ولد الرشيد: قبائل الصحراء المغربية وشيوخها اضطلعوا بدور بارز في تجسيد صدق الولاء والانتماء    نادية فتاح تتوَّج كأفضل وزيرة مالية في إفريقيا لعام 2025: المغرب يواصل ريادته في التنمية القارية    تدشين القنصلية العامة للمغرب بمونت لاجولي    الترجي يسجل أول فوز عربي وتشيلسي ينحني أمام فلامينغو وبايرن يعبر بشق الأنفس    بنهاشم : الهنوري خارج حسابات الوداد والسومة في كامل الجاهزية لمواجهة يوفنتوس    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الفنانة المصرية روبي تتألق بمنصة النهضة بموازين    كأس العالم للأندية 2025.. فوز الترجي الرياضي التونسي على لوس أنجلوس الأمريكي بنتيجة (1 – 0)    وكيل النجم البولندي ليفاندوفسكي: الانتقال ممكن للدوري السعودي    الوداد يعلن تعاقده رسميا مع السوري عمر السومة    صحافي من البيرو: في تندوف شاهدت القمع وفي الداخلة استنشقت هواء الحرية (صورة)    كيوسك السبت | ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب بنسبة 55 بالمائة    بوشهر في مرمى النار.. هل يشهد العالم كارثة نووية؟    "ليفربول" يتعاقد مع الألماني "فلوريان فريتز"    المغرب بالمرتبة 70 عالميا.. اختلال العدالة الطاقية وتأمين الإمدادات يعطلان مسار التحول الطاقي    البنك الأوروبي يقرض 25 مليون دولار لتطوير منجم بومدين جنوب المغرب    محمد الشرقاوي يكتب: لحظة الحقيقة.. ما لا يريد أن يراه مناصرو التطبيع ووعّاظ الاتفاقات الإبراهيمية!    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    تراجع أسعار الفائدة قصيرة المدى في سوق السندات الأولية وفق مركز أبحاث    الفيفا يعلن آخر التعديلات على قانون كرة القدم .. رسميا    هزة ارضية تضرب سواحل الريف    بين الركراكي والكان .. أسرار لا تُروى الآن    إعلان العيون... الأقاليم الجنوبية حلقة وصل بين شمال إفريقيا والعمق الإفريقي ومجالا واعدا للاستثمار    محمد أشكور عضو المجلس الجماعي من فريق المعارضة يطالب رئيس جماعة مرتيل بتوضيح للرأي العام    السلطات الإمنية تشدد الخناق على مهربي المخدرات بالناظور    أمن الناظور يحجز كمية من المخدرات والمؤثرات العقلية    مقتل ضباط جزائريين في إيران يثير تساؤلات حول حدود التعاون العسكري بين الجزائر وطهران    حرب الماء آتية    فضيحة "وكالة الجنوب".. مؤسسة عمومية أم وكر مغلق لتبذير المال العام؟    توظيف مالي لمبلغ 1,72 مليار درهم من فائض الخزينة    زلزال بقوة 5.1 درجة يهز شمال إيران    مطيع يوصي بدليل وطني للجودة ودمج التربية الإعلامية في الأنظمة التعليمية    خالد الشناق: المخطط الأخضر يجب أن يخضع للتقييم ولا شيء يمنع من انتقاده    احتياجات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالمغرب تبلغ 11.8 ملايين دولار    المغرب يخمد 8 حرائق في الغابات    بورصة البيضاء تغلق الأبواب بارتفاع    ترامب يمنح إيران مهلة أسبوعين لتفادي الضربة العسكرية: هناك "فرصة حقيقية" لمسار تفاوضي    دعم "اتصالات المغرب" بتشاد ومالي    وقفات في مدن مغربية عدة تدعم فلسطين وتندد بالعدوان الإسرائيلي على إيران    باحثون إسبان يطورون علاجا واعدا للصلع    نشرة إنذارية: طقس حار من الجمعة إلى الثلاثاء، وزخات رعدية اليوم الجمعة بعدد من مناطق المملكة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    معهد صحي يحذر.. بوحمرون يتزايد لدى الأطفال المغاربة بهولندا بسبب تراجع التلقيح    بعد وفاة بريطانية بداء الكلب في المغرب.. هل أصبحت الكلاب الضالة تهدد سلامة المواطنين؟    اجتماع إيراني أوروبي في جنيف وترامب يرجئ قراره بشأن الانخراط في الحرب    لفتيت يذكر الشباب باستمارة الجندية    أنامل مقيدة : رمزية العنوان وتأويلاته في «أنامل تحت الحراسة النظرية» للشاعر محمد علوط    عن "الزّلافة" وعزّام وطرفة الشّاعر عبد اللطيف اللّعبي    افتتاح الدورة ال26 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة    كارمن سليمان تفتتح مهرجان موازين بطرب أصيل ولمسة مغربية    7 أطباق وصحون خزفية لبيكاسو بيعت لقاء 334 ألف دولار بمزاد في جنيف    المغرب يعزّز حضوره الثقافي في معرض بكين الدولي للكتاب    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ع. الكبير الخطيبي وجاك حسون الكتاب الواحد

هذا الكتاب لقاءٌ، أو بالأحرى ثمرة لقاء. فأما أحدنا، فمولود في الإسكندرية، ويعيش في باريس، وأما الآخر، فمولود في الجديدة، على الساحل الأطلسي، ويعيش في المغرب.
