إيلا كذب عليك عرفي راكي خايبة.. دراسة: الدراري مكيكذبوش مللي كي كونو يهضرو مع بنت زوينة        أبو عبيدة: العدو عالق في رمال غزة.. وهجوم إيران أربك حسابات الاحتلال    إقبال كبير من الجالية والنساء.. هذا عدد المغاربة المستفيدين من دعم السكن وتمكنوا من اقتناء سكنهم    محلل رياضي مشهور: أمرابط بمانشستر ليس اللاعب المتألق الذي رأيناه مع المنتخب المغربي في قطر    حزب الله يشن أعمق هجوم في إسرائيل منذ 7 أكتوبر.. والاحتلال يستعد لاجتياح رفح    طقس الأربعاء.. أمطار ورياح مع تناثر غبار بهذه المناطق    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    سيراليون دعمات الوحدة الترابية للمملكة.. هو الحل الوحيد لي عندو مصداقية    رحيمي والعين قصاو بونو والهلال وتأهلو لفينال شومبيونزليگ    موقف بركان قوي واتحاد العاصمة ضعيف وها الأحكام اللي يقدر يصدرها الكاف فقضية الغاء الماتش بسبب حماق الكابرانات    الحوار الاجتماعي.. الحكومة والنقابات داخلين فمفاوضات مكثفة على قبل الحق في الإضراب وحرية العمل    رد قوي من طرابلس على التكتل مجهول الهوية لي بغات تخلقو الجزائر.. ليبيا شكرات سيدنا على دعمه الثابت لقضيتها وأكدات أهمية تعزيز اتحاد المغرب العربي    تلاميذ متميزون يستكشفون آفاق الدراسة في كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة    "الأحرار" يحسم الاقتراع الجزئي بفاس    المنتخب الجزائري لكرة اليد شبان ينسحب من مواجهة المغرب بسبب خريطة المملكة    بطولة إيطاليا لكرة القدم.. تأجيل احتفالات فريق إنتر باللقب ومباراته ضد تورينو إلى الأحد المقبل    لومبارت كوساك : الفلاحة .. العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوروبي "غنية جدا"    إليك أبرز أمراض فصل الربيع وكيفية الوقاية منها    وزير فلسطيني: المغرب الأكثر اهتماما وعناية بشؤون القدس    ميارة يستقبل فيرا كوفاروفا نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    الأمثال العامية بتطوان... (580)    يهم البذور والأغنام والحليب.. المغرب وفرنسا يعززان تعاونهما الفلاحي    الأديب عبد الرفيع جواهري ضيفا على برنامج "مدارات"    وزير الخارجية الإسباني يؤكد افتتاح الجمارك بباب سبتة    تفتيش شابة على متن حافلة ببني ملال يسفر عن مفاجأة    تداولات البورصة تغلق على "أداء سلبي"    عاجل. حكم قاصح بزاف. الاستيناف طلع العقوبة الحبسية للطاوجني ل4 سنين بسباب شكاية دارها بيه وزير العدل    وزارة إسبانية: "سيام" من أكثر المعارض الفلاحية الواعرة فشمال إفريقيا    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    فرنسا معولة على مخابرات المغرب فتأمين أولمبياد باريس وها شنو گال جيرالد دارمانان    آيت طالب: أمراض القلب والسكري والسرطان والجهاز التنفسي مزال كتشكل خطر فالمغرب..85 في المائة من الوفيات بسبابها    ضمن جولة إقليمية.. حموشي يقود وفدا أمنيا مغربيا إلى الدوحة ويتباحث مع مدير "أمن الدولة"    جائزتها 25 مليون.. "ديزي دروس" و"طوطو" يترأسان لجنة تحكيم مسابقة في فن "الراب"    مديرية الضرائب تعلن عن آخر أجل لإيداع الدخول المهنية    الأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي في المقابر الجماعية في مستشفيات غزة    خارطة طريق فلاحية جديدة بين المغرب وفرنسا    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    وزير الزراعة والأمن الغذائي بنيجيريا: "نرغب في تعميق علاقات التعاون مع المغرب في المجال الفلاحي"    أمل تيزنيت يستنكر الأخطاء التحكيمية التي ارتكبت في مباراته أمام جمعية المنصورية    بعد أزمة نهضة بركان.. الاتحاد الدولي للمصارعة يعتمد خريطة المملكة في أقمصة المنتخب    بكين تنفي "كل المزاعم بتجسس صيني"    أكادير.. الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ من 25 إلى 28 أبريل الجاري    الذهب ينخفض لأدنى مستوى في أكثر من أسبوعين مع انحسار مخاوف الشرق الأوسط    بنموسى: الأزمة التي عاشتها المنظومة التعليمية شكّلت لنا فرصة للإصلاح    وزارة التربية الوطنية تشرع في عقد المجالس التأديبية للأساتذة الموقوفين وسط رفض نقابي لأي عقوبة في حقهم    حرائق الغابات تجتاح عددا من مقاطعات كندا    العلاج بالحميات الغذائية الوسيلة الفعالة للشفاء من القولون العصبي    هذه هي الرياضات المناسبة إذا كنت تعاني من آلام الظهر    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و183 شهيدا منذ بدء الحرب    فرنسي يبصق على مؤثرة مغربية محجبة قرب برج إيفل (فيديو)        سعد لمجرد يكشف تفاصيل لقائه بجورج وسوف    الأمثال العامية بتطوان... (579)    وفاة الشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني عن 82 عاما    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    الأسبوع الوطني للتلقيح من 22 إلى 26 أبريل الجاري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راهن ثقافتنا الحديثة والحداثية
