بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    اتحاد طنجة يفوز على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تداعيات دينية في العقيدة والخيال: أو ما بين المدينة المنورة وقرية دبدو من اتصال!

أسترجع لحظات الحج،‮ ‬في‮ ‬شكل مدارات كتابية،‮ ‬عن تلاطم المعرفة والإيمان،‮ ‬المشاهدات المهنية مع الفتوحات المكية،‮ ‬كما رصص لها الطريق،‮ ‬بخيال زلال ولغة طافحة صاحب المراتب العليا ابن عربي‮. ‬وبنقل ما كان‮ ‬يدور في‮ ‬ذهني‮ ‬وما‮ ‬يدور أمامي،‮ ‬وما كنت أراه من إعادة تمثيل نوبات من النبوة،‮ ‬في‮ ‬المدينة أو في‮ ‬طريق منى والجمرات،‮ ‬والحوارات التي‮ ‬تجعل الأمان أحيانا أكثر قلقا من الغربة في‮ ‬الوجود،‮ ‬مع الحرص على أن تكون للتأملات الصحافية حظها من الجدارة الدينية،‮ ‬كما للمشاهدات المحسوسة قسطها من مراتب الوجدان‮… ‬
كنت أحدس بأن حياتي‮ ‬ستدخل منعطفا‮ ‬غير مسبوق،‮ ‬وتتغير رأسا على عقب‮. ‬لا لأني‮ ‬جئت إلى الحج من فراغ‮ ‬روحي‮ ‬طافح ومطلق،‮ ‬أو من فيافي‮ ‬ديانة أخرى،‮ ‬أو من فراغ‮ ‬عقدي،‮ ‬كلا‮. ‬لم أكن طارئا على الغيب‮: ‬فَأنا ليَ‮ ‬فيه أقاصيص ورؤى من الطفولة‮. ‬فقد كنت أصوم وأصلي‮ ‬وأزكي‮ ‬وشهدت الشهادتين بالسليقة والإرادة والالتزام اليومي‮ ‬مع كل خطوة أخطوها في‮ ‬الحياة‮. ‬وعليه كان الحج واردا‮ ‬في‮ ‬منطق الأشياء،‮ ‬ولما تحقق الإمكان واستوفيت القدرة،‮ ‬تحققت الزيارة‮ …‬
هل أزعم بأنني‮ ‬لم أكن عرضة للشك،‮ ‬أو لتنسيب الاعتقاد،‮ ‬أو حتى للابتعاد عن نشأتي‮ ‬الدينية وسط أسرة تسكن بالقرب من المسجد،‮ ‬تولت القيام بشؤون هذا المعبد من جيل لجيل،‮ ‬من جد وعم وخال وأخ؟
لا‮ ‬يمكن لهذا الادعاء أن‮ ‬يكون صادقا‮..‬ ربما من بين كل الملايين من الذاهبين‮ ‬إلى المكان المقدس،‮ ‬كنت موزعا بين دعة وسكينة حياة ألفتها،‮ ‬وحياة تتراءى في‮ ‬مستقبل مثير أو لعله ملغز‮…‬
كنت مقبلا على قطيعة أنثروبولوجية،‮ ‬بين اليومي‮ ‬المتكرر وبين الجدول الزمني‮ ‬العام والأفكار التي‮ ‬لا تمتحن بميزان العدم‮!‬
لكن كنت أحدس أن قلوبنا التي‮ ‬نضعها مؤتمنة عند صاحب القيامة‮‬،‮ ‬تعرف كيف تلتفت للنظر في‮ ‬الحياة والنظر إليها من جهة أخرى‮.‬
كنت مثل من وجد الجواب عن معنى حياته،‮ ‬لكن الذي‮ ‬يقلقه هو السؤال الذي‮ ‬يكون بعده‮! ‬أو قُلْ‮ ‬صرت‮ ‬لا أجزم بأن الإيمان أو الارتكاز إلى حقائق،‮ ‬يُعفي‮ ‬من‮ … ‬القلق الأنثروبولوجي‮!‬
التحول كان في‮ ‬الخطوة نفسها،‮ ‬مع تدقيق النظر في‮ ‬الهوية الدينية على مشارف الستينيات‮.. ‬كهوية في‮ ‬الموقف من الحياة اليومية في‮ ‬سريانها‮: ‬كيف أعيشها وقد تخليت عن بعضها الكثير‮…‬؟ كيف أواصل العيش،‮ ‬ولم تعد الحياة أولوية،‮ ‬وقد تجاوزتها مشاغل الموت في‮ ‬الجولة السادسة من العقد السابع من العمر،‮ ‬وكيف لا أساير جسدا تعود على الجموح،‮ ‬كنمط وحيد في‮ ‬الكينونة؟ جسد الإيروس الطافح،‮ ‬وهو‮ ‬يستدرج نفسه إلى الطيطانوس الغابر؟