كان التقاؤنا من حول كتبنا ومن حول كتاباتنا. ثم لم نسلم من إغراء مواصلة هذه الاندفاعة [نحو بعضنا البعض]. لكننا حرصنا، على امتداد هذه السنوات الأربع، ألا نفرط في شيء من جوهر أدبيات الالتقاء.
لقد كانت أحداث من قبيل ندوة الرباط عن الازدواجية اللغوية، أو أحداث أخرى، على صعيد آخر مختلف، من قبيل حرب لبنان، هي التي يفترض أنها تمنح هذه الرسائل قوتَها القاطعة. وعليه، فقد لزمنا، كما لو من غير إدراك منا، أن نعتصم بما بدا لنا شيئاً أساسياً؛ ألا وهي اللغة، والتاريخ، والعلاقات الملتبسة القائمة بين ما هو أغلبي وما هو أقلي، وبين ما هو أهلي وما يسمى دخيلاً، وفي الأخير عودة الديني والأصولي، اللذين صار يتعين على اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط أن يواجهوهما في الوقت الراهن، كلاً على طريقته.
لقد كنا مشغوليْن بقضية لا نرانا وفَّيناها حق قدرها، ما جعلنا نطرق هذه المشكلات في عجالة، وفي تصميم على أن نقول، في زمن تعمدنا تحديده [وعدم الخروج عنه]، ما كان يهمنا [دون سواه].
وكانت النتيجة : كتاباً مشتركاً يؤكد اختلافاتنا والتقاءاتنا من حول تاريخ قديم، ضارب في القدم.
ترانا وفينا بهذا الوعد؟ إن حكمه يعود إلى القارئ، ويقع عليه، كذلك، أن يدفع بالنقاش من حيث يرى، بدوره، أنه ينخرط في هذا الضرب من التراسل. ولنكرر القول إنه تراسل كان قد انطبع بمشروع محتمل للنشر، وبسر بيِّن مكشوف.
ميرابيل، 30 أكتوبر 1983
عزيزي عبد الكبير،
هذه المرة أنا لا أركض. وإذا كنت أرقص فهو رقص داخلي : إنني أختلي بنفسي، لبضعة أيام، في أرديش، لأسترد أنفاسي، لأن هذا الدخول كان غنياً بالأحداث. ندوة لحلقة فرويد «عن الصدمة النفسية»، وندوة أخرى كانت لي فيها مساهمة أسميتها «منفى المنفى»، عالجت فيها، بالتنقل من موضوع إلى آخر، مسألة «الوقوع ضحية». الوقوع ضحية لكره (- الأجانب)، والوقوع ضحية للمنفى، بالانجراف بشكل متصالب من ضياع رسالة مفقودة، كذلك. ومن غريب أن الاستقبال الذي خُصَّ به هذا النص (استقبال التحامي حار) قد آلمني.
