يعد الطيب منشد من المناضلين الذين رافقوا العديد من قادة الاتحاد، واولهم الشهيد عمر بن جلون، الذي يكشف لنا الطيب عنه جوانب خفية، انسانية وسياسية ونقابية. كما أنه يعود بنا الي تفاصيل أخرى تمس الحياة النقابية في بلادنا وكل مخاضاتها، باعتباره شاهدا من الرعيل الأول، ومناضلا ومعاصرا للمخاضات التي عرفتها الساحة الاجتماعية. هناك اشياء كثيرة أخرى، ومواقف عديدة تكشفها ذاكرة الطيب لأول مرة.. { س: سنة 1962 تحيلنا مباشرة على الصراع داخل الاتحاد واعتقال المهدي كيف عشت تلك الفترة؟ > الحزب في تلك المرحلة كان يصارع على الاقل على ثلاث جبهات مختلفة: جبهة مواجهة النظام ومخططاته، جبهة مواجهة حزب الاستقلال وجبهة مواجهة الانحراف النقابي. الصراع مع الجهاز البرصوي كان يستهوي عموم الموظفين والشغيلة الاتحادية، حيث كنا نعتبره صراعا غير مباشر مع جهاز الدولة بكل مكوناتها، لأننا منذ ذلك الوقت اعتبرنا ان الجهاز الرسمي لنقابة الاتحاد المغربي للشغل أصبح جزءا لايتجزأ من جهاز الدولة، لكن يمكن ان نقول ان هذا الصراع كان يتم في غياب لأية خطة او رؤية حزبية واضحة، فبقدر ما كان الاتحاديون بالرباط مثلا أقوياء حتى بات بمقدورهم في تلك الفترة الاستيلاء على الاتحاد المحلي للنقابة بالرباط، لكن تذبذب الموقف الحزبي وغياب استراتيجية واضحة تؤطر هذا الصراع حول المعارك الى صراعات بدون هدف محدد.. أتذكر جيدا اللقاءات الماراطونية والنقاشات الحادة التي نظمت من أجل مناقشة الوضع النقابي، حيث كلف الشهيد عمر بنجلون من طرف القيادة الحزبية باقناع النقابيين الاتحاديين في قطاع التعليم بالرجوع الى حضيرة الاتحاد المغربي للشغل، ورغم ان الاتجاه العام لدى المناضلين كان هو رفض فكرة الرجوع، وخلق القطيعة مع قيادة يعتبرونها متعفنة ومرتمية في أحضان المخزن، لكن الجميع انضبط في الاخير للتوجيه الحزبي، حيث عقد مؤتمرا استثنائيا .بدأ الاتحاد بالدارالبيضاء سنة 1967، وشكلت لجنة إدارية نصفها من اعضاء اللجنة الادارية للجامعة الوطنية للتعليم بمن فيهم التعليم العالي والنصف الآخر من اللجنة الادارية للنقابة الوطنية للتعليم. فالعودة الى حضيرة UMT مرتبطة اساسا بحدث اعتقال المحجوب بن الصديق الامين العام للاتحاد المغربي للشغل إثر الرسالة التي وجهها الى السفارة الامريكية، وحوكم على إثر ذلك بالسجن النافذ، اثر هذا الحدث أصبح الموقف الحزبي السائد والغالب هو أولا ان يعمل الاتحاديون في الواجهة النقابية على حماية ظهر الكاتب العام المعتقل والعمل على الحفاظ له على موقعه ككاتب عام للنقابة خصوصا امام التسريبات التي تفيد ان هناك مخططا محبوكا من طرف أجهزة الدولة، وبتواطؤ مع بعض المجموعات داخل UMT ، القاضية بتعويضه بنائبه المرحوم محمد عبد الرزاق. وبالفعل تعبأ الاتحاديون في هذا الاتجاه داخل النقابة وفي القطاعات المختلفة، وقد توج هذا التوجه الحزبي بعد خروج بن الصديق من السجن بإعادة تشكيل الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. أتذكر هنا ايضا أنني كنت ضمن الوفد الاتحادي الذي يمثل الكتابة الاقليمية للرباط الذي ضم عضوية الاخوين المرحوم العربي الشتوكي ومحمد لخصاصي، قصد تهنئة الاخ المحجوب، وبعد ذلك كنت ضمن الوفدالنقابي الذي يمثل جهة الرباط، وزان، قنيطرة، سلا، سيدي قاسم والخميسات .