نشر في المساء يوم 27 - 01 - 2016

لا يخفى على أحد ما للثقافة من أهمية، فبالثقافة ترسخ الشعوب والأمم قيمها وتنميها، وبها تحمي هوياتها وتطورها، وبها تؤمن تماسكها الاجتماعي وتعمقه، وبها تفهم الواقع المحيط وتواجهه، وبها تنتج المعرفة وتبادلها، وبها تكثف أساليب حياتها المادية وتنتج آلياتها، وبها تحيى وتستمر في وجودها… ولعل التراكم الثقافي، الذي خلقته تلك الأهمية عبر التاريخ، هو الذي دفع نحو تمدد الثقافة على أشكال كثيرة، غالبا ما تميزها نعوت محددة، فنكون أمام الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة والثقافة الشعبية والثقافة الفلكلورية والثقافة السياسية.. ورغم ما يبذله كثير من المثقفين المغاربة، مفكرين ومبدعين بمن فيهم الفنانون، في مؤسساتهم وخارج المؤسسات، من جهود كثيفة، فإننا، في المغرب، لم نضبط ولم نعقلن برمجة أي من تلك الأشكال الثقافية، ولم نول لها أهمية تذكر، فأضحت الثقافة لدينا غارقة في بؤس متعدد الوجوه، خاصة حين يتعلق الأمر بالثقافة الحديثة، التي ينبض قلبها بالفكر النقدي، الذي لا يستوي أي عقل بدونه، وينبغي أن تتمتع به كل فئات المجتمع، اعتمادا على برمجة رسمية، باعتبار أن هذا الفكر هو حق من حقوق الإنسان، وبالذات إذا تطلع المجتمع إلى أن يكون ديمقراطيا.. وهو حق غائب في مجالنا الاجتماعي، كما يعرف الجميع.. كنا ننتظر أن ننتقل من التحديث التقني والصناعي والتجاري نحو الحداثة الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما فعلت بلدان كثيرة في أمريكا اللاتينية وآسيا، غير أن ذلك لم يتم، فعوض أن نمارس الديمقراطية في شموليتها، أصبحنا نختزلها في الانتخابات العددية قصد التحكم.. وبدأ التراجع يلف المجتمع.. وذلك:
1 لغياب التخطيط: إذ تعاني الثقافة في المغرب من بلقنة مكوناتها، فكل القطاعات التي لها علاقة بالثقافة والتثقيف تشتغل منفصلة عن الأخرى، فلا علاقة بين القطاع الثقافي وقطاع التربية والتعليم، ولا بينهما وقطاع الإعلام أو قطاع الشباب.. وفي نفس الوقت لا تعتمد هذه القطاعات، رغم انعزالها، على برمجة استراتيجية قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، بل تعاني من الخبط والتخبط.. وفي قطاع الثقافة نفسه لا علاقة بين مكوناته الإبداعية، إذ يتحرك المفكر بعيدا عن توجيه سلوك الناس، ويولد الفيلم بعيدا عن الأدب السردي، وتشتغل الأغنية خارج الإبداع الشعري، فيجني المتلقي، في الغالب، الرداءة في السلوك العام وفي السينما وفي الأغنية.. وتتحرك، غالبا، الجمعيات الثقافية الوطنية والجهوية والمحلية ضمن نفس التخبط وغياب البرمجة.. وإذا كانت عصامية المثقفين المغاربة جعلتهم يتميزون بكتاباتهم الفكرية والإبداعية، فهم يشتغلون جزرا منفصلة، ويبحثون، غالبا، فرادى عن دور النشر والتوزيع خارج بلادهم، لأن البلاد فقيرة في مجال صناعة الثقافة، رغم مرور حوالي ستة عقود على استقلالها، ولا تفكر في تطوير هذه الصناعة.. والأمر أقسى مع الفنانين، خاصة المهتمين بالسينما، حيث لا يمكن أن ينتجوا أفلاما خارج البلاد.. ولأن غياب سياسة ثقافية، في البلاد، استند إلى خلفية إرادية، اعتبرت الثقافة ومنابعها مجالات مشاغبة وينبغي تقليص فعاليتها بجعلها شكلية عبر ما يمكن تسميته «تبييض الجهل» أو استغلال الفرصة للانتكاسة بها.. وهذا يبدأ من المنطلق من خلال تسطيح برامج التعليم وإغراقها في كم غير مجد وغير محتمل من الدروس والمواد، بحيث لا يمكن أن يستوعبها التلميذ ولا الطالب، خاصة أنها تعتمد في الغالب على الحفظ.. وفي نفس الوقت هي برامج تستغرق كل وقت الأستاذ.. لذلك لا يمكن لهؤلاء أن يستهلكوا الثقافة، لأن لا وقت لهم ولا حوافز. فيغيب تلقي الثقافة وينتفي تشجيع القراءة، فتتقلص القدرة على التفكير والتخييل والخلق.. ويصبح مجال الثقافة مشتلا ل»فكر الانتكاس»، ويسهم غيابها في إنتاج الجريمة المنظمة وغير المنظمة.. ولا تهتم النخب السياسية، أيضا، بالسياسة الثقافية، لأنها نخب لا تعترف بدور الثقافة، كآلية فعالة في التنمية، وفي حماية وتطوير القيم وعقلنة التصرفات واستقرار السلم الاجتماعي بكل مستوياته. ولأنها نخب تزيح الثقافة من طريقها، فإنها تسقط، هي نفسها، في التسطيح السياسوي القائم على الشعبوية عبر خطاب الإثارة والتندر، وتعمد في الممارسة إلى الترقيع والحلول الأسهل والخطاب الساذج.. دخلت هذه النخبة حين تنكرت للثقافة في مجالات جد ضيقة، غالبا ما تنحصر في الثالوث المركب من البيروقراطي والتكنوقراطي والتيوقراطي، وهو ثالوث فاقد للثقافة ،التي هي عمق الجدال والجدل وعمق التفكير وعمق التخطيط..
