يبدو أن كل شيء في الخطاب الرسمي حول السياسات العمومية الحالية مبني على ما سوف يكون، ما في نية الفاعلين الحكوميين فعله. لا يبدو أن في الأمر عيبا ما دام أن التخطيط له بعد مستقبلي واستباقي. لكن ما يميز الوضع المغربي هو أن الخطاب «السَّّوفي» يحل على مر الزمن محل الفعل والإنجاز والتتبع والتقييم. هكذا تصير المقاربة الاستباقية المفترض فيها أن تكون محدودة في الزمن لازمة خالدة في التدبير الحكومي، إلى درجة أن كل شيء في المغرب منذ سنوات صار مبنيا على زمن المضارع، على زمن ما سوف نفعله دون الاكتراث بهل سنفعله ومتى نفعله وكيف سنفعله ومن المسؤول عن فعله أو عدم فعله. ما نتفنّن فيه هو الانتقال من حالة «سوْفية» إلى أخرى دون أن ننجز ولو قيد أنملة. إنها «السوْفية» في أعلى مراحلها. لنعط بعض الأمثلة. يتوفر المغرب على خطة وطنية للماء منذ 1995. ثلاث عشرة سنة بعد إخراجها إلى الوجود مازلنا نردد ماجاء فيها على زمن المضارع، حيث أن الوصول إلى 60% من المياه المطهرة من التلوث وإخراج شرطة الماء إلى حيز الوجود والحد من ضياع الماء وإعادة استعمال المياه والحد من توحّل السدود مازالت في عداد التمنيات التي يرددها المسؤولون على هذا القطاع منذ سنوات. ما جعل هذه الخطة تدخل في خانة المضارع إلى الأبد هو فتح حوار وطني حول الماء كان الهدف منه الاستهلاك الخطابي والسياسي أكثر منه الوقوف على مدى التوفق في إنجاز الخطة. دائما في مجال البيئة، يبدو أن سياستنا في مجال «الميكة» (زهرة المغرب الوطنية) هي كلها تمنيات ونوايا حسنة واستشراف للمستقبل وذلك منذ سنوات في وقت تغزو فيه أكياس البلاستيك غاباتنا وودياننا وسهولنا. لقد صرنا أول بلد يتوصل إلى «خلق» شجرة «الميكاديي» أي الأشجار المغطاة تماما بأزهار الميكة خصوصا السوداء منها. إنه عنف ضد الطبيعة يساهم فيه بشكل علني وإرادي المواطنون والمجالس البلدية ومجالس المدينة وشركات تدبير النفايات وصانعو أكياس البلاستيك والفاعلون الحكوميون والمجتمع المدني. إنها مسؤولية تاريخية يتحملها الجميع ونحاول التهرب منها على المستوى الحكومي عن طريق خطاب «سوْفي» يختزل الفعل والإنجاز في الحديث عن ذلك، ويختزل الواقع في الخطاب، ويختزل سياسة الإنجاز في أحلام الاستشراف والتخطيط. قطاع آخر تبوأ حصة الأسد من الحوارات والمنتديات والأسواق الخطابية والنقاشات والخطب الاستباقية والدراسات المستقبلية هو قطاع التعليم. على مر خمسية حكومة جطو عشنا في انفصام كبير بين واقع مر يتميز بالهدر المدرسي وتزايد تغيبات المعلمين وسيطرة العنف واللاتعليم، وتدني الجودة وانهيار البنية التحتية ووجود لا مركزية عرجاء لا تعطي أية سلطة للفاعلين الحقيقيين في الميدان من جهة، ومن جهة أخرى إصرار الوزارة الوصية على القطاع على الهروب إلى الأمام بل ومحاولة خلق واقع آخر، واقع «سوْفي» حلو يحل محل الواقع المر الذي يقضّ مضاجع المسؤولين ويؤرقهم. في ميدان التعليم صارت «السوْفية» وسيلة لنفي الواقع، لقمعه، لنكران وجوده. الخطة الاستعجالية الآن التي تم وضعها والتي أتمنى ألا تنتهي هي الأخرى في خبر «سوْف» لا تهدف إلا إلى تدارك ما أضاعه المغرب في خمس سنوات من الإيديولوجيا «السوْفية» في أعلى تجلياتها. لنعط مثالا آخر من الفلاحة. ما الفرق بين «رؤية 2020 للتنمية القروية» و»المغرب الأخضر» من حيث كنه ما تريد الوزارة الوصول إليه؟ إذا استثنينا حجم الاستثمار والتركيز على الفلاحة ذات القيمة المضافة العالية، فإن التقارب هو أكثر من الاختلاف. هذا يعني أننا انتقلنا من خطة إلى أخرى دون تقييم مستوى الإنجاز ومعيقاته ودور الفاعلين ومسؤولياتهم. والإنجاز الرائع الذي وصلنا إليه هو الانتقال من مرجلة «سوْفية» إلى أخرى دون أي عناء، عناء الفعل في الواقع وتغييره. بل إن البيروقراطية تصنع لنفسها واقعا مستقلا يتم صنعه في مكاتب الوزارات المريحة والمكيفة وهذا هو الواقع الذي يتم تكييفه وتقييمه وإعادة إنتاجه من «رؤية» إلى «مغرب أخضر» وهكذا دواليك. لننتقل إلى ميدان آخر: في 2005 بلور المغرب خطة وطنية لحماية الطفولة. ثلاث سنوات بعد ذلك لم ننجز شيئا يذكر سواء تعلق الأمر بوحدات التدخل أو تطبيق القانون أو غيرها. اندحر ترتيب المغرب هذه السنة إلى صف الدول التي لا تتعامل بشكل جدي مع قضايا الاتجار في الأطفال والبشر، حسب تصنيف وزارة الخارجية الأمريكية، وتراجع ترتيبه على مستوى مؤشر التنمية البشرية، حسب تصنيف صندوق الأممالمتحدة للتنمية وصنف في درجة مماثلة لدجيبوتي واليمن، حسب تقرير البنك الدولي الخاص بالتربية في العالم العربي، ونال درجة دنيا في تقرير اليونيسكو الخاص بالتربية وارتفعت نسبة وفيات الأطفال، حسب دراسة لليونيسيف ومع ذلك فإننا نتجه إلى المستقبل بعزيمة نردّد ما جاء في الخطة وكأنه واقع لا نوايا وتمنيات. إن الخطة تغنينا عن الإنجاز؛ الخطة جميلة وأنيقة والعمل ممل ومضن وقاتم. آخر مثال هو قطاع محاربة الرشوة. ما فتئ ترتيب المغرب يتراجع سنة عن أخرى والرشوة تتفشى «على عينك بنعدي» وماذا تفعل الحكومة؟ تردد أنشودة صارت تصم آذاننا: «إن لنا خطة من 56 بندا ونحن بصدد العمل على وضع الوكالة المستقلة لمحاربة الرشوة». هذا هو خطاب الحكومة منذ ما يقارب عشر سنوات. لو تم إخراج الوكالة إلى الوجود في السنة المقبلة، ستأخذ سنتين أو ثلاثا لتهيكل نفسها وسنة أو سنتين لوضع خطتها وتكون جاهزة للعمل في 2015 (هذا مع الافتراض أنها لن تتشبع بالثقافة «السوْفية» السائدة هي كذلك). من هنا إلى 2015 سنستمر في الانحدار نحو الأسفل، إلى مستويات الكامرون والكونغو الديمقراطية؛ آنذاك سيكون من الصعب الرجوع حتى إلى المستويات الحالية لأن الرشوة ستكون قد نخرت الاقتصاد والمجتمع. هكذا فالسوْفية ليست فقط قضية خطاب ولكن مشكلة مقاربة للتدبير قد تؤدي إلى الهاوية، هاوية التخلف والانحطاط لا النمو المجنح الذي تفترضه مخيلة الفضلاء السوْفيين. هكذا نجد أن المغرب الذي تقدمه لنا المقاربة السوفية هو مغرب مضارع مفترض، متخيّل إلى درجة يصبح فيه واقعا يعوّضنا عن الواقع المر بفقره وتخلفه وجوعه وتسوله وعنفه. المغرب المضارع يلجأ إليه المسؤولون لأنه يغنيهم عن عناء الإنجاز والتتبع والمساءلة والمحاسبة والنجاعة. المغرب المضارع هو ملاذ سهل وجميل يغطي على تدني القدرات التدبيرية لدى المسؤولين وعدم فعالية العمل الحكومي وقدرته على الفعل في الواقع وتغييره. إنه مغرب محتمل سيبقى دائما في عداد ما يفترض أن يكون. مرحبا بنا جميعا في عالم «السوْفية» اللامتناهي.