"متى تم خلق الشعب اليهودي؟ منذ أربعة آلاف سنة، أم أنه لم يتخلق إلا عبر أقلام مؤرخين يهود في القرن التاسع عشر، الذين أعادوا صياغة أحداث الماضي، ليشكلوا شعبا متخيلا بهدف بناء أمة للمسقبل؟" هو ذا السؤال المحوري الذي يحاول المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة تل أبيب، الجواب عنه في كتابه: "كيف تم اختلاق الشعب اليهودي: من التوراة إلى الصهيونية؟"، الصادر بالعبرية أولا قبل ترجمته إلى الفرنسية من قبل دار النشر "فايار" الباريسية خلال ذات سنة نشر نسخته الأصلية (2008). مداد كثير سال حول الكتاب الذي صنفه صاحبه في خانة مدرسة "التاريخ المضاد"، تلك المدرسة المقلقة ل "أمن" إسرائيل التاريخي التي برزت في تسعينيات القرن المنصرم. عبر ما لا يقل عن 446 صفحة من الحجم المتوسط، يستكشف شلومو صاند أعماق التاريخ العتيق بحثا عن أجوبة لأسئلة أساسية من قبيل: هل تعرض سكان "ملكوت يهودا" للنفي بعد تدمير الهيكل الثاني في سنة 70 ميلادية، أم أن الأمر مجرد أسطورة مسيحية تم دسها ضمن التقليد اليهودي؟ ?وإذا لم يكن فلاحو الأزمنة الغابرة هؤلاء قد تعرضوا للترحيل، فأين هم الآن؟" ينتقد الكاتب، بأسلوب ومعمار كتابة لا يخلوان من متعة القراءة، الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل، حيث تحول الزمن التوراتي إلى زمن تاريخي، مؤكدا أن مقولة "نقاء" الجنس اليهودي وفكرة "الشعب اليهودي الواحد" بدعتان اختلقتهما الحركة الصهيونية لتبرير استعمار فلسطين، موظفا عدة دلائل تاريخية لدحض مقولة انحدار اليهود من أصل واحد ووحيد، ومبرزا أنهم جماعات من أصول مختلفة، منهم بعض سكان المغرب وشمال إفريقيا، اعتنقت اليهودية خلال مراحل معينة من التاريخ. شلومو صاند في سياق الأسئلة الجريئة و المزعجة «للأمن التاريخي» لإسرائيل والصهيونية التي أسس عليها شلومو صاند كتابه والتي استعرضنا جملة منها في الحلقة الماضية، يضيف الكاتب: «في غياب مكون ثقافي مشترك غير مقدس بين مختلف الجماعات الدينية، فكيف لليهود أن يكونوا موحدين ومتميزين ب «علاقات الدم» ؟ وهل يشكل اليهود «شعبا-عرقا غريبا»، مثلما كان يتمثل ذلك ويزعمه المعادون للسامية منذ القرن التاسع عشر؟ هكذا إذن، يكون هتلر، الذي تم سحقه عسكريا في 1945، قد انتصر على المستوى النظري والذهني في الدولة «اليهودية» ؟ ما السبيل لدحض نظريته التي تدعي أن اليهود يمتلكون خاصيات بيولوجية مميزة، بينما كان الحديث في السابق يجري حول «دم يهودي»، وبينما يعتقد العديد من سكان إسرائيل اليوم في وجود «جينة يهودية»؟ . وعند هذا الحد، يتساءل شلمو صاند عن مكر التاريخ: «في أوربا سابقا، كان كل من يزعم أن اليهود يشكلون شعبا غريبا بسبب أصلهم، يتهم بمعاداة السامية. أما اليوم، وعلى عكس الماضي، فكل من يتجرأ على القول بأن يهود العالم لا يكونون شعبا متميزا أو أمة، يتعرض للتشهير بتهمة «العداء لإسرائيل». «وبفعل التعريف العرقي للشعب اليهودي، المستمد من الصهيونية، ظلت إسرائيل، رغم مرور ستين سنة على نشأتها، ترفض أن تكون جمهورية لكل مواطنيها. إن ربعهم لا يعتبرون كيهود، كما نعلم ذلك، وبسبب هذا، ووفق روح القوانين الإسرائيلية، فالكيان الإسرائيلي ليس دولتهم». إن المفهوم التاريخي الذي نشأت على أساسه إسرائيل كدولة دينية، وهو ما يتناقض مع قيم ومبادئ الديمقراطيات الحديثة، لارتكازه على عامل الدين، يشرح الكاتب، يمنع الكيان الإسرائيلي من أن يكون دولة مواطنين. وبدون لف ولا دوران، يلخص شلومو صاند لقراءه المحتملين الأطروحة التي يدافع عنها بحثه: «لقد شكل اليهود، دائما، جماعات دينية مهمة برزت وانغرست في عدة مناطق من العالم، لكنهم لا يكونون «عرقا» له أصل واحد ووحيد، انتقل من مكان إلى آخر طوال أزمنة من التيه والمنفى المستمرين». أجل، وحسب صاند، فاليهود لم يوجدوا قط كأمة عرقية بأصل معروف، ولكنهم مزيج من مجموعات بشرية اعتنقت اليهودية في مراحل مختلفة من التاريخ وفي مناطق مختلفة من حوض المتوسط والمناطق المجاورة له، على عكس الرواية الصهيونية الرسمية التي تقول بالأصل التاريخي الواحد لليهود. وهذا لا ينطبق فقط على يهود شمال أفريقيا فحسب، يوضح الكاتب، بل يشمل أيضا غالبية المناطق التي دان أهلها بالوثنية وتحولوا إلى اليهودية، من يهود اليمن الذين اعتنقوا اليهودية في القرن الرابع الميلادي، إلى اليهود الأشكناز في شرق أوروبا اللاجئين من مملكة الخزر والذين تحولوا إلى اليهودية في القرن الثامن.