2 ولبهرجة الثقافة: هي بهرجة في جل التظاهرات الوطنية، وبالأساس من خلال المهرجانات.. تظاهرات تتعلق في الغالب بالسينما والأغنية، تستقطب أفلاما وفنانين من كل أقطار العالم. بينما يحتل الفيلم المغربي، كما الأغنية المغربية، أبسط المستويات في ترتيب الجودة والتأثير والاستهلاك.. ويكون دور ثقافة المهرجانات سلبيا ضمن الثقافة المغربية.. إن البلدان المعقلنة للتخطيط تنظم مثل تلك التظاهرات للاستفادة منها ماديا ومعنويا.. ماديا، لما تكون الصناعة الثقافية متقدمة في البلاد، ويريد المسؤولون تسويقها عالميا، وهذا لا يوجد في المغرب. ولما تكون الظاهرة الثقافية جد متطورة في البلاد، ويعمد المسؤولون إلى الترويج لها وعولمتها، وهذا أيضا لا يتوفر في المغرب. وحين يتوخى المسؤولون الأرباح المادية، إذا كانت ثقافة البلاد قادرة على أن تنافس غيرها في السوق العالمية أو على الأقل الجهوية، وهذا لا يمكن أن نفكر فيه حاليا بالمغرب.. ولا يمكن أن نتحدث ،إذن، عنأي إشعاع للمغرب عبر هذه التظاهرات..أما معنويا، فيمكن لأي بلد أن ينظم تظاهرة ثقافية عالمية، إذا أراد منها أن تساعد على مزيد من تطوير نفس الظاهرة لديه، وهذا لا تحققه المهرجانات المغربية لانتفاء البنيات التحتية المادية.. وتنظيم التظاهرات يمكن أن يعمق الثقة في النفس عند المواطن والثقة في وطنه، وهذا لا يمكن أن يتحقق حين يرى هذا المواطن أن ثقافته بتنظيمها تحتل الرتب الأضعف في مثل تلك التظاهرات. وتنظم مثل هذه التظاهرات في البلدان حين يرى المسؤولون إمكانية الإسهام في التماسك الاجتماعي عبر تعميق العناية بقيم المجتمع ونشرها عالميا، وهو ما لا يمكن أن تحققه لدينا.. أما أن المتلقي المغربي يقبل عليها، فإنه لا يجد بديلا آخر في محيطه.. فيجعله هذا الإقبال يعاني من استلاب الوعي ويغرق في عالم وهمي افتراضي، يقلص من ارتباطه بذاته وبواقعه وبوطنه. لذلك يكون تأثير المهرجانات في المغرب إرباكا للثقافة المغربية، إن لم نقل تدميرا لوظائفها، كما يورث غياب التخطيط تلميع الجهل والانتكاس، وتضخم ردود الفعل العاطفية على حساب التأمل العقلي.. وتجعل المتلقي منبهرا بثقافة غيره، مبخسا لثقافة وطنه، وفي نفس الوقت تشوه هويته الوطنية وتهجنها، وتدفعه إلى إهمال قيم مجتمعه بكل عمقها وتنوعها، ويغرق في السوق الاستهلاكية عبر ما يتلقاه وما يقصفه به الإعلام كل لحظة، فضلا عما يعيشه في الشارع من تدهور عام في السلوك والخطابات حينئذ يستأنس ببخور الماضي.. وليتجاوز المغرب كل تلك السلبيات يحتاج إلى مؤسسات نخب ثقافية وسياسية حقيقية قادرة على تهييء الأجواء لخلق ثقافة حداثية تنمي الوعي النقدي العقلاني. نخبة تصحح مسار التعليم ومسار الإعلام وتكوين الشباب.. نخبة تدبر غنى التعدد والتنوع الثقافيين في البلاد. نخبة تضغط في اتجاه رفع ميزانيات قطاعات الثقافة، والاستثمار في صناعاتها، سواء بتوفير مجالات التنسيق والتفاعل بين تلك القطاعات والأشكال الثقافية، أو بخلق بنية ضرورية للسينما قادرة على الإبداع، أو بتوفير بنية تحتية فعالة للموسيقى المغربية، أو باعتماد البنية التحتية لإنتاج الكتاب واستهلاكه وتسويقه.. وعوض أن نوزع المليارات على الفنانين الأجانب بدون طائل، ينبغي استثمارها في هذه المجالات لنمارس نهضة ثقافية منتجة للمعرفة وتجد لها مكانها في السوق العالمية.. ولابد أن تعمل كل تلك النخب على العمل في اتجاه إنجاز «مغرب ثقافي حقيقي» عبر تشكيل مؤسسات مناسبة وجادة منتظرة تتكفل بالقطاع..
الفن والواقع
لننطلق من فكرة أن وظيفة الفن هي أن يقدم لنا صورة عن الواقع، وأن كل فن من الفنون الجميلة إنما يقدم لنا بوسائله الخاصة هذه الصورة، وليس نسخ الواقع كما هو أو إعادة إنتاجه، وأن هذه الصورة ليست هدفا في حد ذاته، بل هي أداة لنقل رؤية الفنان للواقع. من ثم يحق لنا القول إنه كلما سعى الفنان إلى نسخ الواقع، ابتعد عن حقيقة الفن وماهيته. وهكذا فمن الخطأ الاعتقاد أن أثر التمثيل الدرامي على النفس يزداد كلما أبهرنا حواس المتلقي بعناصر مأخوذة من الواقع مباشرة، فكلما أعطى الفنان الأولوية لشغل الحواس، وكلما ازدادت واقعيته، ابتعد عن حقيقة الفن وانمحى تأثيره في النفس والذهن. وإذا كانت اللذة الحسية تصاحب كل فعل للمحاكاة، فإنها ليست سوى واسطة إلى تحقيق متعة أسمى هي متعة الفكر أو الذهن. فالمسافة الموجودة بين الفن والواقع هي التي يجد فيها المتلقي متعته الجمالية من خلال حركة الانتقال من الصورة إلى الواقع، ومن الواقع إلى الصورة. ومن ثم فإن المحاكاة التي تظل سجينة الواقع، ولا تطلب من الصورة سوى تكرار الواقع، تبتعد عن حقيقة الفن وغايته، لأنها، في سعيها إلى اختصار المسافة بين الصورة والواقع، تبطل عمل العقل والمخيلة، بحيث لا يعود هنالك شيء تقدمه للعقل والمخيلة سوى ما تحيط به الحواس.