كنت أعرف أيضا أن هناك تيارا من المقادير‮ ‬يجرني‮: ‬لقد أصبحت محاطا بالموت والموتى من الأصدقاء والأهل‮.‬ لا‮ ‬يمكن أن أسلُّم بأنهم ذهبوا إلى اللامكان،‮ ‬اللاعالم‮ ‬صنو العدم الجليل،‮ ‬أو تبخروا في‮ ‬الثقب الأسود لما قبل الخليقة،‮ ‬كما‮ ‬يشاء علماء الفيزياء الكوانطية،‮ ‬ووجدتني‮ ‬في‮ ‬مفترق المشاعر لا القناعات أتساءل،‮ ‬أي‮ ‬طريق سأسلك إلى ذلك‮…‬
الاطمئنان على قسطي‮ ‬الإنساني‮ ‬من الروحانيات كان‮ ‬يتطلب أن تكون الكعبة رمزًا لقلبي‮ ‬كما‮ ‬يشاء الشيخ ابن عربي‮!‬
على بعد حوالي 150 كم شرق البحر الأحمر، تنتصب المدينة المنورة. ولعل سمعة المدينة المناخية، الأكثر انتعاشا وطراوة من غيرها، قد تعود إلى موقعها هذا.. دخلناها غير محرمين. بجلابيبنا المغربية وعباياتنا المغربية، وغناديرنا المغربية، تماما كما هو حال الحاجات المغربيات باللباس المشهور، والذي كان سببا في مطاردتهن من أصحاب المحلات وباعة الأثواب والسجاد والند.
المدينة التي دخلناها صبيحة الاثنين 26 مايو، والتي سنقضي بها ستة أيام قبل التوجه إلى مكة، سبقتنا بوجودها بما يفوق 3 آلاف سنة، منها زمن التأسيس قبل الهجرة النبوية بأكثر من 1500 عام و1400سنة وأربعين عاما بعد الهجرة، وكادت المدينة ألا تكون، ولعل استمرارها يعود إلى تدخل أحبار اليهود على حد ما سجله كتاب السيرة …
وحسب مراجع التاريخ، ومنها ما كتبه ابن إسحاق، عن "نزاع وقع بين آخر ملوك الحميريين وسكنة يثرب، فيقول إنه عندما كان ذاك الملك يعبر المدينة، تعرّض له بعض السكّان وقتلوا ابنه، فهدد الملك بإبادة الناس عن بكرة أبيهم وقطع نخيلهم، وكاد أن يفعل ذلك لولا أن تدخل اثنان من رجال الدين اليهود، وأقنعا الملك بالعدول عن فكرته؛ لأن هذه المدينة هي مكان "سيهاجر إليه نبي من قريش في الزمن الآتي، وسيقيم فيها، ويُدفن فيها". بناءً على هذا امتَنَعْ الملك عن تدمير المدينة…وهي وقتها يثرب!
في اللحظة هاته تتلخص المدينة في الحرم النبوي، وفي أماكن الينبوع الأصلي للعقيدة أو لدورها في تشييد اللاهوت الفردي والجماعي وأنا منه! الآن، ونحن نغادر الفندق، ليس أمامنا سوى الحرم. زرافات زرافات، يتوجّه الحجاج وغير الحجاج إلى المسجد، تغلب على المشهد لُبْسةُ الرجال البيضاء وعباءات النساء السوداء، فتطغى على ما عداها.
في الحرم، مربعات من سجاد أخضر بتلاوين مزهرية. يحلو لي رفقة الأهل أن نتجول بينها، في ممرات واسعة ورحبة. تلطف الحرارة تحت المظلات العالية، بخاخات ماء ورشاشات تعمل أوتوماتيكيا، والرذاذ يصل بردا وسلاما، مكيفات الهواء العادية تعمل بدورها،… كثير من الحجاج والحاجات اختاروا النوم في باحة المسجد وفوق سجاده المبثوث المنضود، بعض الجنسيات كشفت عن هويتها من خلال اللباس الموحد، بألوان الرايات، من بنين، وأذربيجان، وكازاخستان، ومن بوركينا فاسو، ومن الإندونيسيين، ومن دول الجوار. هنا بالذات سأعرف من بعد أنه تمت إحاطة المسجد النبوي الشريف بساحات تبلغ مساحاتها / 23,000 / متر مربع، تغطى أرضيتها بالرخام والجرانيت وفق أشكال هندسية بطرز إسلامية متعددة جميلة خصص منها / 135,000/ متر مربع للصلاة، يستوعب / 250,000/ مصلٍ، ويمكن أن يزيد عدد المصلين إلى / 400,000 / مصلٍ في حالة استخدام كامل مساحة الساحات المحيطة بالمسجد.
