من «عرصة المعاش» إلى «جامع الفنا» ومن الساحة العالمية إلى «باب دكالة»، مرورا بحي «مولاي صالح» وعدد من أزقة المدينة القديمة وشوارع المدينة العصرية: المشهد واحد وأبطاله مختلفون. أصحاب الطاكسيات والشاحنات والحافلات يضعون «فوطات» على رؤوسهم، عساها تقيهِم حرّ الشمس الساطعة. من وردة بين النخيل إلى «شواية» مراكشيات يغطين وجوههن بأقنعة عبارة عن خمار، لعلهن يحمين بشرتهن من الشمس، التي لن تبقي ولن تدر نعومة البشرة وبياضها. ليس دافع هؤلاء إضفاء طابع الفلكلورية على شوارع المدينة الحمراء وإنما مقاومة الحرارة المرتفعة التي تغزو مدينة مراكش في عز فصل الصيف، وفي الأيام الأولى من شهر رمضان، المبارك.. حرارة حوّلت عاصمة المرابطين والموحدين من «وردة بين النخيل»، كما يردد المغني المغربي الراحل إسماعيل أحمد، إلى ما يشبه «شْواية» لمن يتحرك في شوارعها أو يتنقل في دروبها وبين أزقتها لقضاء مصالحه. ويستوي في ذلك أهل المدينة والوافدون عليها من المغاربة، بل يمتد الأمر إلى السياح الأجانب، الذين جاؤوا للاستمتاع بشمس المدينة، فوجدوا أنفسهم يختفون من حرارتها ويسيرون إلى جانب الجدران اتقاء لشدة ووهج الشمس. الحاجة أم الاختراع «إنها طريقة فعالة وغير مكلفة»، إجابة وردت على ألسنة كثيرين من سائقي سيارات الأجرة بصنفيها، عندما سألتهم «المساء» عن سبب اختيارهم وضع «فوطة» على رؤوسهم. فالبنسبة إلى عبد الإله المقراطي (38 سنة) سائق سيارة أجرة كبيرة، فإن وضعه «الفوطة» على رأسه راجع إلى الارتفاع الشديد للحرارة، وهي «طريقة مثلى لمواجهة الهواء الساخن، الذي يؤثر على أعصابي ويصيبني بالارتخاء»، يقول عبد اللطيف، قبل أن يضيف، واصفا هذه العملية بتدقيق كبير: «أقوم بتبليل الفوطة بماء الصنبور وأضعها على رأسي، فأشعر براحة وحيوية تسري في باقي أعضاء جسدي، وهو ما يمنحني القدرة على مواصلة العمل»، في حرارة وصلت في أحد الأيام في مراكش 56 درجة. تتكرر هذه العملية مرارا طيلة نهار اليوم، وتختلف مدة ترددها بين سائق وآخر، حسب درجة برودة الماء المستعمل في التبليل وقدرة السائق على التحمل. فإذا كان عبد اللطيف يعاود تبليل «فوطته» كل نصف ساعة ويستعمل ماء الصنبور، فإن زميله عبد الناصر واصف، البالغ من العمر 40 سنة، يقوم بهذه العملية كل ساعة، لكنْ باستعمال ماء مثلج من قنينة جلبها معه من منزله. ويصف هذا «الاختراع» قائلا: إنه «فعّال ويسمح لي بالعمل بشكل عادي»، لكنه يوضح أنه عادة ما يعمد إلى ركن سيارته في أماكن مستظلة بالأشجار أو في إحدى الزوايا أو في موقف السيارات، في انتظار الزبناء بدل التنقل بين أحياء المدينة بشكل مستمر، وهو ما يسمح له بأن يقاوم مثل هذه الدرجة من الحرارة، التي تزيد بدرجتين إلى أربع داخل الطاكسي. وعن بدايات ظهور ظاهرة وضع «الفوطة» على رؤوس سائقي سيارات الأجرة تحديدا وبشكل ملفت للانتباه، قال عبد المجيد أوغلالي (55 سنة) وهو سائق سيارة أجرة كبيرة، إن مدينة مراكش كانت سباقة إلى بروز هذه الظاهرة، قبل أن تنتقل إلى عدد من مدن المغرب، التي تشابه في حرارتها مدينة النخيل، في الوقت الذي يتنقل وسط شوارع