وجرى هذا اللقاء بإقامة المحجوب بالبيضاء في رمضان 1967، على إثر ذلك وبعد ان قدمنا له التهنئة على مغادرته السجن، جرى نقاش بين الوفد النقابي الذي يمثل SNE والكاتب العام للمركزية، ومحور النقاش كان هو الوحدة النقابية، وبينما كنا ندافع على ضرورة تفعيل الديمقراطية الداخلية والتراجع على شعار الخبز بما يعني تقوية الارتباط بحركة التحرر الوطنية، كان الكاتب العام يصر على ضرورة حل النقابة الوطنية للتعليم والرجوع الى الجامعة الوطنية بدون شروط، اتذكر أنني اقترحت عليه تشكيل لجنة خماسية يعين هو ثلاثة من اعضائها وتعين SNE اثنان، تكون مهمتها الاشراف على الانتخابات في الاقاليم قصد عقد المؤتمر الوحدوي، لكن الاخ المحجوب رفض المقترح جملة وتفصيلا، حيث صرح لنا في هذا اللقاء أنه غير مستعد للتضحية بأي من عناصره... على العموم تذبذب مواقف الحزب فيما يتعلق بالمسألة النقابية استمر الى غاية سنة 1975، بل ان القانون الاساسي للنقابة الوطنية للتعليم مثلا ظل ينص على أنها جزء من الاتحاد المغربي للشغل رغم تأسيسها سنة 1965... من المعلوم ان سنة 1975 شكلت قفزة نوعية في مسار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من الناحية السياسية والايديولوجية وقد كانت كذلك فيما يتعلق بوضع استراتيجية حزبية في المجال الاجتماعي، حيث بدا الحزب أكثر وضوحا فيما يتعلق برؤيته لمستقبل النضال النقابي والاجتماعي بشكل عام. كما كانت هذه السنة ايضا موعدا لانتخاب مناديب العمال واعضاء اللجان الثنائية، وقد كانت فرصة للاتحاد لتجسيد توجهه الجديد في المجال الاجتماعي، وهو ما جعل الشهيد عمر يخصص وقتا وجهدا كبيرين للاشراف على تحضير النقابة الوطنية للتعليم لهذا الاستحقاق، خصوصا في التعليم الابتدائي وهيئة المراقبة التربوية، اما التعليم الثانوي فكان مجزأ بين النقابة وللتعليم والجامعة والتعليم UMT .وأتذكر هنا من بين اعضاء المكتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم، الاخوان محمد ملوك وعبد الرحيم حمدان، واللذان طلب منهما الاخ عمر رحمه الله ان يسحبا ترشيحهما من لوائح UMT، في إطار خطة لاضعاف لائحةUMT، وقد سحبا فعلا ترشيحهما مما انعكس سلبا على قوائم الجامعة الوطنية للتعليم، حيث اصبح اهم مرشح في لائحة UMT هو السيد عبد المجيد الذويب. وقد عرفت هذه الانتخابات، صراعا سياسيا كبيرا عكسته جريدة المحرر آنذاك والجريدة الناطقة باسم PPS من جهة اخرى، في مقالات موقعة من طرف الشهيد عمر من جهة وعبد المجيد الذويب من جهة أخرى. توجت هذه الانتخابات بانتصار ساحق للنقابة الوطنية للتعليم، خصوصا لدى الفئات الكبرى (المعلمون، اساتذة السلك الاول والثاني ومفتشو التعليم بأصنافه المختلفة)، كان التصويت يتم بالمراسلة مما جعل المشاركة مرتفعة جدا، حيث استمر الفرز لأكثر من عشرة أيام، وعند إعلان نتائج التعليم