل مهمة القول الاعتراف، والسعي إلى تلمس ملامح التراجيدية الفردية في تشكلها العام والجماعي. ذاتٌ لها مساحات خاصة من التذكر، ولها تأرجحات ومسارات ومنعرجات ومحن ومنح… قد يندرج الكتاب ضمن أدب السيرة الذاتية؛ وقد سعى الكاتب أحمد وهوب إلى تقديم فهم عميق للذات الفردية المغربية في خضم عالم التحوّل بين ذوات؛ من الذات الطفل إلى ذات الشاب، ومن البادية إلى المدينة، ومن المسيد إلى المدرسة، تحولات تُعاد فيها صياغة قيم التربية، والانتماء، والحب، والصداقة، والخسارة، والربح، والحياة والموت الذي يتراءى في آخر الكتاب مرثية للأب والأم. يقول السارد في نهايات الكتاب: «ناما، والدي، والدتي، قريريْ العين في دار الحقِّ. ادعوا لابنكما الزيراوي من هنالكَ، وهو في محنته الصحية، بحسن الختام في حياته وفي حكاياته». الصفحة 200. هكذا، يطرح الكاتب بأسلوب مباشر وعاطفي وحسي، أسئلة جوهرية حول الهوية والانتماء والجذور والتربية والعلم، وحول التعلّق والرحيل، ومنه العنوان الأخير الدال على جرح نرجسي لا يندمل «مداراتُ مسار الزيراوي قبل دخول مدرسة المعلمين وأثناءها متعددة، ومنها ما كان قاصمةَ الدهر: موت الوالد كان بداية الخروج من طور إلى طور، وموت دادا من بعده بعشرين عاما جعله يحتار أيةَ جُبّة يلبس، كان الشعور الحقيقي باليتم العنوانَ الأبرز للمرحلة، لكن الحياة يجب أن تستمرَّ…». تكشف الحكايات، إذن، كيف أن التجربة الاجتماعية والنفسية والعاطفية والعقلية ليست معزولة عن الإطار الثقافي، بل هي نتاج منظومة متداخلة من التمثّلات الاجتماعية والسياسية، لاسيما في مرحلة عاش فيها المغرب تحولات عميقة بين سندان ومطرقة الاستعمار والسعي إلى التحرر. تتواشج الحكايات، معماريا وسرديا، في بنية سردية متدرجة زمنياً، يسرد، فيها، أحمد وهوب تجاربه الحياتية بدءاً من الطفولة والشباب حتى العلاقات المعقدة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كاشفا عن التناقضات الجوهرية التي اعترت الحياة المغربية بين التوق إلى الاستقلالية والرغبة في التحرر؛ الاستقلال من الاستعمار والتعلق بالانتماء الوطني الرفيع، الاستقلال من العائلة والتعلق بمفاتن كويزة وإغراءاتها. تعكس هذه البنية السردية المتواترة مركزية الكفاح والجدية والانتماء باعتبارها علاقات بديلة عن النماذج القيمية السلبية، مما يضفي على السرد طابعا عقليا يعيد رسم خارطة العلاقات الإنسانية خارج ثنائية الارتباط الرومانسي أو الوحدة أو الفرد المعزول، لعله رسم لمشاهد إنسانية يتقاطع فيها الشيء ونقيضه في انسجام وتناغم. خلاصة أولية في الكتاب يتكشف لنا عالم داخلي مليء بالأفكار، والمشاعر، والذكريات، والحلم بالسير في عوالم جديدة. الكتاب يمزج بين الألم والأمل، وبين الواقع القاسي والأمل العميق، مع أداء واعٍ من للسارد وإخراج حساس من الكاتب. الكتاب عمل إنساني خاص يلمس القلب والعقل، وما يحتويه من مشاعر صادقة متضادة، ما بين الحُب والكراهية والغضب. لا خوف من الألم والمحن، الكتاب يقول: المحن منح، والصراع الوجودي وقود الحياة والاستمرارية. كتاب «الزيراوي الذي…» ترميمُ للذات والخيالاتِ والأطياف؛ هنا، اسمحوا لي أن أفتح نافذة أخرى إلى جانب نوافذ الكتاب، وأرى ما يلي: كيفَ يمكننا أن نجمعَ أصوات المياه وروائح النباتات في لغة سرد جديدة؟ كيف نجمع الصمت والخفة في منظور جديدة؟ هذه العناصر، هي على الأرجح فنون استحالة؛ ألوان وأرائج وعطور وأشكال وأحجام… وانتقالُ حمضيات وأشجار زيتون وأعراق بشرية، على مر الزمن، لنكتشف الحاجة الدائمة إلى فن التنقُّلِ والترحالِ والتجوُّلِ، بدل فنون الإقامةِ والتنصيبِ والاستقرارِ، وحتى ولو لم يكن ذلك ممكنا في المكان والزمان، فليكن متخيلا على الأقل… هندساتٌ بشريةٌ غريبةٌ وعجيبةٌ شهدها الزمنُ… إمداداتٌ وفيرةٌ من المياه ومصادر الحياة تلقَّتْها البشرية، وهاهم البشر يسعون إلى قطعها وبترها وقتلها الرمزيِّ… كيف انتقلنا من الخلاء، ومن الظهور، دون خوف أو حشمة أو تستر، إلى الاختفاء والانزواء والانغلاق في قضاء حوائجنا الطبيعية استجابة لنداء الطبيعة أو لنداء رغبات الجسد…؟ من نحن…؟ من نكون…؟ من أي عناصر نتشكل ونتهيأ…؟ كيف كنا نماثلُ الحيوانات في قضاء هاته الرغبات، وكيف صرنا نسعى إلى تعديلها نحو أوضاع جديدة… أكثر تحضُّراً وتمدُّناً. أتصوَّرُ الحاجةَ إلى إعادة توظيف القطعِ الصغيرةِ من وجداننا المهدَّمِ، وقد تعيد إلينا هويات جديدة قابلة للاكتشاف المتجدد لذواتنا ولمصائرنا الحائرة… كلُّ تفصيلٍ مهمٌّ في تجميع الصورة الواضحة والضبابيةِ عن وجودنا وكينوناتنا، حتى ولو أشارتِ العديد من العوامل المتفرقة والمشتتة إلى وجود جامع ما، فهو في الغالب تجميع تضادِّ… ربما صرنا بحاجة إلى ورشات لإعادة الترميم والتجميع واللصق… وبحاجة إلى محاولة لقراءة النقوش والغبار والتراب والنباتات والروائح للتعرف على خلفيات وجودنا ووظائفه قطعةً بعد قطعةٍ، وجزءاً بعد جزءٍ، هل يمكننا إتمام التصوُّرِ إلى حدودهِ القصوى…؟ أتصوَّرُ النصفَ السفليَّ من العالم قد ظل مجهولا، ونحن نعيش فقط في سطوح الحياة… وأتصوَّرُ التمثيلَ الماديَّ للحياة وأشيائها قد غيَّبَ التمثيلات الخفية والنافرة، والتي لا يمكنها أن تتمظهر ماديا، وقد تظل في مستوى اللغة أو المشافهة أو اللامرئية… وأتصوَّرُ الحاجة إلى أربطةٍ غير مادية، ربما، تُدمج الكينونات الخفية والظاهرة… أربطة افتراضية أكثر منها مادية.. أربطة تخييلية استعارية أكثر منها مباشرة… أربطة متناقضة ومنسجمة في الوقت ذاته… قد نبني أغطيةً صلبةً لحماية ذواتنا والاطمئنان والاستراحة من إرهاق الجَلْدِ، بينما نحن بحاجة، فقط، إلى عرينا الوجودي والبشري… سيستمرُّ التنقيبُ البشريُّ عن فهمٍ متجدد للأدوار والكينونات، ولا يمكن أن تتوقفَ هذه الحركة التنقيبية المتجددة… كل يومٍ جديدٍ تنقيبٌ جديدٌ واكتشافٌ جديدٌ… اكتشافاتٌ هائلةٌ وصغيرةٌ، ولكنها كافيةٌ لإثارة دهشتنا الوجودية التي تصنع للحياة معنى مغايراً للسابق من المعاني، بعد أن تصلَّبَ المعنى وتجمَّدَ ودخل باب الألفة… لا نواحَ ولا عويلَ ولا قهرَ، فقط إنسانٌ يتدحرج، وهو يسعى إلى الفهم والوعي والشعور، وهو أقرب إلى كتابة بماءٍ… فهل نستحقُّ استراحات، ولو قصيرةً خفيفةً بين أشواطِ الحياةِ المرهقةِ والمستنزفةِ والصاعقةِ؟ هل يمكنُ معرفةُ المعمارِ الغامضِ لحياتنا وتأملاتها؟ هل يمكنُ، دائما، حلُّ اللغز؟