لا وجهة لنا سوى أن نطوف بالمسجد الكبير ونطوف فيه. ونلقي عليه السلام، مساحات واسعة ارتقت إلى القدسية، أصبحت رحابا لله، ولتخطي شرور أنفسنا. هنا، بني المسجد أول مرة، بحضرة النبي عليه السلام الذي سهر عليه بيديه، واشتغل بهما على رفع الجدران والسقف، كما كان المسيح ابن مريم يفعل بالخشب..أراده مسجدا كما لو كان يحقق به أمنية سيدنا موسى. هكذا تقول السيرة: لا سقف يغطي المسجد كله، بل بعضه.. ويمكنك أن تتصور المطر ينهمر والمياه تسيل مخلوطة بالطين وتمس المصلين. ولك أن تتصور النبي عليه الصلاة والسلام يجيب أصحابه عندما طلبوا تمتين السقف والزيادة في طينه: «لا ، بل هو عريش مثل موسى.». ولا يمكنك أن تمرّ دون أن تقارن بين ذلك المسجد الأول، بسقفه من جريد النخل، وبين مسجد اليوم بسقفه المذهّب الخلاب، الذي يشدّ الأبصار بجماله البديع..،خاصة وقد بلغ عدد المرات التي تم فيها توسيع رحاب المسجد 10 مرات على مر التاريخ.
عندما ترى التطور التكنولوجي في خدمة المسجد يتجلى الجلال كذلك في المصابيح الشاهقة، والمظلات العاملة بالطاقة ، وهي تظلل المصلين ..حسب الشمس. المسجد نفسه كان أول مكان تتم إنارته بالمصابيح الكهربائية عام 1327 هجرية..المظلات الشاهقة تنتشر نهارا، وتطوى ليلا كما هو حال زهرة عباد الشمس. تتقوقع على نفسها، مثل أضمومة هائلة من المعدن المذهب والحديد والبلاستيك. مظلات المسجد النبوي التي أمر تحتها، من المشاريع العملاقة حيث جاء التوجيه بتصنيعها وتركيبها على أعمدة ساحات المسجد النبوي الشريف، ويصل عددها 250 مظلة تغطي مساحة 143 ألف متر مربع من الساحات المحيطة بالمسجد من جهاته الأربع، يصلي تحت الواحدة منها ما يزيد على 800 مصلٍّ يضاف إلى ذلك تظليل ستة مسارات في الجهة الجنوبية من الحرم النبوي يسير تحتها الزوار والمصلون.. هاته المضلات أو الشماسي لا تغادر ذهني، لكنها تستعيد إغراء المقارنات مع سالف البناء … من البيت العتيق، أبواب المسجد تضاعفت، منذ الأبواب الأولى. نحن نستحضرها بالأسماء، في غنة روحية كانت هادئة في العمق حتى أحياها الوصول : باب الرحمة وباب جبريل.. وقد أصبحت عشرة أبواب.
المسجد يسع 90 ألف مصلٍ ومصلية، ولكن كثيرا ما كنا نجد الضوء الأحمر مشتعلا الذي يدل على امتلاء المسجد، ولهذا يسارع الحجاج إلى الدخول قبل الوقت، ليحجزوا أماكنهم داخله …
أتأمل المظلات، وأعرف من البحث في تاريخ توسعات المسجد بأنها صممت بارتفاعين مختلفين بحيث تعلو الواحدة الأخرى على شكل مجموعات لتكون متداخلة في ما بينها. يبلغ ارتفاع الواحدة منها ( 14 متراً و40 سنتيمتراً ) والأخرى ارتفاع ( 15 مترا و 30 سنتيمتراً)، ويتساوى ارتفاع جميع المظلات في حالة الإغلاق بارتفاع (21 مترا و70 سنتيمتراً).. هناك إبداع ولا شك، وفي البعيد المتخيل ترقد صور البساطة الأولى.
تحاول أن تعيد رسم المسجد أول مرة، من خلال استرجاع المكتوب والسيرة، يصعب كثيرا أن تخمن أين وقف الرسول محمد بن عبد الله، الهارب من مكة ليرسم على الأرض مجسما للمسجد بطول 50 مترا وعرض 49، يكاد يكون مربعا، أجيال من الصناع والمهندسين والعمال توالت على توسعة المسجد، لكل فترة، من عهد الأمويين الأول إلى عهد آل سعود، وضعت بصمتها واختارت زاوية للتحديث والبناء، تارة منارات وأخرى جدران وثالثة إضاءة وزخرفة…
هنا، تحت الصورة العظيمة للفسيفساء الباهرة والعمارة الراقية والزخارف المضيئة والأعمدة المذهبة، في زمن البداية كان الخلفاء يرقدون تحت النخيل. لا أحد يعرف بالضبط أين تقف حدود المسجد الأولى..كما تقول السيرة العمرانية له وهو قد خضع لتوسيعات عديدة كما أسلفنا.