الثانوي (الساعة 3 صباحا) بفوز SNE بالاربعة مقاعد المخصصة لذلك وسقوط لائحة UMTوعلى رأسها طبعا السيد عبد المجيد الذويب، اتصلت بمعية أخي محمد جوهر بالشهيد عمر في نفس الساعة، حيث أجابت الاخت لطيفة زوجة الفقيد وطلبت منها ايقاظه لأن هناك خبرا هاما، قالت إنه لم ينم الا في الساعة الثانية صباحا، ورجتني إرجاء الاتصال به الى الصباح، وأمام إلحاحي والاخ جوهر أيقظته، كنا ونحن نزف له الخبر نتخيله طفلا حصل على لعبة يوم عاشوراء، حيث علا صوته صباحا، وقال له الاخ جوهر (كيف جاتك هذه التفييقة هاذ الساعة..) رد عليه عمر قائلا (أجيوا ديروا ليا البردعة واركبوا على كتافي الى بغيتوا...) وخلال هذا الحديث بالهاتف قال لي عمر إن النقابة الوطنية للتعليم، ابتداء من الغد يجب ان تكون نقابة أخرى، ويجب إبعاد كل عناصر التذبذب والانحراف من قيادتها، كما أكد نفس الشيء في لقاءات لاحقة مع إخوة آخرين أذكر منهم، الاخ عبد الرحمان العزوزي، بنعابد، المرحوم الطاهر الوديعة والمرحوم المعتمد والفارحي... وهنا أفتح قوسا مادمنا نتحدث عن الفقيد عمر والذكريات النضالية الى جانبه، اتذكر انه خلال هذه المكالمة الهاتفية، اتفقت معه على إعداد قوائم الناجحين في الانتخابات وحملها الى الجريدة قصد النشر، وضربنا موعدا بالرباط امام المقر الوطني للحزب ليلة عيد الاضحى، كان منتظرا ان أرافقه الى البيضاء ليمدني في نفس الوقت بسيارة الجريدة كي أنقل خروف العيد من بيت أخي من الدارالبيضاء الى الرباط، وفعلا توجهت الى المقر في تمام الساعة التاسعة والنصف، وأنا أهم بالصعود. صادفت الاخ محمد اليازغي الذي سألني عن عمر، فقلت له أنني على موعد معه على الساعة 10 وسنتوجه مباشرة الى الدارالبيضاء، قال لي يجب ان يصعد اولا الى المقر حيث هناك خبر يتعلق باحتمال خروح الاخ الحبيب الفرقاني والاخ احمد بنجلون من السجن المدني بالقنيطرة ،كان ذلك بضعة أيام من اغتياله الشنيع على أيدي قوى الظلام المتواطئة والمؤطرة من طرف أجهزة الاستعلامات، وصل عمر إلى باب المقر عائدا على التو من زيارة المعتقلين بالقنيطرة ومن بينهم أخوه الأستاذ أحمد بنجلون ،فطلبت منه الصعود إلى المقر فرفض، قلت له إن هناك خبرا هاما يجب ان تعرفه، فسألني عن مضمون الخبر لأنه مرتبط بالتزامات بالجريدة ويجب ان يذهب بسرعة الى البيضاء، فقلت له لن أقول لك الى حين ان تصعد، وفعلا صعد، لكن أمام باب الشقة (المقر) قبض بذراعي وأقسم ألا يدخل حتى أبوح بالخبر، فأخبرته ان هناك احتمال خروج الاخوين الحبيب وأحمد من السجن، ومرة أخرى تحول رحمه الله الى طفل صغير، حيث دخل المقر وهو يصيح، حيث وجدنا الاخوين الحبيب الشرقاوي ومحمد اليازغي بالمكتب، وأكد له الاخ الشرقاوي أن مصدر الخبر هو المرحوم مصطفى القرشاوي ، حيث اتصل به الاخ عمر في الحين فأكد له الاخ مصطفى رحمه الله الخبر وقال له إن مصدره هو إدارة السجون... بعد هذه المكاملة بدأ بالغناء التفت إلي وقال وبطريقته الخاصة (أجي بعدا أنتا واش هذه كسوة ديال الانتصار اللي لابس، هذا الانتصار خصو كسوة ديال ألف درهم..) قلت له مازحا الله