وكثير من المسرحيات والأفلام تركز على ما يسمى اليوم بالمستوى الجمالي أو الاستطيقي، وعلى ما يسمى بالواقعية في الفن، لكنها فارغة في مضمونها، وقدرتها على التأثير في أذهاننا ومخيلاتنا، وبالتالي لا نحتفظ منها بشيء يذكر. وكثيرا ما يتحدث بعض الفنانين عن ارتباطهم بالواقع، وأن ما يقدمونه هو مرآة للواقع، لكن هل ننتظر من الفن أن يكون هو الواقع؟ وما حاجتنا إلى مرآة لا تضيف شيئا ولا تنقص شيئا، ولا تصحح ولا تعمم؟ فكل تمثيل فني لا يخرج عن كونه نسخة عوض أن يكون أصلا هو مجرد تقليد لا قيمة له فنيا ولا فكريا ولا أخلاقيا. لكن ما هو هذا الأصل الحقيقي الذي هو واقع الفن وهو نموذجه وغايته؟ هذا الأصل لا يستطيع إدراكه سوى الفنان الحقيقي، هو العبقري الذي نقول عنه إنه مبدع، هو المسرحي والسينمائي الذي يجعل كل تفاصيل وجزئيات إبداعه تنتمي إلى حقل الممكن والمحتمل، وهو الذي ينظم الفعل الدرامي ولغة شخوصه في انسجام مع الموقف ومع الشخصيات الإنسانية، وهو الذي يعطي الحياة لشخوصه، وبالتالي يرسم شخوصا لا أحد من الناس رآها من قبل، وكلاما لا أحد من الناس سمعه من قبل. إنه يرسم مثالا أو نموذجا يبدعه بنفسه. ما يسعى إليه الفن وما يريد الفنان الحقيقي أن يحاكيه، إذن، هو المثال، هو النموذج العام، فالفردي والخاص يوجد في كل مكان أمام حواسنا، أما هذا العام الكوني فلا يوجد في مكان أو زمان ولا تدركه الحواس، ولا يمكن بلوغه إلا بالذهن، هذا الذي لا تمنحه الطبيعة أو الواقع إلا متفرقا منفصلا في أجزاء. وعبقرية الفنان تكمن بالضبط في قدرته على التعبير عن رؤيته للماهيات، كما أن عبقرية الشاعر هي في قدرته على التعبير عنها في استعارات. فجميع الآثار الفنية الخالدة هي تلك التي تؤثر في ذهن الإنسان وروحه، في كل الأزمنة وكل الأمكنة، بتجاوزها للخاص والجزئي والواقعي إلى العام والكوني والمثال. وقيمة المحاكاة الفنية إنما تكمن فيما نكتسبه من خلالها من معارف وعواطف وأفكار، وما تفتحه أمام فكرنا وخيالنا من رؤى وآفاق جديدة، وما تصبو إليه أنفسنا من تطلع إلى اللامتناهي والمطلق.
عبد اللطيف محفوظ والسيميائيات التداولية
اقترابا من التجربة التنظيرية، والتطبيقية للأكاديمي الدكتور عبد اللطيف محفوظ السيميائية، أشرف الدكتور أحمد يوسف على تنسيق وتقديم كتاب يحمل عنوان «السيميائيات التداولية بنياتها وحدودها: دراسات في مشروع عبد اللطيف محفوظ السيميائي»، والصادر حديثا في طبعته الأولى 2016 عن دار كنوز للمعرفة والنشر والتوزيع بعمان-الأردن. ويتضمن هذا الكتاب مقاربات دقيقة لمسار الدكتور عبد اللطيف محفوظ، الذي راكم منجزا نوعيا في مجال الدراسات النقدية الأدبية والجمالية تعميما، والدراسات السيميائية تخصيصا، مما يجعلها تجربة مؤهلة، من وجوه عدة، للتأمل والمعاينة والمدارسة. ومن أبرز سمات هذه التجربة النقدية أنها ذات نزوع أكاديمي يتميز بالرصانة العلمية في التمثل النظري مع القدرة على استيعاب التفكير المجرد، والفحص الدقيق للمفاهيم، والاصطناع الحسن للجهاز الاصطلاحي؛ كما أن هذه التجربة راهنت، منذ مبتداها، على مباشرة النصوص السردية والانصراف إلى التطبيق والتركيز على قضايا نقدية محددة مثل وظيفة الوصف، والبناء والدلالة، وآليات إنتاج النص. وهي بذلك تجمع بين النظرية والتطبيق. ويروم كتاب «السيميائيات التداولية بنياتها وحدودها دراسات في مشروع عبد اللطيف محفوظ السيميائي» الاقتراب من مشروع طموح راهن من خلاله عبد اللطيف محفوظ على الإسهام النوعي، سواء على مستوى التثقيف أم على مستوى الطرح أم على مستوى التطبيق. وقد شكل كتاب عبد اللطيف محفوظ الأول «وظيفة الوصف في الرواية» نصا نقديا واعدا يحمل في طياته رؤية نسقية حظيت بتأطير محمد برادة الناقد والأديب، الذي كانت له بصمته الواضحة على جيل عبد اللطيف محفوظ برمته. وفي بداية الألفية الثالثة سيدشن مرحلة جديدة في البحث السيميائي في دراسته لتجربة نجيب محفوظ السردية، وضمن عمل أكاديمي بتوجيه من محمد مفتاح بعنوان «آليات إنتاج النص الروائي- تجربة نجيب محفوظ نموذجا». ومن هذه البحوث تفرعت دراسات عديدة يمكن إجمالها في: وظيفة الوصف في الرواية؛ البناء والدلالة في الرواية؛ صيغ التمظهر الروائي؛ المعنى وفرضيات الإنتاج؛ سيميائيات التظهير؛ وآليات إنتاج النص (نحو تصور سيميائي). ويؤكد أحمد يوسف في مقدمة هذا الكتاب أن الأعمال سالفة الذكر انبثقت ضمن سياق تثاقفي تفاعلت فيه تيارات نقدية كبرى، منها: البنيوية والشعريات والسيميائيات والسرديات والتداوليات. وهذا التدرج طبيعي ينم عن وعي منهجي بالأسس الإبستيمولوجية والفلسفية لهذه النظريات النقدية وشروطها السوسيوثقافية التي تجمعها رؤية نسقية تؤمن بضرورة التركيب لاستيعاب آليات الإنتاج النصي. ومن اللافت أن عبد اللطيف محفوظ أدرك منذ الابتداء أن الوصول إلى المعنى وآليات الإنتاج النصي يقتضي الوعي المسبق بإكراهات النظريات النقدية ومسألة التركيب بين المكونات المنهجية المختلفة؛ ولهذا لم يبق سجين اتجاه سيميائي بعينه؛ ولم تستهوه السيميائيات السردية على أهمية مسعاها، وإنما يمم وجهه قِبَل المدرسة السيميائية الأمريكية، ووجد في التأويل البورسي تخلصًا حسنًا من التطبيق «الميكانيكي» للسيميائيات السردية التي ذاعت في الساحة النقدية العربية، وكان لها أشياع كثر.
