بسبب تعديلات مدونة الأسرة.. البرلمانية اليسارية التامني تتعرض لحملة "ممنهجة للارهاب الفكري"وحزبها يحشد محاميه للذهاب إلى القضاء    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    غير كيزيدو يسدو على ريوسهم: الجزائر انسحبت من كاس العرب فالمغرب بسبب خريطة المغربة    نجم مغربي يضع الزمالك المصري في أزمة حقيقية    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي .. إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    رصد في ضواحي طنجة.. "القط الأنمر" مهدد بالانقراض ويوجد فقط في حدائق الحيوانات    المغربي إلياس حجري يُتوّج بلقب القارئ العالمي للقرآن    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    الدراجات النارية وحوادث السير بالمدن المغربية    عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش الاسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر من نتانياهو    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس بالمملكة    مكتب التكوين المهني/شركة "أفريقيا".. الاحتفاء بالفوجين الرابع والخامس ل"تكوين المعل م" بالداخلة    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثية المجتمع والاقتصاد والتكنولوجيا.. أقطاب مجتمع المعرفة



ماتزال مفاهيم المعرفة ومجتمع المعرفة، في طور التشكل وهي تعرف في مطلع الألفية الجديدة لحظة من لحظات الاستواء التي تعرفها المفاهيم كافة أثناء صيرورة تَوَلُّدِهَا، أو انتقالها من مجال معرفي إلى آخر. ويستدعي ذلك التزام الحذر في إطلاقها واستعمالها، من اجل تحقيق التواصل والحوار المنتجين بشأن محتواها. إن تنوع المرادفات يظهر وجود ثلاثة حدود كبرى متقاطعة في صلب المفهوم، وهي التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع، حيث نصبح أمام تكنولوجيا المعرفة، اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة. ونشير هنا إلى أنه ليس هنالك جدال في أهمية تقنية المعلومات في مجتمع المعرفة، مثلما لا يقلل أحد من أهمية الدور الذي تلعبه في بلورة المفهوم ذاته كما أوضحنا آنفاً. وهناك إجماع أيضا في التحول الذي تمارسه تقنيات المعرفة في الاقتصادات والمجتمعات الجديدة، ومعنى هذا أن التقنية والاقتصاد والاجتماع تُعدّ في مختلف تجلياتها المعاصرة عناصر قاعدية في فهم مجتمع المعرفة.
على ضوء هذه الأقطاب، يتأسس العصر الجديد، بكل ما يحمله من آفاق وآمال في توسيع دائرة خيارات الإنسان في الحياة. وفي هذا الإطار، لا ينبغي أن نغفل أيضا الدلالة الطوباوية التي يحملها المفهوم1، فالحديث عن مجتمع المعرفة هو أساسا حديث عن أفق تاريخي مفتوح وفي طور التشكل. على إن أكثر المجتمعات اقتراباً من الملامح الكبرى لمجتمع المعرفة هي المجتمعات الرائدة في مجال تقنية المعلومات وتطوير أنظمة التعليم المبدعة للابتكارات والاختراعات في جامعاتها ومراكز بحوثها، علاوة على توافرها على بيئة تمكينية ومؤسسات قانونية وقاعدة صلبة من الحريات الفردية والسياسية المحفزة على الإنتاج واستخدام المعرفة.
أما المفاهيم الأخرى، سواء منها المستعملة أحياناً كمرادفات للمفاهيم المذكورة، أو شبكة المفاهيم الوسيطة التي يتواصل إبداعها في الحاضر للإمساك بجوانب من التحولات الجارية في المجتمع وفي التكنولوجيا وفي الاقتصاد، فتشير في أغلبها إلى مسائل محددة، وهي تعد جزءاً من فائض القيمة الحاصل في مجال الإشارة إلى ظواهر جديدة بمفردات ورموز ذات دلالات جديدة، مُناسبةٍ لوظيفتها أو طبيعتها، أو مناسبة لملمحٍ من ملامحها. وهذا الأمر يندرج ضمن منطق التسميات.
وتشير مفردة المعرفة أيضاً في مجتمع المعرفة إلى محصلة الجمع بين المعلومات والخبرة والقدرة على الحُكم، وهذه المحصلة تتيح بناء المعرفة، وتفتح آفاقا لا محدودة في مزيد من سيطرة الإنسان على الطبيعة، وذلك بامتلاك موارد وأنظمة في مجال العمل والمعرفة والإنتاج.
