سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
القنصليات والبعثات الدبلوماسية بطنجة تشكل ربحا حقيقيا للمدينة من الناحية البيئية والتاريخية والثقافية الأمريكيون عرفوا قيمة طنجة قبل الأوروبيين وفتحوا أول بعثة دبلوماسية.. والإنجليز والإسبان والفرنسيون تبعوهم
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما صوبت القوى الكبرى عيونها نحو طنجة، فإن أول ما فكرت فيه هو فتح بعثات دبلوماسية في المدينة، وبعدها جاءت أشياء كثيرة، وكلها صبت في اتجاه واحد، هو تثبيت أقدام الدول العظمى في مدينة كان ملوك وأمراء ومسؤولو أوروبا يصفونها «بالجوهرة التي لا تقدر بثمن». الأمريكيون، ورغم أن قوتهم لم تتعاظم إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، لأنهم خرجوا منها أقوياء لسبب بسيط وهو أنهم لم يشاركوا فيها، كانوا من الأوائل الذين أحسوا بقيمة طنجة الاستراتيجية والدبلوماسية والعسكرية، لذلك بادروا إلى فتح مقر دبلوماسي في طنجة كان يشبه السفارة، وكان ذلك بالضبط سنة 1821، وهو وقت مبكر جدا، لأن طنجة لم تتحول رسميا إلى الحماية الدولية إلا مقتبل القرن العشرين، أي بعد قرن من ذلك. المقر الدبلوماسي الأمريكي افتتح في مكان لم يكن هناك أفضل منه في ذلك الوقت، وهو المدينة القديمة، في المكان الذي يعرف اليوم بحومي بني يدر، وهو مقر فسيح لكن الدخول إليه يمر عبر متاهة من الأزقة الضيقة. كان ذلك المقر يسمى وقتها «اللّيغاسْيون ميريكان»، وهو ما يعني «البعثة الأمريكية»، وفي باب المقر لا يزال إلى اليوم شعار أمريكي بنسره وزيتونه ومخالبه ومنقاره. استمر عمل هذه البعثة عشرات السنين، والأمريكيون لا يزالون يحتفظون إلى اليوم بمقرهم القديم الذي حولوه إلى ما يشبه متحفا، ولو أنه انتقل إلى أيدي المغاربة لكان اليوم خرْبة، أو مطعما شعبيا في أحسن الحالات. الأمريكيون، بعد أن تركوا مقرهم القديم، انتقلوا إلى مقر أوسع في المدينة العصرية، وهو المقر الذي يقول متتبعون إنه كان يلعب دورا أخطر بكثير من المتوقع، وأن طنجة كانت قنطرة أمريكا نحو الشرق الأوسط في مجال الاتصالات وتبادل «الشيفرات» المدنية والعسكرية، وهذا ما يدعمه وجود قاعدة أمريكية كبيرة في ضواحي طنجة تسمى «الغابة الدبلوماسية»، التي يسميها الناس «غابة الميريكان»، حيث توجد وسائل اتصال متطورة جدا، ويمنع منعا باتا الاقتراب منها أو دخولها، وهي القاعدة التي يقال إنها لعبت دورا مهما وخطيرا في الحروب العربية الإسرائيلية، لكن الأمريكيين تخلوا عنها مؤخرا. الوجود الأمريكي في طنجة دعّمه وجود مركز ثقافي، وهو المركز الذي لا يزال مفتوحا إلى اليوم، ويلقن الطلبة اللغة الإنجليزية على الطريقة الأمريكية، في غياب مركز ثقافي بريطاني. ثاني أقوى وجود في طنجة كان للبريطانيين، الذين توفروا منذ نهاية القرن التاسع عشر على قنصلية قوية في هضبة مقابلة للمكان الذي يوجد فيه فندق فيلا دو فرانس، وهي قنصلية رائعة في معمارها وهندستها ونباتاتها، وبعد رحيل البريطانيين سلموها للمغاربة، شرط أن تبقى على حالها ويمنع تفويتها للخواص. البريطانيون كانوا يعرفون جيدا ماذا ينتظر طنجة بعد الاستقلال. البريطانيون توفروا أيضا على مستشفى تابع لهم، والموجود قبالة ملعب «مرشان»، وهو المستشفى الذي ظل يعمل لفترة من الوقت بعد الاستقلال، ثم ذهب مع الريح، كما ذهبت أشياء كثيرة غيره. لم يكن الإسبان، رغم أن إسبانيا كانت ضعيفة نسبيا وتعاني من حروب ونزاعات داخلية، خارج خارطة الوجود المؤثر في طنجة، أولا لأنها كانت تفرض حمايتها على شمال المغرب، وأيضا لأنها لم تكن لتفرط في وجودها القوي في مدينة توجد بالضبط على بعد 14 كيلومترا من سواحلها. بنى الإسبان لأنفسهم قنصلية فسيحة هي اليوم تحفة معمارية وطبيعية بكل المقاييس. هذه القنصلية جاءت استمرارا لوجود إسباني قوي جدا في طنجة، وهو وجود يمتد إلى أيام كان المغرب بلدا قويا يفرض مهابته على أوروبا، لذلك كان الإسبان يعتبرون طنجة دائما بمثابة العاصمة الحقيقية ويضعون فيها أبرز وأقوى دبلوماسييهم وقناصلتهم. