ر، مخرج سينمائي عراقي وأخ الشاعر الكبير شوقي عبد الأمير، درس السينما بجامعة السوربون في فرنسا ما بين سنة 1977 و1980، وأكمل دراسته السينمائية في الاتحاد السوفياتي سابقا، حيث تخرج من قسم الإخراج السينمائي في المعهد السينمائي العالي في كييف عاصمة أوكرانيا حاليا. بعد ذلك استقر ببعض الدول العربية دون أن يستطيع مواصلة العمل بها، فاختار العودة إلى دول الاتحاد السوفياتي سابقا ليبدأ من جديد إنتاج الأفلام التسجيلية، ثم استمرت رحلة الغربة ليعود في آخر المطاف إلى باريس مع عائلته. حصل المخرج ليث عبد الأمير على العديد من الجوائز التقديرية، منها الجائزة البرونزية بمهرجان دمشق السينمائي لسنة 1987 عن فيلم روائي قصير بعنوان «المهد». كما نال جائزة الجمهور في مهرجان كييف للأفلام السينمائية. وبهذه المناسبة التقيناه بالرباط، فكان لنا معه هذا الحوار: - هل يمكنك أن تحدثنا عن أسباب تنقلك المستمر عبر بعض الدول العربية والأوروبية؟ هل لهذا علاقة بالظروف الأمنية أم لأسباب إبداعية؟. كانت البداية عام 1977، حين تركت بلدي العراق متوجها إلى فرنسا هربا من بطش صدام حسين ونظامه الجائر. لم يكن عمري آنذاك يتجاوز التاسعة عشرة. في ذلك الوقت لم يكن عندي هم فني وإنما كانت لدي رغبة ملحة لدراسة السينما، التي حرمت منها في بغداد بسبب أن دراسة الفنون كانت حكرا على المنتمين إلى حزب البعث فقط. كنا جيلا كاملا من العراقيين (ولم أكن حالة استثنائية)، الذين رفضوا نظام الحكم الدكتاتوري في العراق. وكشجرة مقطوعة من جذورها كنا نتنقل من بلد إلى آخر بحثا عن الاستقرار وعن حياة كريمة، وكذلك بحثا عن الأمان في بلدان لا يصلها «كاتم الصوت» وبطش النظام الذي امتد إلى كل مكان تقريبا. في هذه الظروف انتقلت إلى مدينة كييف في أوكرانيا ضمن ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي لدراسة السينما. وقد شكلت التجربة السوفياتية بالنسبة لي مرحلة عبور مهمة، حيث بدأ تكويني السينمائي يتشكل، وأخذ الهاجس الفني، مع مرور الوقت، يتفوق على الهم السياسي. وكان يجب أن أبحث عن فرصة للتعبير عن الذات بلغة الفن لا السياسة، وترجمة التواصل من موقعي في الغربة مع الوطن، الذي أثقلت الحروب جراحه، بأدوات جديدة هي السينما. هذه كانت البدايات، وهي خليط من الوعي السياسي والفني تدريجيا، بعد أن استقر وضعي الحياتي في فرنسا وأصبحت سينمائيا محترفا، أي أخذت أعيش من فني وأفلامي، عندها أصبح الترحال حالة إبداعية وضرورة فنية أيضا. - لماذا ركزت اهتمامك فقط على الفيلم الوثائقي، ولا تشتغل إلا نادرا على الفيلم الطويل؟. تكويني السينمائي كان روائيا، ولم أكن أتصور نفسي في يوم من الأيام مخرجا للأفلام الوثائقية، وهي تجربة لم أكن أعرف خباياها آنذاك، ولكن للضرورة أحكامها، فعندما عدت ثانية إلى فرنسا، وهذه المرة مع عائلتي (زوجة