وحتى إذا كنت لا أجهل بأن... فبالالتزام بنظام القوانين التي تتحكم في الرسالة. إن الأمر يأتي من مكان بعيد كبعد ما تسميه «مستوحى» (لقد أعجبني كثيراً ذلك التمييز بين «الاستيحاء» و»الحماس»). «مستوحى»، إنها كلمة تجعلني أتصور أنفاس طفل ينام في غرفة مظلمة مواربة الباب، وتتناهى إليه أصوات الكلمات والأصوات التي لا يميزها، ولا يهتدي إلى معانيها. وسوف لا يفتأ الأمر يقلقه ويدفعه إلى العمل. إنني أعيد قراءة رسالتك في هذه اللحظة، وإنني أجد هذه الفكرة معروضة، بصيغة مختلفة، في الصفحة «3» (التي هي في الحقيقة الصفحة «2»، فقد كتبت الرقم «3» مرتين). تراني قرأتها ونسيتها؟ أم أكون استعدت ما ذكرت من قبل أن تعبر عنه؟ شيء لن يتأتى لنا أن نعرفه أبداً، إلا أن يكون لقاء مرتجلاً وغير مرغوب يخلق، أحياناً، أثاراً كتابية غريبة. وينبغي القول إن كلمة «طفل» تعود إليَّ بقوة. فأنا، منذ بعض الوقت، أحدث نفسي أن مصادر السفالة البشرية، ومصادر العصاب الفردي، العصاب الذي يتلف الأطفال، متأت من أننا ننسى أن آباءنا كانوا أطفالاً. فنحن نستطيب أن نراهم كباراً أو شيوخاً. مخيفين أو مفلسين. لكن لا أطفالاً أبداً...
إن «أنا أكتب» تندرج في ما بين هذه المعرفة المجهولة والمحتوى الذي لا يعرف به أحد. وذلك مصدر الطابع الموار لهذه اللحظة؛ حيث ترتسم الكلمات الأولى لكتاب فوق صفحة بيضاء. وذلك، أيضاً، هو سبب الكبت الذي يتكبده الذي يؤمن بتلك ال «في البدء»، والذي يحلم بكتاب مثالي لن يقيض له أن يرى النور يوماً. إنه يؤمن بالله، ذلك الكاتب.. الذي تظل الكلمات مجمدة في ذاته إلى الأبد.
(توقفت عن الكتابة في هذا الموضع... فقد لزمني أن أقوم ببعض الأشرية، أو ملاقاة صديق، مدير «متحف للغرائب»، ليطلعني على بعض اللوحات، تصور الجنس ? جنس من غير كلام - وقد صارت بيده السلطة. الرسام الذي رسم تلك اللوحات، وقد أصيب اليوم بعمى نفسي، يلاقي عناء في التخلص من هيجانه)...
وذلك هو مبعث سؤالنا، الذي يعود بإلحاح : ما هو المؤلف الذي لا يعرف أن يروج لإنتاجه في وسائل الإعلام بالعمل، ولا يفتأ يقدم ? في صيغة غريزة جنسية ? لا تتوقف، ما يخترقه في صورة تأثيرات أولية، أوفي صورة استيهامات؟ غربال، أو كائن منثقب، لا يفتأ جسده يستشعر الضربات المرتدة لهذه التفريغات الكتابية التي لن تشكل قط عملاً أدبياً. إلا أن يلوذ بالله، ويصطنع من نفسه ناسخاً لكلام يُعزى إلى الألوهية.
لقد مضت علينا قرونٌ عديدة نسمع هذا الكلام. فقد وضعنا مصيرنا بين أيدي هؤلاء النساخين. وإن أكثرهم لا يريدون اليوم أن يروا في الأمر غير الظاهر المستوحى، في جهل بالأساس الطقوسي العنيف الذي يؤطر به النص من جديد.
أن تكون يهودياً أو مسلماً اليوم : ذلك وهم، مثلما نقول عن هوى، أو عن حب. أنه انخراط في سلالة، يُتبين، في الوقت نفسه، أنها مجنونة. لماذا؟ لأن صيغ هذا الانخراط تدخل، في معظمها الأعم، في الرومنسية. فأن تكون يهودياً اليومَ، هي مسألة خاصة؛ فهي تخص علاقة بنص وقضية عمومية، على شيء من الطيش.
وإذا كان بلانشو وليفينا قد اشتغلا على النص، فبدافع من نوع من القرب. فالأول يجهل بعواقبه الشعبية والحضرية، والثاني يتموضع ضمن التقليد العالم. وأعتقد، من جانبي، أن جابيس يقف عند اكتشاف كتابي. فيجعلني أحلم؛ وذلك مصدر التناقض الذي يحدثه عندي.