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر وإلى حدود اليوم، تعاقب على طنجة ما يقارب مائة قنصل إسباني. قنصلية إسبانيا تمتد على مساحة عدة هكتارات، وبها حدائق مبهرة وأشجار نادرة، وستظل هذه القنصلية من بين الأماكن القليلة التي تؤرخ لزمن طنجة الجميل. الإسبان كانوا حاضرين في طنجة بأشياء كثيرة أخرى، فقنصليتهم محاذية تماما لمدرسة إسبانية للتعليم الابتدائي، وقربها مدرسة ثانوية، وقربهما مركز ثقافي قوي ومؤثر، وغير بعيد عن كل ذلك يوجد المستشفى الإسباني، الذي انتهى كما ينتهي غيره. والغريب أن طنجة حين كان سكانها يقدرون ببضع عشرات من الآلاف كانت تتوفر على عدد كبير من المستشفيات المتطورة، وعندما صار سكانها بالملايين صار لها مستشفى عمومي كبير واحد هو مستشفى محمد الخامس، الذي تحدث فيه كل أشكال الموبقات وتهان داخله الكرامة الإنسانية. الإسبان كان وجودهم في طنجة قويا أيضا من خلال الدين، لأن هناك كنائس كثيرة تابعة لهم، وأغلب الرهبان والراهبات من إسبانيا، ويبدو ذلك طبيعيا لأن إسبانيا قبعت طويلا تحت حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الذي وصل إلى السلطة بتحالف قوي مع الكنيسة الكاثوليكية، وكلهم وصلوا إلى الحكم بفضل دماء عشرات الآلاف من المقاتلين المغاربة المسلمين الذي ذهبت دماؤهم هدرا في الحرب الأهلية الإسبانية لكي يصل كاثوليك متعصبون إلى الحكم. الفرنسيون لم يكونوا غائبين في هذه المدينة التي كانت مطمح الجميع. وبما أن فرنسا كانت تفرض حمايتها على مغرب الداخل، فإنها كانت تعتبر وجودها في طنجة أساسيا، لذلك بنت فيه قنصلية كبيرة وقوية، وحولها ملحقات تمتد على مساحة عدة هكتارات، وهي بقيت كما كانت دائما، قنصلية مؤثرة وعيونها على كل التفاصيل التي تحدث في المدينة. يعطي مقر القنصلية الفرنسية في طنجة إحساسا وارفا بالأبهة لأنها حافظت على الكثير من سحر الماضي وسط الكثير من الأشجار والحدائق التي تجعل الداخل إليها يعتقد أنه خرج فجأة من وسط المدينة ودخل حديقة عجائبية. المسبح الموجود قرب الباب الكبير يزيد في إضفاء هالة من الرونق الرومانسي على المكان، خصوصا خلال حفلات الاستقبال التي تنظمها القنصلية بين الفينة والأخرى. إن هذه القنصلية خزان ذكريات وصندوق أسرار، لذلك تحيط نفسها بالأسوار والأشجار وكأنها تخاف أن يطلع الناس على أسرارها. الفرنسيون أيضا عملوا بجهد لكي يفرضوا لغتهم في مدينة متعددة اللغات، وبنوا مدارس ابتدائية وثانوية، أهمها مدرسة «بيرشي» وثانوية «رينو»، بالإضافة إلى مركز ثقافي لا يزال إلى اليوم يعمل بقوة. الإيطاليون ليسوا خارج السياق، سياق اعتبار طنجة مدينة لا يمكن التخلي عنها، لذلك فعلوا ما فعله غيرهم، وأسسوا قنصلية كبيرة وممتدة على مساحة كبيرة، وبنوا قرب القنصلية مدرسة إيطالية، تحولت مع مرور الوقت إلى أيدي المغاربة فصارت مخزية، ثم بنوا كنيسة أنيقة لأن الإيطاليين لا يحبون مشاركة تدينهم مع الأوربيين الآخرين لأن إيطاليا تحتضن الفاتيكان والبابا. الإيطاليون فعلوا ما فعله غيرهم وبنوا مستشفى تابعا لهم، وهو يجاور مقر القنصلية الإيطالية، وبذلك ساروا على نفس النهج الأوروبي خلال وجودهم في طنجة، وهو بناء قنصلية ومدارس وبعثات ثقافية ومستشفيات وكنائس. اليوم، لا وجود لإيطاليا في طنجة، والقنصلية رحلت إلى الدارالبيضاء، وجزء من المقر صار مطعما فاخرا وحميميا، والمركز الثقافي رحل بدوره، وكنيستهم مغلقة، لكن أجمل شيء هي أن القنصلية وملحقاتها لا تزال على حالها ولم يمسسها وحوش العقار. في طنجة كانت أيضا بعثات دبلوماسية كثيرة، من اسكندنافيا حتى البرتغال، ومن بلجيكا حتى ألمانيا، لكنها صارت تتقلص مع تقلص دور طنجة وتنامي التهميش الذي لحقها في عهد الاستقلال. اليوم، كل القنصليات التابعة لبلدان أوروبية قوية، تعتبر ربحا حقيقيا للمدينة من الناحية الجمالية والبيئية والتاريخية. فهذه المقرات شكلت درعا واقيا لفضاءات طنجة ولم يستطع لصوص الأراضي والعقارات الاقتراب منها، إنها تشكل عمقا بيئيا وطبيعيا ممتازا لمدينة افترسها الناهبون ولصوص الأراضي ومافيا العقار في زمن الاستقلال.