المدينة السياحية أزيد من ثلاثة آلاف سيارة أجرة. ويرجع أوغلالي بداية هذه الظاهرة إلى حوالي عشر سنوات مضت، بيد أن «عدواها» انتقلت بسرعة إلى أصحاب الدراجات النارية والهوائية والراجلين. من فراعنة «أخناتون» إلى «السلطعون» و»أخفشون» جعَل تزامُن المشهد الذي رسمه أصحاب «الفوطات» داخل شوارع المدينة الحمراء، الذي زاد من حمرتها فصل الصيف، مع شهر رمضان المعظم البعض يتخيلون أن «الفراعنة» حلوا بمدينة يوسف بن تاشفين، هذا المشهد المثير داخل المدينة حرك عجلة النكتة والدعابة لدى المراكشيين، فتارة يصفون واضع الفوطة فوق رأسه، ب«قبيلة حسني مبارك»، وتارة يطلقون على بعضهم ألقابا تعود إلى الحضارة الفرعونية ك«أخنتون»، مضيفين عليها أسماء مثيرة للضحك ك«سلطعون» و«أخفشون».. غيض من فيض كلمات مضحكة تعكس روح النكتة عند أهل مراكش، التي لم يفتقدوها حتى في مثل هذه الظروف الصعبة من العمل. لكنهم يُصرّون، في المقابل، على أن مناخ المدينة هو أولا وقبل كل شيء من فرض عليهم ذلك ويزكون إجاباتهم بأن هذه الظاهرة محصورة زمانيا بهذا الفصل الحار، الذي يتزامن هذه السنة مع شهر رمضان المبارك، وهو ما يضاعف من معاناتهم ويفرض عليهم مقابلته بمثل هذه «الاختراعات» البسيطة، والغاية رفع نسبة المقاومة لديهم والحفاظ على قدراتهم في العمل وكسب لقمة العيش لهم ولأسرهم. خمار يحمي الوجه من حرارة الشمس تسوق خديجة، البالغة من العمر 42 سنة، دراجتها النارية بسرعة كبيرة وسط ساحة «جامع الفنا»، وكأنها مطارَدة من قِبَل أحد ما. تضع خديجة خمارا أسودَ على وجهها، لكنها لا تضعه باعتباره حجابا دينيا، وإنما «باشْ ما يكحالشْ لي وْجهي»، تجيب خديجة بعفوية وبابتسامة ممزوجة بالخجل. سبب وضعها، هي وغيرها من النساء، خمارا أسودَ على وجهها هو أن «نساء وفتيات مراكش يضعن على وجوههن الماكياج ومنهن من لديهن حساسية تجاه أشعة الشمس، وأخريات يخفن من احتراق وجوههن»، توضح خديجة ل«المساء». وعن فعالية هذه الطريقة التقليدية، أكدت محدثتنا، التي كانت تتجه إلى منزلها على متن دراجتها النارية، أنها «فعالة وغير مكلّفة وتفي بالغرض»، غرض ينحصر في هذا الفصل عند المراكشيات في الحفاظ على جمال وجه المرأة لا غير. أمر توافقها عليه فتاة أخرى قالت ل«المساء» إن وضع خمار على الوجه «الغرض منه، أولا وقبل كل شيء، حماية طبيعية لمنع تشقق الوجه عند التنقل على الدراجة النارية»، ما دامت شدة الهواء الساخن تزداد في ملامسة الوجه في مثل هذه الحالات.. قبل أن تؤكد أن هذه الظاهرة، التي لم تلاحظها في المدن التي زارتها في المغرب، تعود على الأقل لمدة خمس سنوات مضت. لكن المؤكد أن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على اللواتي يمتطين الدراجات، بل إنه أصبح معتادا أن ترى نساء وفتيات يتنقلن راجلات من مختلف الأعمار يضعن خمرهن على وجوهن، يتقين بها ما يسميه المراكشيون «الشوم». «الرشاشة» تزيح «النشاشة» من عرشها لم تقتصر «اختراعات» المراكشيين على «الفوطة» والخمار لمواجهة حرارة الصيف، بل إن هناك من وجدوا في قنينة «رشاش» الماء ضالتهم للتقليل من هذه الحرارة ومنح