لقد وجد عبد اللطيف ضالته في ثراء فلسفة بورس ومنوالها السيميائي ونزوعها التأويلي للتخلص من شكلانية مدرسة باريس وصورنتها البنيوية التي لا تؤمن بتعدد المعنى، ولا تولي أهمية للمرجع. ومن الواضح أن محفوظ لم يتخلص من اتجاه لينتقل إلى سجن اتجاه آخر؛ وإنما ظل مخلصا للسرديات؛ ولكنه كان يغير الآليات في تحليله للنصوص السردية محتفظا بمساءلته لمكوناتها الأيديولوجية وأنساقها الرمزية؛ وبذلك يكون محفوظ واعيًا باختياراته المنهجية ورؤيته النقدية. وهو على هذا النحو انتقل من سيميائيات الدليل إلى سيميائيات الخطاب تعميما والروائي تخصيصا لمدارسة الإيديولوجيا والأحاسيس التي ستنتبه إليها سيميائيات الأهواء. كما أنه أفاد من السيميائيات النصية في وقوفه على مستويات النص النحوية والتفاعلية والحجاجية في صورها البلاغية. لم يكتف محفوظ بتمثل الخلفيات المعرفية للنظرية السيميائية تمثلا حسنا؛ وإنما طفق يجترح لنفسه مفاتيح جديدة في فهم النصوص وتحليلها كما نقف على ذلك في عالم نجيب محفوظ السردي، فكانت سيميائيات التظهير لديه تتغيا البحث في الدلالة بوصفها نتاج نشاط إنساني واع بتعدد التجارب وغناها. وهذا التعدد حامل للممكنات التي تستدعي الكفاية التأويلية التي تعي أبعاد الدلالة ومناحيها المختلفة وأنساقها الرمزية. إن فقه التعدد الدلالي ساعد محفوظً على عدم الاحتفاظ بمفتاح سيميائي وحيد، والوقوع في أسر نظرية بعينها من أجل الوقوف على السيرورات المتحكمة في إنتاج المعنى.
«قرشال» أحمد حجوبي
أحمد حجوبي تشكيلي مغربي من مواليد كرسيف، خريج المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان، التحق بالعمل كمصمم كرافيكي مباشرة بعد تخرجه، وفضل الاشتغال بإحدى أكبر الوكالات الإشهارية بالدار البيضاء، بعدما كان ينوي إكمال دراسته بالمدرسة الفنية بمالقة بإسبانيا، فنان أفرزته الموجة الجديدة للفن المعاصر، فتوجه إلى جانب اهتمامه باللوحة بمفهومها التقليدي إلى الاشتغال على التجهيزات والتنصيبات، مما كان له أثر قوي على تجربته التشكيلية برمتها، فأصبح يدمج عناصر مختلفة وغريبة في عمله، من بينها ما يسمى بالعامية «القرشال»، الذي كان يستعمل في مشط القطن بطريقة يدوية، فكانت هذه العملية، حسب تصريحه، انطلاقة أساسية وبداية لكل ما راكمه من إنتاجات فنية إلى حدود الآن.
إن الحكاية التي ارتبطت بتجربته الإبداعية منذ البداية لها علاقة بطفولته حين كان صبيا تحمله أمه على ظهرها أثناء قضاء مآربها المنزلية، لكن هذه العملية أصبحت متعبة للأم، خاصة عند بلوغه سن الرابعة، مما كان سببا في البحث عن طريقة لإنهاء هذه العملية، وهو ما يسمى في الثقافة المغربية ب»الفطيم»، فاقترحت بعض صديقات الأم بأن تضع على ظهرها «قرشالا» بالمقلوب قبل أن تحمل ابنها، فكان هذا «القرشال» يخز بطن الطفل حين تحمله أمه على ظهرها، فأصبح يعترض على ركوب ظهر أمه، نتيجة الألم الذي كان يسببه له «القرشال». انطلقت تجربة أحمد حجوبي من الجزء إلى الكل، بطريقة بنيوية تركيبية، حاول من خلالها إعادة صياغة مفهوم الأشياء بصريا وجماليا، والانتقال بهذه الأشياء من وظيفتها الاستعمالية المباشرة إلى فضاء ثقافي وفني كوسيلة للتواصل على المستوى الفكري، لما تشكله من أهمية مفاهيمية مرتبطة بالذاكرة الجماعية، ومن بينها «القرشال»، الذي ترك بصمة واضحة في ذهن الفنان أحمد حجوبي، نظرا لحضوره وتكراره في جل أعماله واختلاف مشاهدته حسب نوعية العناصر المحيطة باللوحة. وعن هذا النوع من الاهتمام قال الباحث والروائي يوسف وهبون: «لازال القطن عالقا في مخالب بعض إطارات «القرشال»، وهذا التذكير بوظيفته الاستعمالية تحول إلى اختراع شاعري عالق باللوحة بطريقة هندسية متميزة…». بينما اعتبر الناقد الفرنسي فرنسوا كليمون أن «الشكل في عمل حجوبي أداة يمثلها إطار «القرشال» بطريقة تكرارية ضمن تكوينات مستطيلة، والتي تم طبعها على مواد مختلفة…، بمثابة بصمة سحرية ناتجة عن فعل تقني». إن اهتمام أحمد حجوبي بهذه الأداة هو في عمقه اعتراف بأهمية ارتباطه بجدته ووالدته، وبجذوره ومحيطه، مما ضمن له استمرارية تاريخية تحولت إلى حكاية طريفة لازال بعض الأقارب يرددونها في حضوره. هذه الحكاية التي تحيل على فترة معينة من تاريخ المغرب العتيق وعاداته وتقاليده، حيث كانت الجدة هي الملهمة الحقيقية لأحمد حجوبي، ومن ثم انطلق للاشتغال على هذه الأيقونة الحرفية التقليدية، فاتخذ من «القرشال» محورا تحيط به كل العناصر الدخيلة على التكوين الإجمالي للعمل، كمفردات سردية تستجيب للفكرة الرئيسية التي اتخذ منها الفنان مرجعا مشهديا يحفر في الذاكرة ويحاول أن يجسد ويؤرخ لشذرات من الحياة والمحيط المعيش، الذي بقي عالقا في ذهنه كطفل، فكانت هذه الأيقونة الخيط الرابط باسترسالية موضوعية جعلت من عمله مشروعا فنيا أصيلا قائما بذاته، ومادة خصبة منفتحة على تأويلات إبداعية متشعبة في اتجاه إمكانيات البحث برؤية وأبعاد جمالية.