بناء على ما سبق، نتبين الاختلاف الكبير بين مفردة المعرفة في الموروث اللغوي العربي ومفهوم المعرفة في مجتمع المعرفة الحديث. وربما لا توجد أيضا علاقة بين المعرفة في مجتمع المعرفة ونظرية المعرفة في تاريخ الفلسفة. فالعالم يقف اليوم أمام دلالات جديدة تسندها ثورة المعلومات وتقنيات الاتصال والهندسة الوراثية، إلى جانب الرياضيات وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد واللغة. وهذا الأمر لا علاقة له بالنظرة التي تكتفي بتسليع المعرفة، مع إغفال دلالتها المركبة.
لقد أدت التحولات التي عرفتها المجتمعات الإنسانية في نهاية القرن الماضي، نتيجة للعديد من التغيرات في محتوى وآليات مجتمع المعرفة كما هو الحال في ثورة تقنية المعلومات، إلى ضرورة إعادة تنظيم المجتمع والاقتصاد. وترتب على ذلك انقطاعات عديدة في مختلف مجالات الحياة. فالنماذج المعرفية والآليات التطبيقية التي كانت تتحكم في الظواهر داخل المجتمع لم تعد مناسبة للتحولات البنيوية التي أفرزتها هذه الثورة. ولم تعد مفردات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم والإعلام تُفهم بمنطق القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بل أصبحت تتطلب مقاربة جديدة بآليات مُبتكرة، قصد الاستجابة لمتطلبات عصر جديد. فقد تبلورت اقتصادات جديدة، ووسائط جديدة في الاتصال، وقواعد جديدة في العمل والنظر والتعامل، ولم يعد مطلوبا القيام بالفعل الصحيح فقط، بل أصبح المطلوب أيضا القيام بالفعل بصورة صحيحة.
لقد أصبحت التقنية إذن مظهراً من مظاهر الوجود، وأصبح عصرنا فعلاً «عصر التقنية». وترتب على التقنيات الصانعة لكثير من مظاهر حياتنا تجلياتٌ متنوعةٌ أبرزها: توحيد أنماط العيش والتفكير، تصنيع النشاط التقني والثقافي والسياحي، اجتثاث المكان والزمان، فقدان الشعور بالقرب، الاستهلاك الزائد، التخطيط والبرمجة، استنفاد الثروات الطبيعية، تشكيل مدّخرات هائلة من الطاقة، وما إلى ذلك. ففي هذه المظاهر والسمات ما يحدد دور التقنية في التنميط والتوحيد، وفيها ما يكشف في الوقت نفسه عن الملامح الكبرى لأسئلة جديدة نحن مدعوون لبنائها، وبناء مقترحات في موضوع إيجاد حلول لها.
هيمنت طرق المعلومات السيارة والسريعة، وتحولت إلى أسواق إلكترونية تنتج وتوزع السلع والخدمات بصورة لا نهائية، وساهمت العولمة وبروز الاقتصاد الجديد، في تحويل الإنسان إلى كائن مستهلك. وقد ترك هذا الفعل المركب المتمثل في اقتصاد المعلومات والمعرفة، التي وفرتها تقنيات المعلومات، آثاره الفعلية في الذهنيات والسلوكيات.
تتقاطع في مجتمع المعرفة، كما أبرزنا، التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع، بشكل تفاعلي تحتضنه بيئة تمكينية تهيئ له المؤسسات والتشريعات وتقوم على الحرية والتواصل والانفتاح. وإن كان مجتمع المعرفة يتأسس ويتطور في ضوء المتغير التكنولوجي، فإنه يبني، في الوقت نفسه، الملامح الكبرى للاقتصاد الجديد، الذي تتحكم فيه شبكات المؤسسات العابرة للقارات، والمولِّدة للمنافع والخدمات الجديدة المستفيدة من الخبرةِ والذكاء الإنسانيين. كما تفتح له أبواب العولمة القادرة على بناء أسواق جديدة، في عالم تسقط فيه يومياً ملامح الحدود المرئية وغير المرئية. أما الضلع الثالث لمجتمع المعرفة، فيتمثل في المستهلك الجديد داخل المجتمع، الذي يتميز بأنماط سلوكية جديدة، وأنماط ثقافية وتواصلية متعولمة، مما يولد ظواهر جديدة تقتضي تشخيصا يتجه لرسم مختلف معالمها وأبعادها.