يطعمنا حلال... كانت هذه آخر مرة أرى فيها الشهيد، حيث بعد ذلك بأيام قليلة، كنت أداوم بمقر الحزب، دخلت بعد الظهر على الساعة الثانية بعد الزوال، أخبرني حارس المقر أن الاخت نجاة زوجة فقيدنا العزيز عبد الرحيم بوعبيد تنتظر أن أكلمها بالهاتف، وفعلا اتصلت بها لتفاجئني بالقول عزاؤنا واحد في عمر، لم أستوعب أو لم أرد أن أستوعب ذلك، أصبت بحالة من الذهول، وكأن عقلي رفع إلى السماء، تماسكت اعصابي نوعا ما رغم هول الصدمة، وفهمت من الاخت نجاة أن الاخ عبد الرحيم توجه الى الدارالبيضاء، ويوصي بالاتصال بالاقاليم وإخبارهم باستشهاد عمر و بموعد الجنازة، وبطريقة آلية قمت بالاتصالات اللازمة بالاقاليم، وفجأة دخل أحد إخوة الشهيد الى المقر، لم أعد أتذكر هل الاخ عباس ام أحمد لا أعرف كيف جاءتني الفكرة ، وقلت له ان عمر تعرض لحادثة سير ، يجب إخبار العائلة والتوجه الى مدينة الدارالبيضاء لعيادته، على الساعة السادسة مساء، توجهت الى بيتي، وبمجرد ما وصلت باب العمارة استيقظت من حالة الشرود وبدأت أتساءل هل غاب عمر عنا حقا؟ هل سوف لن نراه بعد اليوم؟ لم أرد ان أصدق ذلك، بقيت مدة طويلة امام مدخل العمارة ودموعي تنهمر كطفل، لم أستطع الصعود الى بيتي كي لايراني اطفالي الخمسة في وضعية الانهيار هاته... بالعودة الى مخططات الحزب على المستوى النقابي، يمكن ان أقول انه بعد اغتيال عمر، عمد الى تشكيل لجنة عمالية تضم خيرة مناضليه وأطره وكفاءاته آنذاك ومن مختلف القطاعات الحزبية، أذكر منهم مع اعتذاري ان نسيت البعض، الاخ محمد اليازغي، محمد الحبابي، عبد اللطيف المانوني، أحمد بنجلون، حبيب المالكي، المرحومان محمد الفاروقي ومحمد بوزوبع، محمد مشبال، نوبير الاموي، عبد الهادي خيرات، محمد جسوس، عبد الرحمان بوبو والطيب منشد، وغيرهم من المناضلين (اعتذر عمن غاب على ذهني لعدم قدرتي على الرجوع الى الوثائق...)، هذه اللجنة كانت تشتغل بتوجيه من الفقيد عبد الرحيم وقد حدت مهامها في تأطير النقابيين الاتحاديين في مختلف القطاعات والمساعدات على تأسيس نقابات وطنية في القطاعات غير المنقبة استعدادا لتأسيس البديل النقابي المرتقب، اذكر على سبيل المثال ان النقابة الوطنية للشاي والسكر التي تأسست بمبادرة من اللجنة العمالية والتي عقدت مؤتمرها التأسيسي بمدينة بني ملال، ترأس اشغاله الاخ حبيب المالكي، اتذكر كذلك ان هذه اللجنة التي كانت من أهم ادوات الحزب في تلك المرحلة بدأت بإصدار نشرة داخلية اسمها الطبقة العاملة، أشرفت والاخ حبيب المالكي على إصدار العدد الاول منها، والذي كان عبارة على مقالات وارتسامات اعضاء اللجنة حول الفراغ المهول الذي تركه عمر. ومن باب المستملحات، أتذكر أنني توجهت الى الدارالبيضاء قصد الاشراف على تصحيح العدد الاول، وبعد الانتهاء في المساء حيث شعرت بتعب شديد، توجهت الى حي بنجدية لامتطاء اول حافلة متجهة الى الرباط، لأن ذلك اليوم كان يوم اضراب بالسكك الحديدية وبالستيام، أخذت تذكرة السفر، وامتطيت اول حافلة أمامي، حيث نمت مباشرة، ولما استيقظت وجدت نفسي بمدينة الجديدة ليلا... يتبع