يحكي السجين يوسف الحلوي في هذه السلسلة التي بعث بها إلى «المساء» من داخل السجن، كيف وجد نفسه فجأة يعذب ب«الطيارة» و«الشيفون» قبل أن يودع السجن بتهمة يقول إنه لا علاقة له بها، حيث أدين يوسف (27عاما) بسنتين سجنا بتهمة «تزوير العملة»، لتنضاف إلى سجله سنتان أخريان بتهمة «محاولة الفرار من السجن». تفاصيل أخرى كثيرة يتناولها يوسف في هذه الزاوية على شكل حلقات: قاعة الزيارة مكان يلتقي فيه السجين بأهله وخلانه ممن سمحت أريحية الحراس بولوجهم لقلعة الشر... صغيرة لكنها دنيا من الآمال والآلام.. لا تتجاوز مدة الزيارة عادة عشرين دقيقة.. بالنسبة لي، كانت كفيلة بانتشالي من دوامة الكآبة التي تلفني طوال الوقت.. أنتظر الزيارة بفارغ الصبر لأنعم قليلا بالحديث إلى أسرتي عن كثب، فأحس كأنني أغادر السجن، وانفصل زمنا عن همومي، لا ينتزعني من هذه الأحلام الجميلة غير صوت صافرة الحراس وأوامره الخشنة بالعودة إلى إصطبلاتنا، والويل لمن لم يمتثل.. ومن عجب أن أجمل اللحظات التي يعيشها السجين في سجنه، هي عينها الجحيم الذي يصلاه ذووه.. لم يكن الوقوف في صف الزيارة الطويل أمرا هينا، فقد يقف الزائر فيه لمدة ساعتين متواصلتين يتعرض فيهما لأبشع أنواع الإهانات.. وإذا كانت الزائرة أنثى دون مرافق فهي بين أن تذعن لشذوذ بعض الحراس وبين التعرض للمعاملة السيئة.. في مرات عديدة رأيتهم يسوقون المتمردين على طغيانهم نحو الداخل، وغالبا ما يتعرضون للصفع والركل أمام باب الإدارة قبل أن تخلى سبيلهم، دون أن يظفروا بزيارة أقربائهم، فمن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.. وقبل أن يغادروا يذكرهم الجلادون بألا ينسوا التوجه للوكيل العام لتقديم شكاية في الموضوع بنبرة لا تخلو من تهكم، إذ يعلمون علم اليقين أن يد القانون لن تطالهم... كان الجلادون يقفون في مواجهة الزوار يوجهون الشتائم، والويل لمن يجرأ على رفض شتائمهم السامية.. هذا الأسلوب في التعامل مع الزوار كان وسيلة للضغط عليهم من أجل تقديم الرشاوى لتأمين ولوج سريع للقاعة واتقاء للأذى... أمام البوابة السوداء، وحدهم ذوو المال والنفوذ من لهم الحق في المعاملة كآدميين، وغيرهم بهائم لا تصلح لغير الجلد بالسياط وبالألسنة الحداد، ومن لم ترضه هذه القاعدة، فأمامه سور سميك يستطيع نطحه برأسه بكامل الحرية، كلما اشتاق لرؤية قريب أسير، تعبيرا عن رفضه للظلم والهوان. زمن الزيارة زمن عجيب غريب تمتزج فيه الآهات بالضحكات.. وجوه عابسة وأخرى مستبشرة.. صغار وشيوخ وأمهات وأبناء، خليط متنافر من البشر.. صور تسكن الوجدان للأبد، لعذاب بلا عنوان.. جراثيم تتجول هنا وهناك بحثا عن فتاة أو امرأة من الزائرات مستعدة لدفع عرضها ثمنا لتخليص ابن أو أب أو زوج من ذل العنبر والفسحة.. يسمونها «الأباطرة»، تنسى المسكينة أنها تخلص قريبها من ذل عابر لتشم على جسده ذلا لا تبليه أيادي الدهر مهما طالت.. وكل زيارة قصة تقصر العبارة عن وصف معانيها.. علمتني الزيارة أن أكون أنانيا، أن أدير ظهري لكل ما من شأنه أن يعكر صفو لقائي بأهلي.. حتى عندما رأيت الحارس يلطم تلك الأم أمام ولدها، استدرت وواصلت طريقي.. في كل مرة أرى الكثير من هذه الحوادث.. سقطت الأم أرضا وهي تبكي، ملامحها تنطق بالمرارة.. لم تتوقف عن لوم ولدها لأنه فعل ما يوجب اعتقاله.. قالت إنها اقترضت من جارتها مبلغ مائة درهم لتزوره.. قطعت المسافة بين باب الفتوح وعين قادوس راجلة.. وانتظرت أمام الباب السوداء.. وفي الداخل صفعها الحارس بقوة.. صفعها.. أسقطها أرضا.. فررت من منظر الأم الباكية نحو الطاولة التي تحلق حولها زوج أختي وأختي وولداهما اللذان ولدا بعد دخولي للسجن، لم أكن قد رأيتهما من قبل. أحسست بقلبي يخفق بشدة وأنا أقترب منهم... أسماء تذرع القاعة جيئة وذهابا، لم أنتبه لوجودها إلى أن أشارت إليها أختي بسبابتها.. لم أحس بانقضاء الوقت، داعبت «أنوس» قليلا.. وما هي إلا هنيهة حتى أعلن الحارس نهاية الزيارة.. تقدمت منه طالبا السماح لي بتكرار الزيارة كما يفعل العشرات ممن يقدمون طلباتهم معززة بالأوراق الزرقاء والحمراء والخضراء، لكنه رفض.. أحسست بالدم يغلي في عروقي، لا يمكن أن أحرم من هذا الحق البسيط وغيري يستقبل الغواني في مكتب المدير.. شتمتهم فأخرجوني من قاعة الزيارة، لم أتوقف لحظة عن الصياح.. وأخيرا تراجعوا مخافة أن يصل صوتي إلى المدير فيكتشف أنهم يرتشون دون أداء «الرسوم المديرية»... عدت إلى «أنوس» فرحا مستبشرا وواصلت مداعبته.. إذا تكبر يا «أنوس».. لا تصدق أن الناس سواسية كأسنان المشط.. لا تصدق أن القانون يعلو ولا يعلى عليه.. وضع نُصب عينيك أن قيمة الإنسان في بلادنا تناسب حجم جيبه.. غدا تكبر يا حبيبي ويكبر بدر وأسماء ومحمد و.. ستفهمون عندها لماذا صفع الحارس الأم بقوة..