يستدعي تجاوز الفجوات القائمة الآن في مرتكزات المعرفة في مجتمعنا مواصلة الجهد، لابتكار مخارج مساعدة في موضوع الإصلاح السياسي. ولا علاقة لهذا الموقف بدعاوى الحرية التي أعلنت عنها الولايات المتحدة الأمريكية وهي تتجه لاحتلال العراق. ذلك أن الوضع في العراق اليوم، كما نتصور، يقضي بلزوم حصول التحرير أولا ثم الحرية والإصلاح السياسي. والأمر أعقد مما يتصور الذين يباشرون الهيمنة على العالم باحتلالهم للأمكنة واستغلالهم للثروات في زمن الاقتصاد اللامادي والثروة المعرفية. وإذا كان من المؤكد أنهم يوظفون في حروبهم الاستباقية آليات مستمدةً من مكاسب العصر الجديد، فإن شعار الإصلاح الذي يرفعونه لا علاقة له بروح الأفعال التي ارتكبوا وما زالوا يرتكبونها في المشرق العربي، وفي كثير من مناطق العالم.
وقد أكد تقرير اليونسكو عن مجتمعات المعرفة (2005) على أهمية تجديد الأمكنة العمومية الديمقراطية في مجتمعات المعرفة، مما يكشف عن أن معضلة الإصلاح الديمقراطي في تصور محرري التقرير المذكور معضلة كونية. ذلك أن إصلاح النظام السياسي الديمقراطي مطروح أمام الجميع، بما في ذلك من تصورنا دائماً رسوخَ تجاربهم في الديمقراطية.
وفي هذا السياق، أبرز التقرير أهمية الديمقراطية التقنية، مشيراً إلى ضرورة الاستفادة من تقنيات المعلومات في مجال الممارسة السياسية. ويندرج هذا الموقف ضمن الشكوك الكثيرة التي أصبحت تثار في موضوع عدم ملاءمة نظام الحكم الديمقراطي لمجتمعات ما بعد الحداثة، حيث يرى بعض الدارسين أن ما تبقى من عمر الديمقراطية في أوروبا قصير، مستندين في هذا الموقف إلى التناقضات الداخلية والخارجية للدول الموسومة بكونها ديمقراطية، علاوة على تراجع المرجعية الأخلاقية والقيود الجديدة التي أصبحت توضع أمام الحريات داخل هذه المجتمعات بعد أحداث سبتمبر المعروفة.
وإذا كانت الملاحظات السابقة تخص ما يجري في العالم المتقدم، فالمشكلة في الوطن العربي تتعلق أساساً بلزوم مواصلة العمل من أجل توسيع حزمة الحريات وأبجدياتها. وداخل هذا الأفق، عالج تقرير اليونسكو (2005) المسألة الديمقراطية في الدول العربية، مؤكداً أهمية مواصلة الجهد لبلوغ مرمى الإصلاح السياسي، مما يفيد بأن معركة الإصلاح في الوطن العربي مركبة، بحكم أنها تواجه تحديات عديدة.
الفـــجوة المعرفية أمر ممكن التدارك.
كشف التقرير جوانب هامة من واقع الأداء المعرفي العربي، كما وقف على المبادئ العامة التي وجهت أبرز المواقف والخلاصات التي بلورها التقرير. وإذا كان التقرير قد حاول تشخيص الملامح العامة للفجوة المعرفية العربية سواء في مستوى البيئة التمكينية أو في مستوى إنتاج وتوظيف المعرفة في الواقع، فإن الأمر يستدعي أن نتوقف الآن لبناء ما يساعدنا على تقليص وردم هذه الفجوة، بالصورة التي تمكن العرب من الاندماج في مجتمع المعرفة، وبصورة إيجابية.
إن التخلف المعرفي العربي، المتمثل في مجالي الاكتساب والإنتاج، يزيد من اتساع الفجوة المعرفية القائمة. وإذا كان من المؤكد أن العرب، مثل باقي شعوب العالم، قد بَنَوْا في تاريخهم رصيداً هائلاً من المعارف المعبرة عن أنماط حياتهم ودرجات خبرتهم الموصولة بفضاءات العمل والإنتاج، فإن الحديث اليوم عن الفجوة المعرفية الحاصلة يعني أن المجتمعات العربية لم تستطع تملَُك مكاسب التطور التكنولوجي، كما لم تستطع توطين الوسائط والآليات الجديدة القادرة على الاستفادة من المعارف الجديدة في مجال التنمية. ويمتد هذا التقصير ليشتمل على المناحي الثقافية والاجتماعية. فعلى الرغم من العديد من الإضاءات الثقافية في العالم العربي في عصره الحديث، إلا أن المتتبع لهذه الإنجاز يجده متواضعا وخجولا، مقارنة بإنجازات المناطق الأخر من العالم هذا، علاوة على كونه مكبلا بالعديد من القيود المجتمعية والثقافية والسياسية التي يمكن أن تعزى في معظمها إلى غياب الحرية بمفهومها الأوسع.