وطفلان)، كان يجب أن أعمل وأن أعيل العائلة، ولم يكن أمامي من خيار سوى صناعة فيلم وثائقي كي أقدم نفسي للجمهور الفرنسي والعالمي عن طريق السينما التسجيلية، التي اعتبرتها مرحلة انتقالية لا غير. حينذاك قررت أن أضع كل معارفي كسينمائي روائي التكوين في سلة الفيلم الوثائقي، وفعلا أخرجت في عام 1994 فيلم «اليمن والزمن المقدس» للقناة الفرنسية الخامسة، وهو فيلم تسجيلي صورته بشريط سينمائي سوبر 16. كنت أتصور حينها بأنني بهذا الفيلم سوف أهجر السينما التسجيلية وأتفرغ لأفلام الخيال، لكن الذي حدث هو أنني اكتشفت عالم الفيلم التسجيلي المدهش، (اكتشفت الدنيا عن طريق السينما)، ومعنى أن تصنع الجمال من الواقع الفج دون أن تخل بقوانينه، معنى أن تكون عندك كمخرج تسجيلي علاقة مميزة مع الواقع، ومعنى أن تحول الواقع إلى حالة فنية! وهكذا شكل لي الفيلم التسجيلي الأول تحولا كبيرا نحو صناعة أفلام تغور في أعماق الواقع بأدوات واقعية، وهكذا ترسخت عندي القناعة بأن الفيلم الوثائقي هو عالم يتشكل، ينتظم في قصة، وكان هذا اكتشافا مذهلا، ومنذ ذلك الحين وأنا صانع أفلام تسجيلية. - اختيارات موضوعاتك السينمائية غالبا ما كانت مرتبطة بالأمكنة الجغرافية كالعراق، اليمن وإفريقيا. هل هذا الاختيار فرضته الضرورة الموضوعية، أم هو نتاج لما راكمته ذاكرتك الشخصية من أحداث عايشتها؟. السينما، حسب أندريه بازان، تعتمد على واقعية المكان وهي تسجل مكانية الأشياء وما بين الأشياء. وبصفتي سينمائيا عربيا يعيش في أوربا ويتابع الأحداث العالمية، أهتم كثيرا بما يدور في عالمنا المتغير، وبدلالات الحدث اليومي، وأعتقد أن على صانع الأفلام التسجيلية أن يختار مواضيعه بعناية من الحدث اليومي نفسه. هذا الحدث الذي توسع مداه من العراق إلى أفريقيا وإلى كل مكان في كوكبنا الصغير. لذا أعتقد أن المادة الخام للفيلم الوثائقي هي الجغرافيا، والأحداث موضوعها. وأنا، بصفتي سينمائيا، أغرف من الجغرافيا مادتي. ولكن من الصحيح أيضا أن لتراكم التجربة والتنقل بين البلدان تأثير كبير في اختيار مواضيع أفلامي. - هل فيلمك الوثائقي «دمع الجلاد» كانت له علاقة باعتقال وإعدام صدام حسين، أم هو شريط يتحدث عن الاعتقالات بصفة عامة بالعراق، وما رافقها من تعذيب في بعض السجون كسجن أبو غريب؟. في فيلم «دمعة الجلاد»، وهو من إنتاج القناة الفرنسية الثالثة سنة 2013، هناك مشهد رافقني منذ أيام الصبا وأنا طالب في مرحلة الابتدائية، وبالضبط في نهاية الستينيات من القرن الماضي. أتذكر عندما حشرونا، نحن طلبة المرحلة الابتدائية، في سيارات الشحن التي توجهت بنا إلى ساحة التحرير ببغداد، وهناك طلبوا منا أن نرقص ونصفق (بالروح بالدم...) تحت أعواد المشانق التي نصبت في ساحة التحرير. وقتها كان صدام حسين نائبا للرئيس، ولكنه كان الحاكم الفعلي للعراق. ولن أنسى ما حييت