«عيون المنفى» لعبد الحميد البجوقي
هل صحيح أننا حينما نفتقد حباً نكتب قصيدة، وعندما نفتقد وطناً نكتب رواية؟ وهل صحيح ما ذهب إليه إدوار سعيد بأن المنفيين الكبار عبر التاريخ هم الذين أوقدوا شرارة الأمل في نفوس شعوبهم، وألهموها فكرة الحرية وقادوها إلى شواطئ الأمان؟ بهذين السؤالين أردت أن أستهل مقاربة رواية البجوقي. الحديث عن التجربة الروائية لعبد الحميد البجوقي يستلزم حذرا خاصا، ذلك ما تستوجبه نظرية التلقي بالعمق النظري الذي صاغ فيه إيزر أهم تضاريسها النظرية، إنه يرشدنا للانتباه لكل ما يساعد على الاقتراب من النص ويساهم في تفكيك دلالاته، فكاتبنا ليست الرواية هي مبتغاه الإبداعي فقط، بل كاتب انخرط في كتابة نوعية تكشف وتعلن ولاءها السياسي والإيديولوجي دون مواربة أو تقية، كتابة تنشد الديمقراطية وحقوق الإنسان وتدافع عن القيم الكونية النبيلة. إن مؤلفات من قبيل: «رأي في زمن الاختلاف»، و»الانتقال السياسي في المغرب»، و»من الحركة الوطنية إلى الحركة الديمقراطية»، و»الملكية والأحزاب السياسية بالمغرب»، كلها عناوين تجعل الاقتراب من التجربة الروائية لعبد الحميد البجوقي مسيجة بأسئلة عميقة، أبرزها: ماذا يمكن أن تضيف الرواية لهذا الثراء الفكري؟ وأية لذة نصية، بلغة رولان بارت، كان يبحث عنها البجوقي وهو يخوض في هذا الجنس الأدبي..؟ تحيط بأدب المنفى مجاورات لغوية تشاركه المعنى والدلالة من قبيل أدب المهجر وأدب الاغتراب، غير أن هناك حدودا دلالية ممكنة وقائمة باعتبار المنفى «اتجاه» قسري يلجأ إليه الأديب، خارج إرادته، للفرار من سلطة قمعية تطارده وتريد به الشر. وفي المعاجم العربية، ومنها لسان العرب، أن النفي هو إخراج الإنسان من بلدة وطردُه، وارتبط المعنى بدلالة أخلاقية المقصود منها (الزاني والمخنث). ويورد ابن منظور أن النبي أمر بنفي رجلين اسمهما هيت وماتع، وكانا مخنثين، خارج المدينة. على مستوى نظرية الأدب، ونظرية الأجناس الأدبية، يصعب الحديث عن جنس أدبي يصنف تحت اسم أدب المنفى لاعتبارات تكوينية وتجنيسية تجعله يتداخل مع أجناس أخرى كأدب المقاومة وأدب السجون وأدب الرحلة أو بعض الكتابات الأدبية عامة بتفريعاتها المتعددة، شعرية أو نثرية مسرحية أو قصصية… ولعل المحدد الضابط لهذه الكتابة الإبداعية هو الإقامة الجديدة بعيدا عن الوطن وفي وضعية غير طبيعية محكومة بالخوف والترقي والتردد… عيون المنفى «المورو» خايمي.. رواية المنفى السياسي الذي اضطر إليه سعيد أو بالأحرى الذي فر إليه هاربا ولاجئا بعد انتفاضة 1984، وبذلك فإن الرواية تبعد كل التباس قد يجعل المنفى مرادفا لما يعيشه المهاجرون من معاناة عنصرية من أجل التأقلم مع الأوضاع الجديدة، أو معاناة اقتصادية بسبب البحث عن مصدر رزق ركبوا من أجله الأهوال والمخاطر. رواية خفيفة الظل بحيث لا يتجاوز عدد صفحاتها المائة، مكونة من 21 فصلا ومن منشورات ملتقى الطرق سنة 2013. «عيون المنفى « المورو خايمي رواية منفى، تكون فيها إسبانيا فضاء استقبال، فضاء مفروضا وليس مرغوبا، ملاذا من جحيم المطاردات البوليسية التي كانت تتربص بسعيد بعد انتفاضة 1984، وقد يشكل عنوانها التباسا لمن لا يعرفون الإسبانية، فالمورو هو المغربي، وخايمي هو محمد، اسم يطلق على كل مغربي تعذر النطق باسمه صحيحا…..ولكن كيف يصوغ عبد الحميد البجوقي محكيه الاستعادي الذي يحاول من خلاله إعادة بناء واقع المنفى وظروفه وحيثياته؟