أنفسهم انتعاشة مؤقتة، ولو لدقائق معدودة. وهي قنينة دأب على استعمالها الحلاقون في رش شعر رؤوس زبنائهم. والملاحظ أنها توجد في أيدي الصغار والكبار، سواء الراكبين أو الراجلين أو أصحاب المحلات أو العاملين في مواقف السيارات. هي وسيلة أخرى بدأت تأخذ تدريجيا حيزا لها في استعمالات سكان مراكش للتقليل من شدة الحر، الذي يجتاح مدينتهم. في المقابل، أضحت «النشاشة» التي اشتهرت بها مراكش خلال حقبة زمنية مضت، مندثرة، لا تكاد ترى واحدا من الزوار أو بالأحرى السكان الأصليين يحمل «النشاشة» في يده يهُشّ بها على وجهه لجلب البرد. بالنسبة إلى رشيد العلمي (34 سنة) سائق سيارة أجرة صغيرة، فإن اختياره استعمال «الرشاشة» راجع إلى كونه يرفض بتاتا وضع «الفوطة» على رأسه لِما فيها، كما يقول ضاحكا، من «تشبه بالنساء»، ويقر أيضا أنها تمنحه بعض الحيوية والنشاط، لمواصلة العمل داخل سيارته، الذي يتجاوز ثمان ساعات. ويستطرد قائلا: «استعمالي الرشاشة مرتبط بهذا الفصل الحار جدا، وتزامنه مع شهر رمضان». ويكرر محدثنا هذه العملية كل نصف ساعة، متى شعر بحاجة إلى الماء لإنعاش جسده، مستعملا ماء الصنبور فقط. لا فرق بين مراكشي وأجنبي استعمال «الرشاشة» أمر جديد في مدينة مراكش، يقول البعض إنه ظهر خلال السنتين الماضيتين على أبعد تقدير، وتبرز هذه الظاهرة أكثر في ساحة «جامع الفنا»، بين باعة عصير الليمون وأصحاب الطاكسيات، لكنها اليوم تمتد إلى فضاءات أخرى من المدينة، فقد انتقلت هذه «العادة» إلى الأحياء والمناطق الراقية» وحتى إلى الأجانب الذين لجؤوا أيضا في محاكاة المراكشيين في استعمال «الرشاشات» المتوفرة وزهيدة الثمن، وبالتالي أضحت «الرشاشة» متاحة للجميع، فلا فرق بين مراكشي وأجنبي حتى في «الرشاشة». في المقابل، أضحت تجارة «الرشاشات» رائجة بشكل كبير خلال هذه الأيام. وأكدت فتاة تتعاطى تجارة قنينات الرشاش ل»المساء» أن تجارتها تنشط كثيرا في فصل الصيف وتبور في الفصول الباردة، لكنها تساعدها على توفير دخل لا بأس به، خصوصا أن ثمن «الرشاشة» وصل إلى ثمانية دراهم، بعدما كانت في وقت سابق تباع بخمسة دراهم للقنينة الواحدة.
أطفال يقبلون على «النافورات» أضحى ملفتا للأنظار إقبال بعض أطفال مراكش ومراهقيها على القنوات المائية و»النافورات»، كتلك التي توجد في ساحة «الحارثي». أطفال لم يتجاوز عمرهم ال10 سنوات فضّلوا «السباحة» بالمجان، في ظل ارتفاع أثمان المسابح الخاصة وانعدام العمومية وارتفاع درجة الحرارة. أغلبهم يسبحون بملابسهم، بينما يتنافس كبار السن على صنابير الماء العمومية، ويحمل آخرون قنينات الماء في أيديهم يصُبّونها على أجسادهم بين الفينة والأخرى. كما يلفت الانتباه استعمال بعض المارة من الراجلين المظلات للوقاية من أشعة الشمس. كلها وسائل تظهر وتتجدد كل صيف شديد الحرارة في مراكش، لكنها أيضا تترسخ سنة بعض أخرى في وجدان الناس وموروثهم الثقافي، الغاية منها التخفيف من لهيب الشمس على الجسد وحصر مضاعفاتها الصحية والحفاظ على الطراوة البدينة والانتعاشة الكافية لمواصلة البحث عن لقمة العيش، التي تصعب في مثل هذه الظروف.