إن هذا التراسل، الذي يتواصل، يسمح لي، استطراداً، بالحديث عن الواقع اليهودي، غير حديث السياسة أو حديث الأهواء. ويبقى أن الإسلام، يبقى، بالنسبة لي، لغزاً. ولطالما استهواني، خلال هذه السنوات الأخيرة، أن أطرح على نفسي السؤال التالي : ما الذي يجعل القبائل اليهودية في الشرق الأوسط، ثم في شمال إفريقيا أقل انقلاباً إلى الإسلام، والحال أن هذه الديانة كانت، من الناحية اللاهوتية، قريبة جداً إليهم؟ وأفترض أن الإنشاء النصي الثاني (التلمود) هو الذي أقام الحاجز الفاصل بين القرآن والتوراة؛ حيث صارت المواجهة التي يُدعى إليها الإنسان، لقاء مع المتعذر تسميته، أو مع اللامسمى.
في مصر بلغ التوجه نحو التوليفية شأناً بعيداً. لكنه كان يتوقف، على الدوام، عند ذلك الحاجز المشهود. وهذا أمر يبرز مزايا التأويل المسنن، كما يأتينا التلمود بمثال له، وعن اندحار القرائين، أقلية الأقلية، أن قبلت بالعيش من غير أي واقية دوغمائية.
وعلى كل حال، فإن الإسلام الحالي في صيغته الشيعية، أو في صورته المحزنة، صورة الإخوان المسلمين، يبعثني على شيء من الاستغراب. وأفترض أن ما نرى هو خيانة لكتابة، وخيانة لعمل كتابي.
وأن نستغرب لأخوَّتنا، مثلما أمكننا أن نفعل (أو أمكنني أن أفعل؟) أمرٌ يفشي الكثير عن مفعول الجنسانية.
واليوم يبدو لي أن تساؤلنا الأول يعبر نصية نواتها وهمٌ. وإن هذا الوهم المسمى «انتقاء» يمكنه التمثيل له بطفل لا يكف يقول لإخوته : «إنني أنا الذي طلبت منه أن يجعلتي أكثر من يحب الناس، فعاقبني، ولم يمانع»... ولقد انخرطوا جميعاً، وبالتتابع، في هذه اللعبة. ألم يأن الأوان، يا ترى، لنسمي هذه النواة باسمها : المُمات؟
فماذا ترى في هذا الاقتراح؟
وتقبل عبارات مودتي.
جاك حسون
الهرهورة، 4 دجنبر 1983
صديقي العزيز،
بلى، إننا ينبغي لنا أن نحافظ على ضرورة «قلب العبارة»، وأن نبقيه، إذا صح التعبير، يقظاً، ودائراً من حول محوره. وإلا، فإنني لا أرى فائدة للكتابة، وللاستمرار في تراسل يتراوح بين المنتهي وغير المنتهي في جميع هذه الرسائل التي تُتبادل فيه، بين عدة أيد، إبدال لرسالة أحصاها الزمن والذاكرة على طريقتهما : المُمات. إنني أقحمك، بسرعة، في هذا الإحصاء للذاكرة، بما هي شيء ممات. إن كلمة، أو فكرة العريق التي تفتنني، مصدرها من تكويني «الشعري» (كل أشكال الإنكار التي فرضتها علينا اللغة، من جهتيِّ الذاكرة). إنني أتخلى عن كلمة «عريق». وأتابعك، لبعض الوقت، في إحصاء الذاكرة، أو بالأحرى، من أجل تسريع الحديث، فأنا الذاكرة عدة ذاكرات : ذاكرة الجسد، وذاكرة كل حاسة، أو إحساس، تفرز عمليتها الاستذكارية وتمنحها استقلاليتها. إن الفكر جسد، والروح جسد، وهلمجراً... ذاكرة الخارج، التي رافقت تاريخنا، مثلاَ، ذاكرة العودة الأبدية، وهلمجرا.
لست أدري أي قيمة تكون لهذا التمييز، لكن ما أريد هو أن أفكك المُمات، حتى الضياع، أي حتى الموت. إنني أتخيل، لكنني ههنا لا أكاد أفكر، أن طاقة الممات هو ما يحصي خطاه إذ يرافق الموت، ويدخل لإحصاء النهايات. كل هذا لا يزال غامضاً، إنها حروف قسمت، وجزئت، وهي ثابتة، تتموقع في عدم.
لا يمكننا، بطبيعة الحال، أن نقول شيئاً، لكنه شيء مستحيل. إن اللاشيء هو في أصله اقتصاد للكلمة، وبالتالي اقتصاد للشيء. لا يمكنني قط، ألا أقول شيئاً، فأنا مدعو لأصنع من كلمة، ومن اتفاق، كتابةً، بدلاً من أن أترجمهما إلى لغة اصطناعية؛ مدعو لأصنع من لاشيء مظهراً للاشيء، ومدعو لأعدد هذه المظاهر كلها في الحركة الخطية.
