بعد موت المنصور الذهبي سيشهد المغرب فترة حالكة بسبب صراع أبنائه على السلطة. كان المنصور ملكا قويا مرهوب الجانب أعاد للمغرب أمجاد المرابطين والموحدين والمرينيين، غير أنه أخطأ خطأ كبيرا حين أخذ البيعة لولده المأمون، إذ سرعان ما سيتمرد هذا الأمير على والده بعد اغتراره بالجيش الذي وضعه المنصور تحت إمرته. وقد حاول المأمون الاستنجاد بالأتراك، غير أن الملك سيتمكن من اعتقاله وإيداعه في سجن مكناس، ولم يكن انقلابه على والده جريمته الوحيدة فقد تعددت زلاته وفظائعه. يقول عنه اليفرني: «كان قاسيا خبيث الطوية مولعا بالعبث بالصبيان مدمنا للخمر سفاكا للدماء غير مكترث بأمور الدين». وقد وافت المنية المنصور، فأخذ زيدان البيعة لنفسه بفاس فلم يستسغ المأمون ذلك ولا أخوه أبو فارس بمراكش، مما سيدخل المغرب في دوامة اقتتال أتت على الأخضر واليابس، وقد امتد الصراع بين الإخوة طيلة سبع سنوات فلجأ المأمون إلى الإسبان ليعينوه على انتزاع الملك من أخويه، وحين ترددوا في دعمه وعدهم أن يسلمهم العرائش مقابل مده بالرجال والسلاح ليبسط نفوذه على ربوع البلاد، وقد اشترط عليه الإسبان أن يترك لديهم أولاده فقبل شرطهم. كان المأمون قاسي القلب، لكنه كان متمرسا بشؤون الحكم والسياسة يعلم أن العامة والعلماء لن يقبلوا بتسليم العرائش لعدوهم، وكيف يقبلون بذلك وما زالت أصداء انتصارات «وادي المخازن» تتردد بآذانهم؟ لهذا سيلجأ إلى استصدار فتوى تجيز له تسليم العرائش لعدوه، ليضفي طابع الشرعية على جريمته النكراء. سارع المأمون إلى تنفيذ هذا المشروع باستخدام القسوة تارة، ودغدغة مشاعر العامة تارة أخرى، وكان المدخل لإقناع الناس بصواب فعلته أن أحفاد رسول الله رهينة في يد الإسبان، وفي سبيل فدائهم تسترخص الأرواح والأبدان والمال والأوطان. وقد انقسم العلماء إزاء هذه النازلة إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى أفتت بوجوب تسليم العرائش. ومن هؤلاء من أرغم على الفتوى، ومنهم من دافع عنها طمعا في الحظوة عند المأمون، وعلى رأس هذا الصنف الأخير محمد بن قاسم بن القاضي الذي قتلته العامة بالقرويين لاحقا بسبب خذلانه مسلمي العرائش. والفئة الثانية اختارت حلا وسطا، فاختفت عن الأنظار مخافة أن تبوء بإثم إباحة أمر مجمع على تحريمه، ومن هاته الفئة المقري التلمساني. أما الفئة الأخيرة فوقفت موقفا معاديا لتسليم العرائش. يقول القادري في نشر المثاني: «وأنكر على المأمون وأغلظ له في الملام الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن المعروف بالحاج الأغصاوي البقال». وقد حاول علي، أخ أبي عبد الله الحاج الأغصاوي، أن يستعطف السلطان المأمون ليغض الطرف عن أخيه، فقال عنه إنه مجذوب تعتريه أحوال لا يجب أن يؤاخذ فيها بما يقول. كان علي يخشى على أخيه من بطش السلطان، غير أن أبا عبد الله سيقطع باب الأعذار نهائيا وسيخط رسالة للسلطان يعلن فيها موقفه صراحة وبلا مواربة. ومما جاء فيها: «والله لا وافقتك أنت ولا أخي ولا أبي في أمر لم يأمر به الله ورسوله، وقد وجب علينا الغيرة على الإسلام والنصرة لأهله ... فإن عشنا فنعم البضاعة وإن متنا فبيننا وبين الجنة ساعة، والآن لا أرى لك عهدا ولا عهدة ... فأنا اليوم وأنت غدا وعند ربكم تختصمون. فكيف يا مخذول تسلم النصارى دمرهم الله حصون المسلمين ... ولو كان الخير فيك كل من كلمك في أمرِ محمدٍ تقول له بدّل هذا الكلام عني، أنا أعرف بك منك ... انطمست بصيرتك عن منهاج الحق ولو كنت مصاحبا للعلماء أهل الورع والذين يُقتدى بهم دنيا وأخرى لحسنت سريرتك وسريرة تابعيك» . بعد وصول الرسالة إلى المأمون أنفذ إليه كتيبة من جنوده للإتيان به، فقد كان في منعة من أتباعه في زاوية «الحرائق». وقد اختلفت الروايات اختلافا كبيرا في طريقة قتله، فذهب بعضها إلى حدوث اقتتال بين أتباع المأمون وأتباع الشيخ، وقيل في أخرى إن جنود المأمون أحضروه وقتلوه صبرا ثم دفنوه بفاس بالطالعة الصغرى عام 1017 ه الموافق ل 1605 م . يوسف الحلوي