اليوم، مصر في مأزق حقيقي، وهي مرشحة للانزلاق نحو أسوإ المسارات ونحو الخيارات الأكثر قتامة، وهذا ما يدفع بعض الذين دعموا الانقلاب في الغرب، وخصوصا أمريكا، سرا أو علانية، إلى الخروج، بين الفينة والأخرى، للتعبير عن تخوفهم من مآلات الوضع في مصر، بل لا يترددون في الإعلان، بوضوح، عن شكهم في قدرة الانقلابيين على التحكم في مجريات الأحداث في هذا البلد وعلى بسط نفوذهم النهائي عليه ومنع انزلاقه نحو المجهول، ويطالبون بضرورة البحث عن مخرج سياسي توافقي بين الفرقاء المتصارعين في مصر. نعم، عددٌ معتبرٌ من الذين راهنوا على قبول المصريين بالأمر الواقع بعد إسقاط الشرعية، المتمثلة في الرئيس المنتخب شعبيا، وراهنوا على الالتفاف السريع على نتائج الاستحقاقات الشعبية التي عرفتها مصر بعد الثورة، وعلى رأسها الموافقة الشعبية غير المسبوقة على الدستور، وراهنوا خصوصا على انطفاء جذوة الزخم الشعبي المضاد للانقلاب والمساند للثورة وعلى انجرار الإخوان ومن يدعمهم نحو العنف بما يسوغ الهجوم عليهم واستئصالهم بحجة محاربة الإرهاب، أقول هؤلاء يعودون اليوم إلى التصريح بضرورة إيجاد حل سياسي للوضع الخطير في مصر والذي قد يهدد مستقبل أمن ووجود إسرائيل؛ وهذا ما عبر عنه بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر، توم دونيلون، مستشار أوباما للأمن القومي، الذي صرح قائلا: «إن الوضع في مصر كارثي وسيقود المنطقة إلى الجحيم، وقادة الجيش يعيدون مصر إلى العصور الوسطى. الشعب المصري سيقود العالم الإسلامي إلى زيادة كراهية أمريكا، وهذا سيولد جيلا يقاتلنا فقط»، واستطرد: «الشعب سيعيد مرسي إلى الحكم أو يحطم مصر، فمن الأفضل إعادته كي لا تتحطم هيبة أمريكا في المنطقة. لا خروج آمنا لأحد في مصر، إما إعادة من تم عزلهم جميعا أو الاستمرار في هذا الوضع الذي سيهدد بقاء إسرائيل...»، وأضاف: «أخطأ مرسي حينما أراد أن يستقل بمصر عن المظلة الأمريكية، مما أغضب الساسة الأمريكان. وبقاء مصر في هذا الوضع يعتبر تهديدا عالي الدرجة لمصالحنا، وهذا يعني أن أمننا القومي في خطر شديد». وتابع دونيلون: «إننا فشلنا في تعاملنا مع مرسي لأنه يرى مصر دولة ندا لأمريكا وليست دولة تأخذ المساعدات منا فأربكنا ذلك، ولا يمكن أن نتنبأ بما سيفعله الشعب المصري فهو من سيحسم الأمور في النهاية». نعم، أعود لأقول إن ذنب مرسي الكبير هو إعلانه لنواياه أن يجعل مصر دولة ندا لأمريكا لا دولة ذيلية تتوسل الصدقات وفتات موائد أمريكا وأمراء الخليج؛ أراد أن يؤسس لعلاقات متوازنة لبلاده مع باقي دول العالم، وخصوصا الدول النامية الصاعدة؛ أراد لمصر أن تكون دولة مساهمة فاعلة وفعالة في بناء العالم الجديد الذي هو قيد التشكل لا دولة متفرجة لا حول لها ولا قوة في ما يجري في داخلها ومن حولها. أكيد أن الذي يطلب الحق ويخطئه ليس كمن يطلب الباطل ويصيبه؛ فمرسي بالتأكيد كان يطمح إلى مصر غير مصر الجوعى والمتسولين ومسلوبي الإرادة أمام الأوليغارشيا والكوربورقراطية العالمية الجشعة وأذيالها من أوليغارشيا محلية وفلول فساد وريع، ولكنه قد أخطأ الطريق ولم يدر البلاد تلك الإدارة الرشيدة