تدعونا العناية برصد حال المعرفة في العالم العربي، كما رُكبت في فصول التقرير، إلى الإسراع بتهيئة ة الوسائل المناسبة لترسيخ أسس إقامة مجتمع المعرفة، خصوصا وأن تسارع وتائر التقدم العالمي في المستويات التكنولوجية والثقافية والإقتصادية والاجتماعية تتم بصورة تدعونا بدون أدنى تردد إلى الانخراط في امتلاك نواصي المعرفة، بما في ذلك توفير بيئاتها التمكينية، ودعم تعميم نشرها مشاركة وانتفاعا، وتوفير أدواتها وتقاناتها بهدف توظيفها الأفعل في خدمة التنمية الإنسانية والانتصار على مظاهر التخلف السائدة في مجتمعاتنا.
وتعد الإمكانيات الجديدة التي يتيحها مجتمع المعرفة في التنمية الإنسانية الدائمة من أكبر الحوافز لتدارك الفجوة المعرفية، وذلك بتوطين آليات مجتمع المعرفة. فتقنيات المعلومات المتوافرة الآن مثلأ تتيح إمكانية جعلها مصدرا من مصادر إشاعة المعارف المساعدة على بناء اقتصاد مؤسس على المعرفة، وتربية للجميع موصولة بمختلف مراحل العمر، وتقنيات في التطبيب والعلاج والزراعة وأحوال الطقس. وكلها آليات معرفية لا تنفصل عن أفق التنمية الشاملة بكل ما يحمله من مظاهر الرفاه الإنساني، حيث يصبح الإنسان في قلب مشاريع التنمية والتقدم.
رؤية مقترحة لبناء مجتمع المعرفة
تتطلب مواجهة الفجوة المعرفية المركبة في الوطن العربي طرح رؤية تشتمل على المعالم الرئيسية للعمل والحركة. ونفترض أن هذه الرؤية المقترحة ينبغي أن تكون موصولة بالبناء على المنجزات القائمة من أجل تضييق هذه الفجوة. ذلك أن من المؤكد - كما كشفت ذلك فصول التقرير- أن بعض المجتمعات العربية قد قطعت بعض الأشواط في مجال ولوج مجتمع المعرفة.
وينبغي الإشارة أيضا أن هذه الخطة المقترحة التي سنعمل على بناء ملامحها العامة تنسجم مع أنماط التوسيع التي قُدمت في التقرير حول مجتمع المعرفة كما نتصوره، حيث يتم تجاوز مبدأ الحتمية التكنولوجية نحو استحضار البعد الإنساني الشامل والأبعاد الأخرى المرتبطة بالطموح والإرادة والنقد والتاريخ، لكي نتحاشى التصورات القطعية والوضعية التي تمارس تنميط المعرفة الإنسانية. وقبل رسم المعالم الكبرى لهذه الخطة المقترحة، نشير إلى أنها ترسم رؤية قائمة على قواعد محددة، وهي أيضا عبارة عن فعل ومبادرة طويلة النفس، ينسجم هدفها المركزي مع تصور التقرير لأهداف مجتمع المعرفة المتمثلة في بناء التنمية الإنسانية الشاملة.
إن الرؤية، كما قلنا، فعل وحركة، وهي قبل ذلك طموح. إنها فعل مبادر يتوخى رصد واقع المعرفة ويتجه لابتكار ما يساعد على توطينها وتأهيلها في الميادين المعرفية المختلفة، وذلك من أجل بلوغ عتبة الابتكار والإبداع. وليست الرؤية هنا مجرد تصور؛ فهي مقرونة بالفعل والحركة، أي أنها تندرج في العمق ضمن مساعي التواصل والتوطين، ثم الإنتاج والإبداع، وهي المساعي التي تشكل هيكل ترتيب محاور الرؤية، بحكم أن غايتها تتمثل في مزيد من توسيع الأداء المعرفي العربي لبلوغ مطلب التنمية المعرفية التي تضعنا على أبواب التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وهي الزاوية التي انطلقنا منها عندما اتجهنا للتفكير في موضوع مجتمع المعرفة.