تلك الوجوه المزرقة والرقاب الممدودة للمعدومين، وكانوا، حسبما أعتقد، ثلاثة متهمين. مرت السنين سريعا وصدام حسين واجه نفس المصير! شخصيا لم أفكر بمصير دكتاتور العراق عندما عملت الفيلم، ولكنني انطلقت من مبدأ إدانة هذه العقوبة، وهي، حسب رأيي، حكم وحشي، وقد أخرجته ليس دفاعا عن دكتاتور العراق، ولكن موقفي كان نوعا من القصاص، وهو موقف إنساني ومبدئي. ومبدأ «العين بالعين والسن بالسن» هو نظام قديم منذ سومر ونجده مدونا في مسلة الملك حمورابي، أي منذ حوالي 2800 قبل الميلاد! حتى هذا التاريخ، علقت الكثير من الدول العمل بعقوبة الإعدام، ولكن ما زالت أكثر من 57 دولة تواصل العمل بهذا النظام. والفيلم أيضا مناسبة لتذكر سجن أبي غريب، رغم أنه لا يشير إليه، وكذلك تذكر كل الممارسات البشعة بحق السجناء والمعتقلين في العالم. - وماذا تقصد بالغائبين في شريط «العراق أغاني الغائبين»؟ هل من موقع أنك تعيش في المنفى، أم من موقع إيحائي يحاول رصد الذين افتقدوا في المعارك الدائرة بالعراق؟. تاريخ فيلم «أغاني الغائبين» يعود إلى سنة 2006، وهو من إنتاج القناة الفرنسية الرابعة، وقد صورت الفيلم بعد غياب دام أكثر من 27 سنة، إذ عدت إلى العراق مع كاميرا وسيناريو كتب بفرنسا بعد السقوط، ولكن منذ أن وطئت قدماي أرض الرافدين تركت السيناريو جانبا، فالواقع كان أشد وأقوى من أي تصور، وتركت لذة الاكتشاف والمغامرة تستهويني لتصوير العراق الذي يعيش مرحلة مخاض صعب ومأساوي. صورت في ظروف قاسية وخطرة، من أقصى جنوبالعراق إلى أقصى شماله بدون أي أفكار مسبقة. الكاميرا كانت تبحث عن المفقودين والغائبين طوال سنين الدمار والحروب والحصار الاقتصادي دون تحكم مني كصانع للفيلم سوى ما تمليه المهنية في توجيه الكاميرا الوجهة الصحيحة. بعد ذلك عدت إلى باريس وأنا لا أعرف ما سأفعل بالمائة ساعة التي صورتها، لكن مع الوقت اكتشفت أنني كنت أبحث عنهم، عن هؤلاء الغائبين والمغيبين، هؤلاء العراقيين الذين هلكوا في الحروب وتحت التعذيب، وأولئك الذين ماتوا حزنا على أبنائهم. اكتشفت أنني كنت أبحث أيضا عن هؤلاء الذين بقوا أحياء، ولكنهم لا يعرفون من هم، ولماذا زج بهم في هذه الحروب! الغياب في الفيلم أيضا هو غياب العراق الذي يعيش في وجداننا، ويبدو لي اليوم أن قائمة الغياب والمغيبين طويلة، ومن الصعب إحصاؤها. - ما هي الظروف والحيثيات التي أهلتك للفوز بأربع جوائز عن أفلامك؟. الجوائز الأربع الأخيرة التي فاز بها فيلم «دمعة الجلاد»، هي بمناسبة المشاركات العديدة للفيلم في المهرجانات العالمية، ويبدو لي أن هناك استقبالا جيدا من الجمهور الأوربي للفيلم، الذي توج تجربة أكثر من 25 سنة من العمل في صناعة الأفلام الوثائقية، رغم قناعتي بأن المهرجانات ليست أفضل مكان لتقييم الأفلام، وأن تعاطف الجمهور مع الفيلم هو أثمن جائزة لصانعي الأفلام.