المطلوبة في مثل هذه الأوقات والوضعيات. إلا أنه أبدا لا يقارن بمن أخطؤوا في كل شيء ولو أنهم نجحوا بالدبابات والمؤامرات الداخلية والدعم الخارجي في الانقلاب على مرسي وفي أن يحكموا مصر بالنار والحديد والقوة المميتة وأن يعيدوها إلى سابق عهدها.. تتوسل الصدقات والهبات والمنح وتعيش على إيقاع الانزياح نحو المجهول. إنني حينما أتحدث عن الرئيس محمد مرسي بهذا الشكل فليس يعني هذا أنني أتعاطف مع هذا الرجل لأنه تعرض لما تعرض له بسبب مرجعيته الإسلامية كما يذهب إلى ذلك الكثيرون بحكم أن الغرب وإسرائيل يحاربون الإسلام ويتآمرون على رجالاته. أبدا، فهناك أنظمة يعلن قادتها أن لهم مرجعية إسلامية ويتباهون بكونهم يطبقون الشريعة، لكنهم لا يحاربون بل يحظون بكل دعم وتأييد ويتم التغاضي عن فسادهم وانتهاكاتهم المتكررة لحقوق الإنسان. إن الرئيس محمد مرسي -وأقولها بكل قناعة- قد نال حقه من العقاب والمحن لأن له تطلعات وطنية أراد إنجازها واقعيا. وأضيف، بكل قناعة أيضا، أن ما تعرض له مرسي المصري هو نفس ما تعرض له من قبل باتريس لومومبا الكونغولي وتشافيز الفنزويلي وكاسترو الكوبي وسالفادور آلندي الشيلي ومصدق الإيراني؛ فالاستعمار الجديد يستهدف الوطنيين والحكومات الوطنية أكثر من أي شيء آخر، ويسعى دوما إلى تحطيمهم وإجهاض تجاربهم لأنه يخشى أن تكون قدوة لكل دولة وطنية أخرى تواقة إلى الانعتاق والتحرر، وهذا ما نسيه -للأسف الشديد- العديد من أصدقائنا اليساريين والقوميين بعدما غرق الجميع في المقاربات الإيديولوجية الصرفة. إن الحصار الذي ما تزال تعاني منه كوبا من طرف أمريكا منذ أزيد من ستين سنة، إذا كان مبررا في الماضي عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعي أن كوبا تشكل تهديدا خطيرا لأمنها القومي باعتبارها رأس حربة المعسكر الاشتراكي في منطقة الكاريبي القريبة من شواطئ فلوريدا، فإنه اليوم يفقد مبررات استمراره ولا يمكن أن يسوغ بأي مسوغ آخر بعد انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة. إن حصار كوبا المستمر ليس حصارا ضد خطر منتظر يتهدد أمن أمريكا، بل هو حصار لرؤية تنموية خارج النسق النيوليبرالي المتوحش والمأزوم، وهذا ما لا تريد أن تسمع به أو تراه أوليغارشيا العولمة النيوليبرالية الجشعة المهيمنة بلوبياتها القوية على أكثر من مجال اقتصادي في أمريكا والعالم.. هذه الأوليغارشيا، التي يقتلها الطمع، لا تريد أن تسمع بأن مواطنين أمريكان يلجؤون إلى كوبا للتداوي من عللهم وأسقامهم وأمراضهم لأنهم ليس في مقدورهم فعل ذلك في بلادهم التي لقي فيها الرئيس أوباما كل المقاومات المتخيلة لمنع تمرير قانونه في مجال التغطية الصحية. مشكلة مصر في أغوارها اللجية المعقدة، بل مشكلة المغرب وتونس والجزائر وجنوب إفريقيا والفيتنام وأوكرانيا وماليزيا والأرجنتين، بل مشكلة كل العالم الثالث الخارج من براثن الاستعمار المباشر ومن غيابات أنظمة شمولية فاسدة، بل مشكلة حتى العالم القديم في أوربا والعالم الجديد الذي تبدو معالم تشكله اليوم، خصوصا في آسيا وفي الدول الصاعدة كالصين وروسيا والبرازيل وتركيا والهند، بل مشكلة جزء