أعود إلى سؤالك بشأن الشيعة، وعن التراجع الإسلامي اليوم. قوة (شيعية) قيامية تحمل وهم إله مغتال في صورة اغتيال علي. وكما تعلم جيداً، فالإيرانيون، وهم الشيعة، قد تماهوا، منذ البدء، مع ذلك الاغتيال.
نعم، نعم، إنهم، بذلك، يبتلعون هزيمتهم، بما هم أمة، وحضارة كانت لها الهيمنة في الماضي. فلذلك، لبسوا لبوس عرب منهزمين، ولبوس شهداء. ذلك الاغتيال، وبالأحرى، تخيل ذلك الاغتيال، لا يفتأ يعود، ويستحوذ على أذهان أولئك الذين يؤمنون بالعائدين : الإمام المتواري (السابع، أو الإثنى عشر!)، العائدين من الآخرة، أو من نهايات العالم. والمذهب الشيعي برمته حافظ، إلى اليوم، على هذه الذاكرة، ذاكرة الموت التي ينبغي أن تسهر على عودة المختفي وعودة الغائب. فمن يعود يا ترى؟ ليس العائد بشخصه بطبيعة الحال (يوجد، في هذا الصدد، لبس بشأن الشخصية القيامية الخميني : إنه يجيد الاستفادة من ذلك الانتظار). إن ما يعود هو الموت الحي للمؤمن. وأما المؤمن فلا يجيء، إنه يعود إلى الحياة، إلى الموت. فكيف ندون تلك القوة «المجنونة» عند المؤمن، ووهمه؟ لن يكون بمستطاعنا أن نتخلص منهما بيسر وسهولة : إن إلهاً يموت، أو يُغتال، هو اسم لسؤال، سؤال الواحد. وهو، كذلك، سؤال تاريخي. وأما من جهة أخرى، فأنا أوافقك الرأي، ف «نحن» لا يمكننا أن نسير في طريق النساخ. بل نحن مدعوون إلى الكتابة، وإلى تغيير موقف بآخر؟ بلى، بلى، لكن أن أجرب حظي ضد إله طفولتي (إله جعل لأجل الأطفال الذين ما أسرع ما يصيرون شيوخاً، بعد أن تخلوا عن نمو عقولهم)، لا يقتصر على أن نرده إلى وهمه، فنحن نعيش بأوهام. بل الأساس أن نجعله صيغة في التفكير. فأن يكون الله وهماً، وأن يكون أبناؤه الذين يعتقدون أنهم هم وحدهم المحبوبون منه، يعمهون في عمى ويعيشون في جهل، ذلك أمر ينبغي التشديد عليه. بيد أن تفكيري يذهب إلى شيء آخر : كان اليونانيون يخلقون الآلهة ليسخروهم في الأدب، أي لينشئوا عالماً وهمياً واصطناعياً، لكنه يعلِّم الناس أن يعشوا حياة الحاضرة، وينضبطوا لقوانينها. وإنني كثيراً ما أفكر في تلك المأساة الرائعة «أوديب في كولونيا»؛ ففيها يفشي أوديب سراً رهيباً إلى أجنبي، يفشيه إلى ملك أجنبي. فماذا رأى هذا الملك، في موت أوديب؟ وخاصة، ما السبب الذي يجعل أوديب يفشي هذا السر؟ إن وحدانيتنا شديدة النزوع القبلي، شديدة الضيق، بما يعجزها أن تنخرط في فكرة الآلهة، وتمثلاتها. وأياً ما يكن، فلا نزال، إلى اليوم، مسممين بعتاقتنا الضيقة. إن الله، أو الآلهة، ما هم بأموات ولا أحياء، ولا حاضرين ولا غائبين، ولا وطنيين ولا دوليين. إنهم، كشأن أي لغة قديمة، نقط استدلال في أوهامنا عن الماضي، ومؤشرات على سلطة الاسم.