ما عاد إلي في تلك الأمسية الساخنة وأنا أغوص في التاريخ بلا كتاب، في ظلال المسجد النبوي، هو الرغبة في الكشف عن أركيولوجيا ما. قلت لنفسي إننا لا نذهب إلى المدينة، بل إلى فكرة عندنا عنها. المدينة الحالية بكل روحانيتها، تشدك بما أبدعته وبرعت فيه الهندسة السعودية في الجمال والاستيتيقا العمرانية، من رقي تكنولوجي في أعمال الطاقة الشمسية أو توظيف الغروب في جمع شمسيات المسجد، أما المدينة فهي حفريات روحية، ذاتية…
كانت إحدى اللحظات الأقوى في تاريخ قراءاتي عن الدين والمدينة، وعن التاريخ القديم للإسلام، وما حدث لي، ذات اندهاش وذهول مفاجئ وجميل، في2022 ، في كتاب عن تاريخ القرآن، أو قرآن المؤرخين، والذي جمع مواده(1090 صفحة) محمد علي أمير معزي، هو فرنسي من أصول إيرانية، مختص في الدراسات الإسلامية في كلية الدراسات العليا، يعتبر أحد الأكاديميين الرائدين في دراسة الشيعة الإثنا عشرية المبكرة. الكتاب الأصلي في 3 مجلدات، صادر عن دار دو سيرف، 2019.
وفيه دراسة لمئير بار آشر، المولود في مدينة الراشيدية (هي قصر السوق سابقًا) في ولاية تافيلالت («مرج التّمور») الواقعة في الجنوب الشرقيّ للمغرب، ووالداه هما سارة وأبراهام بن هروش. اعتاش والده الذي كان حاخامًا يهوديًّا من نسخ التوراة، وهو تلميذ الرّابي إسرائيل أبو حصيرة (الملقَّب: بابا سالي).
في الجامعة العبرية في القدس، شغل منصب رئيس معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية، ومنصب رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية في القدس. يتولّى حاليًّا كرسيّ الدراسات الإسلامية على اسم ماكس شليزنجر في نفس الجامعة.
في دراسته حول اليهودية والقرآن معلومة جديدة للغاية بالنسبة لي ولعلها كذلك بالنسبة للقراء، أن يهود المدينة، في فجر الإسلام وقبله بقرون، كانوا يسمون "الكاهنان والمقصود بذلك قبيلتي الكوهانيم"(cohanim الأحبار أو الكهان ) من سلالة هارون شقيق موسى عليه السلام، وهؤلاء الكوهانيم كان لهم دور ضروري في المعبد، حيث كانوا بمثابة سدنة المعبد، وكانوا يخضعون لقواعد الطهارة الصارمة والتقوى.. كما ورد في الإصحاح القديم.
ومن كتابات العديد من المستشرقين ما كتبه شلومو دوف جويتين عن "اليهود والعرب واتصالاتهم عبر القرون". وفيه يقول"إنه لا بد من تصديق شهادات الكتاب المسلمين التي تشهد بأن المدينة التي قدم إليها محمد للدعوة كانت في أصلها مدينة الأحبار" . ويقول في معرض الحديث عن كون أهله كانوا منغلقين على أنفسهم ويهاجرون، وعليه فإن مدن الكوهانيم لم تكن تقتصر على الجزيرة العربية، في القديم كما في الحديث، مضيفا:" في العصر الحالي، نجد أن جربة في تونس ودبدو في المغرب مدينتان تواجد فيهما الكوهانيم بكثافة "، وهو ما يعني بأن القبائل اليهودية التي سكنت المدينة في عهد محمد النبي هي نفسها التي سكنت مسقط رأسي ورأس أهلي.
كان الكشف في عمر لاحق من القراءة…له تأثير على النظرة لهذا التاريخ، للطفولة التي عشناها معا..
ومن يدري، لعل منهم الربِّيون والأحبار الذين كبرنا معهم ونقرأ عنهم في القرآن الكريم "فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ" ۚسورة يونس 94، وهولاء تقول السير العتيقة أن على يدهم درس زيد ابن ثابت شاعر النبوة ورئيس لجنة كتابة القرآن الذي عينه الخليفة عثمان بن عفان .. وتلك سيرة أخرى، تراها بعين الذاكرة والبصيرة، لا عين المشاهدات الحديثة.
أخلص في أول انطباع إلى أنه لا مدينة من تلك المدينة الأولى بقيت في هذه المدينة.. الكل درَسَ وغاب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.