لا تقدم الرواية ميثاقا سرديا ……ترهن به نفسها للمطابقة التاريخية، بل تجعل من التخييل الذاتي المنسجم مع وقائع حقيقية عاشها الكاتب، وعاشها معه المغاربة، واستوطنت ذاكرته، منطلقا لانسياب الحكي، لذلك ابتعدت الرواية عن ضمير المتكلم وعوضته بضمير الغائب وكأنها تستجيب لدعوة فيكتور هيغو في مقدمته الشهيرة ل«تأملات»contemplations بأننا نتذمر أحيانا من الكتاب الذين يقولون أنا. الكتابة هنا تقهر الزمن وتروضه ليصبح زمنا إنسانيا بعدما كان زمن اللهاث والهرب والفرار، زمن البوليس السري والعلني الذي يقتفي الآثار ويقتحم المنازل ويستنطق الأسرة والأصدقاء، لذلك فدورة الزمن محبوكة بالتجاوز المؤسِس لحياة جديدة تنفتح فيها الذات على الحياة في بعدها الإنساني الذي يعانق صداقات المهاجرين. لذلك فالبناء العام لروايات المنفى يتحدد إجمالا بالفصل بين زمنين:
زمن ماقبل المنفى: وهو الزمن الذي كان فيه سعيد، بطل الرواية، طالبا جامعيا يمارس نشاطا سياسيا ليس محظورا، ومنخرطا في شبيبته، يحلم كغيره من المغاربة بمغرب الحريات والديمقراطية والعيش الكريم، غير أن انتفاضة 1984 ستجعل منه مبحوثا عنه وتقذف به للهرب واللجوء إلى إسبانيا، ليحكم عليه غيابيا بثلاثين سنة سجنا. زمن الماقبل تتغير فيه الفضاءات ما بين تطوان والرباط والبيضاء، هو زمن التكوين السياسي من خلال النقاشات الساخنة التي عرفتها المرحلة، نقاشات عن دور اليسار الجذري وعن الصراع الطبقي ودور البروليتاريا…
زمن المنفى: وهو زمن متحول وغير قار، وقد استطاع فيه سعيد الانتقال من وضعية لاجئ يصطف في طابور لأخذ المساعدة التي تمنح للاجئين إلى فاعل جمعوي بمشاركته، أولا، في تنظيم ندوة بمناسبة الذكرى الثانية لانتفاضة 1984، ومساهمته في اللجنة التحضيرية لجمعية المهاجرين المغاربة. زمن المنفى لا تحكمه الرتابة والملل، زمن متحرك نحو الأمام ينخرط فيه سعيد لاستكمال دراسته في كلية العلوم السياسية، ويبادر أيضا إلى الانخراط في الدورة الاقتصادية بفتح حانة بقرية موسطولص ضمن برنامج دعم مشاريع اللاجئين، وقد عرفت رواجا وإقبالا مثيرا.
زمن المنفى هو زمن الحب والتوهج العاطفي بين سعيد وإيصابيل، وقد جسدته الرواية بشغف جميل وشفاف حيث إيصابيل تشارك سعيد الحياة بكل تفاصيلها، حتى وإن كانت النهاية بين الاثنين غير مستساغة روائيا. إن رواية المنفى تعيد تجديد الحياة في الزمن، وكل استعادة واستذكار هي من قبيل الإدانة والاستنكار للواقع المفتعلِ بحركية مضادة للتاريخ، مضادة للتقدم، مضادة لحقوق الإنسان…لذلك فالرواية لم ترصد كرونولوجيا حياة سعيد، ولم تدقق في تفاصيل خاصة به، من قبيل حياته داخل الأسرة وما يحيط بذلك من تبعات، بقدر ما تم تبئير المعطيات السياسية الراصدة لتعثر الديمقراطية كاستحضار خطاب الحسن الثاني الشهير بعد انتفاضة 1984 وما تبعه من اعتقالات وشطط في استعمال القوة والنفوذ.
إن روايات المنفى لا يمكن أن تتشابه، فكل تجربة محكية هي استثنائية بالشروط التي فرضت المنفى، واستثنائية بتميز المنفي وقدرته على بناء ذاته بما يتلاءم مع المعطيات الفكرية والإيديولوجية التي من أجلها تعرض للنفي، ومعنى ذلك أن الهوية النضالية للمنفي يصعب التنازل عنها أو إسقاطها أو تبديلها،إنها هي التي تحمي ذاكرته من ألزهايمر متربص يريد طمس حقائق التاريخ أو تزويرها، وهنا تصبح كتابة المنفي ذلك الإشهاد والتوثيق ضد النسيان وضد التاريخ الرسمي. مساهمة في بناء الذاكرة الجماعية المشتركة، كمقوم من مقومات الأمة، الذي يجب أن تتضافر الجهود لملء كل البياضات الشاغرة فيها. عيون المنفى هي تأشيرة نحو الحرية والتحرر، ينحاز فيها سعيد إلى تطهير ذاته والتنفيس عن آلامه بتشييد العوالم المليئة بتعدد اللغات والأصوات والمحكيات، وبتنوع الخطابات والنماذج والأشكال داخل الفضاء الأدبي ليعيد الحياة لزمن انقضى واقعه، لكنه لا زال رابضا في الذاكرة من خلال كوابيس مزعجة. عيون المنفى كتابة الصفح الجميل، والصفح مقوم لبشاعة العالم، كما يقول إدغار موران، هو توجه يخدم الذاكرة ويقويها، ألم يصرح نيلسون مانديلا جاهرا: «نعم للصفح، لا للنسيان».
