قد يكون الذكاء الاصطناعي هو العنوان الأبرز لعصرنا، والقطاع الذي يضخ مئات المليارات في شريان الاقتصاد العالمي، لكن خلف هذه الواجهة الرقمية البراقة تكمن حقيقة اقتصادية وبشرية مغايرة تماماً لما تروجه شركات التكنولوجيا الكبرى. فخلف كل إجابة يقدمها 'شات جي بي تي' (أو غيره)، وخلف كل سيارة ذاتية القيادة تتفادى عائقاً في الطريق، وخلف كل نظام لفرز النفايات في أوروبا، يقف إنسان حقيقي. إنها قصة الملايين من 'عمال الظل' المنتشرين في دول الجنوب، الذين تحولوا إلى وقود حيوي للآلة؛ يفرزون البيانات، ويوسمون الصور، ويواجهون المحتوى الرقمي الأكثر سمية وتوحشاً، مقابل أجور زهيدة. هذا التحقيق يغوص في العمق المخفي لتقنيات المستقبل، ليكشف كيف يُبنى الذكاء 'الاصطناعي' بجهد بشري خالص، وكيف تحول الحلم التكنولوجي إلى كابوس من الاستغلال والعمل الهش والأجور الزهيدة. **وهم السحر التكنولوجي: خدعة وادي السيليكون الكبرى في حياتنا اليومية، بات نماذج الذكاء الاصطناعي أو "شات جي بي تي" أشبه بقوى خارقة، رفيق غير مرئي ينظم نزهاتنا العائلية، يكتب رسائلنا الإدارية المعقدة، ويلخص خطابات الزعماء في الأممالمتحدة بلمح البصر. تروج شركات التكنولوجيا في "سان فرانسيسكو"، حيث تتدفق مئات المليارات من الدولارات، لهذه التقنية باعتبارها "سحراً" خالصا لم يشهده التاريخ من قبل. ولكن، وكما هو الحال في كل خدعة سحرية متقنة، هناك حيلة لا يفكر فيها الجمهور المبهور. فخلف الشاشات البراقة والردود الآلية الفورية، تختفي حقيقة مادية صعبة التصديق ؛ فالذكاء الاصطناعي لا يعمل بمفرده، ولا يملك وعياً ذاتيا، بل هو نتاج جهد بشري هائل ومضني. إن ما نعتبره "ذكاءً آليا" هو في الواقع تكرار لعمليات تعلم اعتمدت بشكل كلي على الصحة الجسدية والعقلية والنفسية لملايين البشر الذين يعملون في الظل لتلقين الآلة كيف تفكر، وكيف ترى، وكيف تتحدث وغيرها من المهام.. **وقود الآلة: عندما تتشكل الخوارزميات بأصابع البشر تتجلى حقيقة هذا الاعتماد البشري حتى في أكثر القطاعات تعقيداً، مثل إدارة النفايات في بلد أوروبي كسويسرا. ففي مصانع إعادة التدوير المتطورة، ورغم وجود كاميرات وأنظمة ذكية لفرز المخلفات بحسب طبيعتها (مثال الورق من الكرتون)، تظل اليد البشرية هي "المعلم الأول". يشرح مهندسو الشركات الناشئة (هناك) كيف أن تدريب الخوارزميات يتطلب تصوير آلاف القطع من النفايات، ثم يقوم بشر، غالباً في دول بعيدة مثل فنزويلا، بعملية "توسيم البيانات" (Data Labeling) يدويا. هؤلاء الأشخاص يرسمون الحدود حول كل قارورة وكل قطعة كرتون في آلاف الصور لكي "تفهم" الآلة ما تراه. الأمر ذاته ينطبق على المجالات الطبية والسيارات ذاتية القيادة ؛ فخلف كل عملية جراحية دقيقة تقوم بها روبوتات، وخلف كل سيارة تتجنب المارة، هناك أشخاص مثل "إيفتوس" في نيروبي، قضوا سنوات في تحديد نقاط على شاشاتهم لتعليم الآلة الفرق بين العضلات والأعصاب، أو بين الإنسان وعمود الإنارة. **"مستعمرات" البيانات الرقمية: استغلال الفقر وتصدير الصدمات تعتمد شركات التكنولوجيا العملاقة بشكل جوهري على عمالة رخيصة في دول الجنوب مثل: كينيا، الفلبين، ومدغشقر… في نيروبي (كمثال)، التي تحولت إلى عاصمة لهذا النوع من "العمل المجهري" (Micro Jobs)، يروي العاملون قصصا مروعة عن واقعهم،ومن أنهم "جنود الخفاء" الذين يتقاضون أجورا زهيدة لا تكفي لسد رمقهم، مما يضطرهم للعمل لساعات طويلة قد تناهز 16 ساعة/يومياً. لكن الأخطر من صعوبة العيش هو الثمن النفسي الباهظ ؛ فمن أجل أن تبقى منصات التواصل الاجتماعي نظيفة وآمنة للمستخدمين، يتعين على هؤلاء المراقبين مشاهدة آلاف المقاطع التي تحتوي على عنف مفرط، جرائم قتل، والاستغلال الجنسي (لاسيما للأطفال) لتدريب خوارزميات الحجب على آداء وظيفتها. يصف أحد العاملين السابقين، كيف تدمرت حياته الزوجية وصحته النفسية بعد إجباره على مشاهدة محتوى إباحي لثماني ساعات يوميا لمدة أشهر، واصفا ما يحدث بأنه شكل من أشكال "العبودية الحديثة" والاتجار بالبشر، وهو ما دفع محامين وحقوقيين لمقاضاة شركات كبرى مثل "ميتا" (المالكة لفيسبوك) بتهم تتعلق بظروف العمل غير الإنسانية. **فخ العولمة: استنزاف الإبداع البشري وتعميم الهشاشة لا يقتصر هذا الاستغلال على الدول النامية فحسب، بل يمتد ليطال ذوي الكفاءات العالية في أوروبا أيضاً. فمنصات التدريب مثل "Outlier" تستقطب أكاديميين وحملة دكتوراه في سويسرا لتدريب النماذج اللغوية على "الإبداع" والفروق الثقافية الدقيقة، مقابل أجور زهيدة لا تعكس مؤهلاتهم، وتحت شروط عمل مجحفة لا تدفع مقابل ساعات البحث والتدريب. يروي باحثون سويسريون كيف وجدوا أنفسهم يكتبون قصائد ويصيغون إجابات معقدة لتغذية الآلة، ليشعروا في النهاية أنهم يستنزفون إبداعهم الشخصي لصالح نظام آلي، بينما تزداد أوضاعهم المالية هشاشة. في المحصلة، يؤكد الخبراء أن الذكاء الاصطناعي بحاجة دائمة ل "شريان حياة" بشري ؛ فهو لا يستطيع التطور أو العمل دون التغذي المستمر على المعرفة والأحكام والأعصاب البشرية، مما يسقط أسطورة "الاستقلالية التقنية" ويكشف عن نظام اقتصادي يعيد إنتاج التفاوت الطبقي بعباءة رقمية تفضي بدورها إلى "العبودية الرقمية".