سأتوجه إلى مصر في مارس المقبل، للمشاركة في ندوة عن المسائل الثقافية. وأرحل، بعدها، إلى إسبانيا؛ حيث أقوم مع غويتصولو على تنظيم لقاء في روندا. ثم سأذهب إلى باريس؛ فأنا عضو في «المجمع العالمي للفلسفة»، حديث الإنشاء. وأما الآن، فإن كاتب سيناريوهات يشتغل على إنجاز فيلم مستوحى من كتاباتي، تجري أحداثه في المدينة مسقط رأسي، في إطار ظروف خاصة : صورة في الصورة. سأقص عليك الحكاية. ينبغي أن نروي الحكايات.
ودمت بخير.
ع. الخطيبي
جاك حسون
8 يناير 1984
عزيزي عبد الكبير،
ها إن سنة مرت. فالصفحة تنقلب، والكتابة تتواصل، ونظري قد بدأ يميل إلى الضعف، وظهري إلى التقوس قليلاً (وهي صورة مرضية لي على الرغم من المظاهر). لقد مر شهر على توصلي برسالتك. وقد كان يندر أن أتأخر في الإجابة عنك. لكن النصب التي وضتعها في عملي، وفي أنشطتي غير التحليلية، وفي رغبتي في الكتابة قد ظهرت من شدة الجلاء أنني قد لزمني أن أركض من الواحد إلى الآخر. لكن في جو من الهدوء الغريب. هذا الهدوء الذي اكتسبته خلال هذه السنوات الأخيرة، في خضم مسارات طويلة ومعقدة أمر يبعثني على الدهشة والاستغراب.
سيكون عليَّ أن أتوجه، عن قريب، إلى نيويورك، وإلى مونريال، لتقديم سلسلة من المحاضرات. سأتحدث في مونريال عن وضع بعض الانفعالات العصبية النظرية في التحليل، التي ينبغي ردها إلى نموذج من التصور الكانطية. وينبغي لي، كذلك، أن أتحدث عن الغريب، والوقوع ضحية لرعب الأجنبي. ويبدو أن صديقي فرونسوا بيرالدي يعتبر هذا النص كمثير مرغوب فيه. وسأتحدث، كذلك، وفي الأخير، إذ أنا في جامعة نيويورك، الوضعية التي كانت للنساء في مصر الفاطمية. فتحت يدي وثائق شديدة الإثارة تتحدث عن الحرية التي كن يمتعن بها. لقد كن يتغلبن عن الرجال. كما سأتحدث عن الترسانة القانونية الكبيرة التي كن يستعملنها لضمان حريتهم. وإنني لشديد الحرص على هذه المحاضرة، وأنا سعيد بأن بلغ إلى علمي أنها قد تم لها القبول.
ستسنح لي الفرصة لأعطيك إياها لتقرأه. والأمر كله يبدو لي شديد الأهمية. ليس من حيث هو تحول، أو محول، بل كشيء يصدر عن ضرورة ذاتية.
إن ما كان يشغلنا، في مبتدإ تراسلنا، أمر يعتبر جزءاً من حياتي اليومية. وسأقول لك إنني ما عدت أهتم لمصير ذلك الذي كان فرويد يسميه : «إله البراكين الوحشي». إن الإله القبَلي القديم يواصل طريقه. وأما الآن، فإنني أواصل سبيلي، وأشعر بأني في أحسن حال.
إنني أدرك مدى سداد ملاحظتك : إن هاتين المحكتين قد أثارتا الكثير من الحماس، وكانتا من وراء إنتاج نصوص انفعالية، دوغمائية أو مجنونة. والأكثر جنوناً سيكون أولئك الذين يتمادون في صرامة . وبالمناسبة، هل يوجد للتلمود مكافئ في الإسلام؟ حقاً إن الكتابة التلمودية قد أمكن لها أن تلغي القصة بإقامته التوراة كاستعارة. لكن هذه المحاولة المجنونة لإقصاء المتخيل أخفقت؛ بحيث أصبح هذا المتخيل ينفذ إلى التوراة بكثير من القوة...
احك لي عن أسفارك في مصر وفي الأندلس.
أشعر أنني كنت في هذه السنة بالفعل كائناً مقيماً. إلا من رحلة إلى بروكسيل، لزيارة ابنتي وأحد إخوة والدي...
لكني نسيت أمراً : سأصير في يوليوز القابل جداً. وهذا أمر يفاجئني ويفتنني معاً. ههنا حقاً يبتدئ النزول : في ميلاد حفيد. إنه العقِب...
إليك، وإلى أصدقائنا المغاربة أصدق التحيات.
إليك بكل صدق
جاك حسون


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.