قواعد وأسس التحرك نحو بناء مجتمع المعرفة في الوطن العربي
تستند الرؤية المقترحة في هذا التقرير إلى ثلاثة أسس كبرى، تُفهم في سياقها المترابط المتكامل بالصورة الآتية:-
توسيع مجال الحريات
أبرز التقرير تلازُمَ الحرية مع المعرفة، وتلازم المعرفة مع التنمية، على الرغم من الصور العديدة التي يتخذها هذا التلازم. ويترتب على هذا أننا عندما نضع قاعدة الحرية كلازمة للتحرك، فإننا نتجه للدفاع عن ثنائية أخرى تتعلق بعلاقة الحرية بالإبداع والابتكار، حيث تصبح الحرية في مختلف تجلياتها قاعدة مركزية في المجال المعرفي باعتبارها دعامة من دعائم بلوغ عتبة الرفاهية الإنسانية. ومن هنا، فإن الدعوة إلى توسيع مجال الحريات ومحاصرة القيود والإكراهات يعني تأهيل المجتمع العربي للانخراط في مجتمع المعرفة.
لا تشير مفردة الحرية هنا إلى الدلالة السياسية أو الدلالة المرتبطة بالسوق فحسب. إن مفهوم الحرية هنا، كقاعدة من قواعد التحرك لبناء مجتمع المعرفة، أوسع بكثير من ذلك؛ إنها أفق يؤهل المجتمع للمشاركة الجماعية في بناء طريق المعرفة، والانخراط في الإنتاج والتوظيف وتوسيع مكاسب الإنسان العربي في التنمية الإنسانية الشاملة.
التواصل الفاعل مع الحاجات
المجتمعية المتنامية
ومن منطلق الارتباط العضوي بين المعرفة والحاجات التنموية للمجتمعات العربية - سواء في مجالات التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية- فإن أحد المرتكزات الرئيسية للرؤية التي نقدم يتمثل في التفاعل الإيجابي والدائم بين إستراتيجيات وآليات الحراك التنموي من جهة، والتحرك الذي ننشده لإقامة مجتمع المعرفة في العالم العربي. إن التواصل الدائم المبني على التشخيص الدقيق للحاجات التنموية يضع جهود إقامة مجتمع المعرفة ضمن أطرها الصحيحة والمتمثلة في دعم وتحفيز التنمية الإنسانية وفي توسيع خيارات الإنسان العربي للنهوض به إلى المستويات التي تليق به. كما أن هذا التفاعل الإيجابي والمستمر بين التنمية والمعرفة سيقود حتما إلى التوجيه الأدق لجهود إقامة مجتمع المعرفة والى ترشيد استغلال الطاقات المتاحة وبالتالي تعظيم الاستفادة منها. فلا خير في علم لا نفع منه ومعرفة لا تتجاوب مع حاجات المجتمع الذي تنشأ فيه. وغني عن القول هنا ضرورة توفير الآليات المناسبة لذلك والتي لا يمكن أن تتوافر وتفعل بالشكل الذي نرى إلا في ظل إرادات سياسية حقيقية وفي مناخ من الحرية.
الانفتاح والتواصل
إذا كانت القاعدة الأولى تستدعي مطلب الحرية كقاعدة مركزية في كل أفعال النهوض بالمعرفة في مجتمعنا، والقاعدة الثانية تقوم على الانطلاق في الحركة من واقع حاجات التنمية الإنسانية في المجتمع العربي، فإن القاعدة الثالثة تستوعب فعلين آخرين يتممان ما سبق ذكره، الأول يتعلق بالانفتاح والثاني يشير إلى التواصل باعتباره من القواعد الأساسية في مجال المعرفة.
تتعارض كلمة الانفتاح مع نقيضها المتمثل في الانغلاق المرادف للجمود. ومعنى ذلك أن تجاوز أعطاب المعرفة في الوطن العربي يتطلب التسلح بمبدأ الانفتاح على مكاسب ودروس المعرفة المعاصرة. أما التواصل فإنه يشير إلى فعل العمل المشترك والمتوجه لاستيعاب مكاسب وثورات المعرفة دون الرضى المبالغ فيه في النظر إلى المخزون التراثي القديم. ذلك أننا في العالم العربي مطالبون بدعم أرصدتنا المعرفية القديمة وثقافتنا الشعبية العامة بالأرصدة التي بنتها ثورات المعرفة المعاصرة. ودون ذلك، سنظل نتحدث عن مخزون فكري يدور حول نفسه متعاملا مع معطيات قد يكون عفا عنها الزمن، وأصبحت في حكم المعارف العتيقة التي يمكن أن تكون غذاء للذاكرة والروح، دون أن تمكننا من فهم ما يجري في العالم واستيعاب مستجداته المعرفية، ودون أن تساعدنا في تحصيل التنمية الإنسانية الشاملة.