كبير من الشعب الأمريكي نفسه، هي مع اللوبيات والأوليغارشيات النيوليبرالية الجشعة التي عولمتْ الفقر والبؤس وأدخلت الاقتصاد العالمي إلى نفق مسدود ومأزق كبير. هؤلاء يعرفون علم اليقين بأن العالم ينفلت رويدا رويدا من بين أيديهم ويعرفون أن مستقبل العالم لن يبقى رهين العبث والفوضى، خلاقة كانت أو هدامة، ويعرفون أن عالما جديدا قد بدأت معالمه تتشكل في الأفق على أسس ربما تكون أكثر عدلا وأكثر إنصافا، ولكنهم يقاومون انبعاثه إرضاءً لجشعهم وطمعهم اللامحدود. إذا لم نفهم نحن، اليوم، هذه الأمور بهذه الأبعاد المتشعبة؛ إذا لم نفهم لماذا كانت هناك في أمريكا حركة «احتلوا وال ستريت»؛ وإذا لم نفهم معنى رفض جزء كبير من الشعب الأمريكي، بل جزء كبير من الساسة الأمريكيين، الاستمرار في الحروب الإمبراطورية والحروب بالنيابة لمصلحة اللوبيات المتعطشة للثروة والمال.. فلن نفهم لماذا يتعثر الانتقال الديمقراطي في بلاد الربيع العربي وقبلها في بلاد ربيع برلين وربيع براغ وجوهانزبورغ، ولن نفهم لماذا تعثر الربيع الديمقراطي في العديد من دول أمريكا اللاتينية، وعلى رأسها الأرجنتين التي دفعت دفعا إلى الانسياق وراء الوصفات المسمومة للمؤسسات الدولية المانحة للقروض فكان مصيرها الإفلاس. وضعنا في البلاد العربية والإسلامية أعقد، فهشاشة الانتقال الديمقراطي قد تقتله في المهد بسبب إغفالنا الشروط الموضوعية العالمية المتفاعلة حولنا وبسبب تخلف نخبنا واستغراقها في المراء والجدال الإيديولوجي الديماغوجي، المؤسس أكثر على التمثلات الخاطئة للآخر المختلف، بل وفساد جزء كبير منها وعدم استعدادها لإنجاز الانتقال الديمقراطي المبني على التوافق والاتفاق بين مختلف المكونات الأساسية داخل كل وطن من الأوطان العربية وانسياقها في صراعات بينية لا تستفيد منها سوى قلاع مقاومة الإصلاح؛ مشكلتنا مع السماسرة والأوليغارشيات المحلية وفلولها التي تذهب إلى حد التماهي بل والاستقواء بالاستعمار الجديد ودهاقنته من أوليغارشيا فوق وطنية وعابرة للقارات من أجل ضمان استمرارها وتحكمها وريعها وفسادها واستئثارها بكل شيء وحرمان شعوبها من كل شيء تلبية لنزواتها وجشعها اللامنتهي. خطأ الدكتور محمد مرسي ومن سانده وخطأ من عارضه من قوى وطنية مصرية، لا نشك في إخلاصها ووطنيتها، أنهم لم يكونوا في الموعد مع التاريخ ليتفقوا ويتوافقوا في ما بينهم من أجل وضع قاطرة مصر في المسار الصحيح وعلى سكة الانتقال الحقيقي إلى الديمقراطية؛ تنازعوا ففشلوا وقد تذهب ريح مصر -لا قدر الله- وتدخل في متاهات النزاع والحرب الأهلية إذا لم يتنادى المخلصون من أبنائها سريعا إلى كلمة سواء بينهم، قوامها التعايش السلمي المدني المتحضر وضمان احترام حقوق الإنسان وضمان مشاركة الجميع في العملية السياسية التي يكون شعارها احترام خيارات الشعب المصري وتعبيراته السيادية عبر صناديق الاقتراع الحر والنزيه، أي احترم حق الأغلبية، ولكن بدون هضم لحقوق الأقلية وقطع الطريق أمام الفاسدين وفلولهم، مدنية كانت أو عسكرية. مستقبل مصر على هذا المحك وما يصدق على مصر قد يصدق على تونس أو المغرب أو الجزائر. المصطفى المعتصم