شارع الغريب
هبت ريحها من جديد، منذ عقود لم تهبْ، فركب الألم، وانطلق يشق أرصفة الضياع، كانت رايات الخريف ترفرف، والأشجار تخلع ملابسها، والأرض تئن تحت وطأة العراء، وظل الصمت يدوي. مرَّ بجانب النهر، وكان يغلق أبوابه، عرَّج على ضيعة التفاح، وكانت تغط في نوم عميق، شاهد، من نافذة الألم، ساعي البريد، وكانت حقيبته فارغة، تجاوز جماجم الأيام، وشوارع الذكريات، ثم طرق بابها، فوجدها موصدة، والجدران تنطق، ولا يسمعها، وكان صدأ الوحشة يلمع، وعناكب الفراغ ترقص، وقرأ غياب الماء والكهرباء، ظل يطرق، ولم تُسمع طرقاته، ويهتف، ولا يجيبه أحد، فقفل عائدا يركب نفس الصهوة. سار في شارع الغريب، فاستوقفته امرأة، وأخذت تتجول في لحيته الطويلة، وشعر رأسه الأبيض، ثم قالت: لقد رحَلتْ..، فسأل: إلى أين؟ اختبأت خلف صمت رهيب، فأخذ يتوسل، ويترجى هطول كلماتها، قاومت إلحاحه طويلا، لكنها لانت في الأخير، وقالت: اذهب الآن، وعد غدا، أرجو أن تجيء باكرا، وتكون مسلحا بالصبر، زاهدا في السؤال، غدا نلتقي هنا، وننطلق إلى حيث تقيم. طأطأ رأسه، وتزود بماء الصبر، وامتطى راحلة ذكراها، وهام في صحراء الشارع. كانت سيوف السنين تلمع، ورياح الكتب تزمجر، وأمجاد التاريخ تهطل، وكانت أغمات كئيبة، ومراكش تعتلي عرش العزة، وإشبيلية هيهات هيهات.. نفد ماء صبره، وتلبد صدره بالسحب، وهطلت عيناه وتساءل: «أينك سيدتي؟! ها أنا عدت، فأين الموعد؟! حين أرحل تعودين، وحين أعود ترحلين..! لم نشعل نار الخصام، وخاصمتنا الأيام، فأرغمنا على ركوب السفن، تركنا العُدوة، وعبرنا إلى الأخرى، وبين العُدوتين موج أبيض، وشعر، وتاريخ، وأشواق، وفتاوى لا ترحم.. تراكمت العقود، وأغلقت كتب، وفتحت أخرى، وذهبت عهود، وحلت عهود، أزيحت مدن، وعوضتها مدن، ضعف الأقوياء، وتقوى الضعفاء، ونمت أنا في القبر الغريب طويلا، وحين استفقت هبَّت علي ريحك من جديد، فانطلقت أقرأ إشارات الطريق، وأبحث عن خرائط المدن، أغمات ماتت، ومراكش صارت قبلة للغواية، وإشبيلية خلعت ألوانا، ولبست أخرى، وأنا عدتُ لأسير في شارع الغريب، وأبحث عنك..». جاءت المرأة تلبس الأسود، أومأت له بالمسير، فسار خلفها، يجر تاريخا حافلا بالمجد والألم..، عبس الشارع في وجهه، وابتسمت أشجاره، صفعته صفحات، وشمله عطف كتب، ظلا يسيران وسط رياح جافة، وعلى ضفاف قاحلة، وقرب أنهار أضربت عن الجريان، ظلت المرأة ثابتة الخطوات، والغريب يتمايل، لكنه يواصل المسير خلفها، طرقا أبواب طنجة، ومكناسة وحتى أغمات..، وفتحا كتب إشبيلية والنهر العظيم، وابن تاشفين، وابن عمار، فلا المدن فتحت الأبواب، ولا النهر عاود العزف على آلات الخرير، ولا السجان جاد بالأسرار، ولا القتيل نظر إلى القاتل الأسير.. ظل الشارع يعرض صورا غزيرة من البرَّيْن، اختلطت الأيام بالأيام، وطفت على السطح صفحات كثيرة، مختلفة الألوان والأحوال، امتزجت المتعة بالألم، والغنى بالفقر، والألفة بالغربة، والعزة بالمذلة، والنصر بالهزيمة..، ووقفت العُدوتان تتبادلان الأشعار والأشجان، وتجلت للغريب ملهمته، فبكى وصاح، وركب الإلهام، وحلق في فضاءات الشعر.. ظلا يسيران، ويقلبان صفحات الشارع الطويل، وفي لحظة، استوقف الغريب المرأة، وراحت دموعه تتجول في يوم الكائنة العظمى، ويتجرع الجريح مرارة السقوط، والجزع، والهلع، والقتل، والعويل، وركوب السفين، فبكى، وبكى، نصحته المرأة بالصبر، لكنه صمم على البكاء، وظلت دموعه تغسل نضارة اعتماد، والذي سُجن، وأخاه الذي قُتل غيلة، والبنات وهن يغزلن الصوف..
طال الوقوف، فعادت المرأة ترجوه أن يكف عن البكاء، ويستأنف المسير. كانت شمس الشارع حارقة، وكان ماؤه قليلا، لكن أشجاره مخضرة، وأغصانها تثقلها ثمار متعددة الألوان والأشكال. ظلت السماء تزهو بصفائها، والفصول تلبس نفس الألوان، والألسن حيناً تتكلم لغة الصمت، وحيناً تصول، وتجول في مناطق الكلام. نال التعب من الرجل قبل المرأة، لكنه واصل المسير، قَلَّ الزاد، وأنهكت القوى، وتثاقلت الخطوات، وجفت العيون، وساد الصمت، وتضاءل الأمل، وتقوى الشك، واتسعت الحيرة، وهاجت أسئلة الضياع، ثم توجه الغريب إلى المرأة : إلى أين سيدتي؟! لقد طال المسير، ويبدو أننا على وشك إنهاء الشارع، ولم نصلْ بعد إلى المقام المقصود..! بدت المرأة حائرة، لكنها طالبته بمواصلة المسير، نفد الزاد، واشتعل العطش، وعصف الشارع غاضبا، انفتحت كل الكتب، حضرت كل المدن، أحرقت السفن، رحل البحر، تعانقت العُدوتان، حضرت البنات والأبناء، ووصل الخلان، تاه الغريب في تضاريس الحضور، ثم لاح طيف اعتماد، وفاح عطرها، فرآها تجري نحوه، ذهب الوهن، فجرى بدوره، وذابا في عناق ساحر، لوَّنَتْهُ أمطار غزيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.