إن التواصل، كما نفهمه تشارك وفعل تصالحي مع العالم ومع الذات، حيث تتم إعادة بناء معارفنا في ضوء ثورات المعرفة والعلوم كما تجري في العالم المعاصر. ونحن نعتبره عملية تشارك وتفاعل لأننا نرى في التواصل وسيلة من وسائل النقل والتوطين المؤديين إلى ما نتوخاه من مجتمع المعرفة، أي إلى المساهمة في إنتاج وابتكار المعرفة.
لقد أدت التحولات التي عرفتها المجتمعات الإنسانية في نهاية القرن الماضي، نتيجة للعديد من التغيرات في محتوى وآليات مجتمع المعرفة كما هو الحال في ثورة تقنية المعلومات، إلى ضرورة إعادة تنظيم المجتمع والاقتصاد. وترتب على ذلك انقطاعات عديدة في مختلف مجالات الحياة. فالنماذج المعرفية والآليات التطبيقية التي كانت تتحكم في الظواهر داخل المجتمع لم تعد مناسبة للتحولات البنيوية التي أفرزتها هذه الثورة. ولم تعد مفردات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم والإعلام تُفهم بمنطق القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بل أصبحت تتطلب مقاربة جديدة بآليات مُبتكرة، قصد الاستجابة لمتطلبات عصر جديد. فقد تبلورت اقتصادات جديدة، ووسائط جديدة في الاتصال، وقواعد جديدة في العمل والنظر والتعامل، ولم يعد مطلوبا القيام بالفعل الصحيح فقط، بل أصبح المطلوب أيضا القيام بالفعل بصورة صحيحة.
لقد أصبحت التقنية إذن مظهراً من مظاهر الوجود، وأصبح عصرنا فعلاً «عصر التقنية». وترتب على التقنيات الصانعة لكثير من مظاهر حياتنا تجلياتٌ متنوعةٌ أبرزها: توحيد أنماط العيش والتفكير، تصنيع النشاط التقني والثقافي والسياحي، اجتثاث المكان والزمان، فقدان الشعور بالقرب، الاستهلاك الزائد، التخطيط والبرمجة، استنفاد الثروات الطبيعية، تشكيل مدّخرات هائلة من الطاقة، وما إلى ذلك. ففي هذه المظاهر والسمات ما يحدد دور التقنية في التنميط والتوحيد، وفيها ما يكشف في الوقت نفسه عن الملامح الكبرى لأسئلة جديدة نحن مدعوون لبنائها، وبناء مقترحات في موضوع إيجاد حلول لها.
هيمنت طرق المعلومات السيارة والسريعة، وتحولت إلى أسواق إلكترونية تنتج وتوزع السلع والخدمات بصورة لا نهائية، وساهمت العولمة وبروز الاقتصاد الجديد، في تحويل الإنسان إلى كائن مستهلك. وقد ترك هذا الفعل المركب المتمثل في اقتصاد المعلومات والمعرفة، التي وفرتها تقنيات المعلومات، آثاره الفعلية في الذهنيات والسلوكيات.
تتقاطع في مجتمع المعرفة، كما أبرزنا، التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع، بشكل تفاعلي تحتضنه بيئة تمكينية تهيئ له المؤسسات والتشريعات وتقوم على الحرية والتواصل والانفتاح. وإن كان مجتمع المعرفة يتأسس ويتطور في ضوء المتغير التكنولوجي، فإنه يبني، في الوقت نفسه، الملامح الكبرى للاقتصاد الجديد، الذي تتحكم فيه شبكات المؤسسات العابرة للقارات، والمولِّدة للمنافع والخدمات الجديدة المستفيدة من الخبرةِ والذكاء الإنسانيين. كما تفتح له أبواب العولمة القادرة على بناء أسواق جديدة، في عالم تسقط فيه يومياً ملامح الحدود المرئية وغير المرئية. أما الضلع الثالث لمجتمع المعرفة، فيتمثل في المستهلك الجديد داخل المجتمع، الذي يتميز بأنماط سلوكية جديدة، وأنماط ثقافية وتواصلية متعولمة، مما يولد ظواهر جديدة تقتضي تشخيصا يتجه لرسم مختلف معالمها وأبعادها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.