عرت الأحداث الأخيرة التي لا زالت مدينة جرادة تعيش على إيقاعها منذ مقتل "شهيدي الفحم" الجمعة الماضية، عن واقع إنساني واقتصادي صعب، يعيش تحت وطأته أهالي المدينة، على رأسها، كشف حجم اتساع مرض ينخر أجساد جزء كبير منهم، حيث يقدر عدد المصابين به ب2000 شخص على الأقل. عندما ووريت جثث "شهيدي الفحم" الثرى في مقبرة المدينة، مر المشيعون من أمام قبور، شواهد أغلبها، تحمل تواريخ ميلاد أموات، قضوا نحبهم قبل أن تتجاوز أعمارهم الستين سنة، في مدينة يتدخل فيها "السيليكوز" لوقف أعمار أهلها، لتصبح بلدة لا يعمر فيها المسنون، وتنتهي حياة أهلها نهايات متشابهة، على فراش سرير في المستشفى، أو على كاهل أسرة، يسعى أهلها ليل نهار لتوفير مصاريف الأوكسيجين. السيليكوز .. مرض موت البطيء لشهب الحسين، من بين المسنين القلائل الذين لا زال لهم حمل على الحديث، عمره 71 سنة، ومثله مثل كل رجال المدينة، ممن أمضوا سنوات عمرهم عمالا في مناجم الفحم، وجد نفسه طريح الفراش مصابا بالسيليكوز، غير قادر على الحركة لسنوات. يحكي بتأثر كبير لل "اليوم24″، كيف يعيش أياما يدرك أنها باتت الأخيرة في حياته، على فراش سرير بيته، وأمامه قنينة الأوكسيجين، ويقول أنه إذا توقف عنه الأوكسيجين الاصطناعي، سيتوقف عمره. عندما يحكي لشهب وأهله معاناتهم مع المرض، وصعوبة تكفلهم بالمريض، وتوفير كل الإمكانات المادية له، تدمع أعين الرجال المحيطين به، ممن يرون فيه أنفسهم مستقبلا، لأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، وكل عامل في مناجم الفحم الحجري، ينهي حياته ممددا على سرير في مستشفى المدينة. أرامل "السليكوز" يطبعن المدينة في مدينة بنيت أساسا لإيواء عمال مناجم الفحم الحجري، يعتبر التنقيب أهم نشاط اقتصادي لساكنتها، وبالنظر للآثار الصحية التي يخلفها هذا العمل. في مناجم الفحم المحيطة بالمدينة، لا يتجه الرجال فقط لضمان لقمة عيش أضحت صعبة المنال منذ إقفال أهم مناجم المدينة قبل 17 سنة، بل تتوجه إليها النسوة كذلك، من الأرامل اللواتي أنهكتهن الفاقة والحاجة وضيق اليد، وتآمر عليهن الزمن واحتياجات الأبناء وغياب تعويضات تغنيهن عن السؤال. السيليكوز .. مرض يوحد مصير الأهالي العشرات من المرضى، بل المئات توفوا بالطريقة نفسها، فالذي يملك موردا آخر غير ما يمنح له في إطار التعويض عن المرض المهني، قد يمدد في عمره سنتين أو ثلاث، ومن لا يستطيع، كما هو الحال بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة لهؤلاء العمال، فالموت أقرب إليهم من أي شيء آخر. "هذا المرض لا دواء له، لكن يمكن التخفيف من حدته بالاهتمام الفائق، على المريض أن يتغذى جيدا وأن يقي نفسه من الظروف المناخية القاسية سواء شتاء أو صيفا، وهذا طبعا يحتاج إلى مصاريف إضافية، والناس هنا كما ترى مطحونون تحت الأرض وفوقها"، يقول عامل لم يمهل المرض زميلا له سوى بضعة سنين قبل أن ينال منه منذ أسبوعين فقط. العلاج المستحيل ! رغم أن المستشفى الإقليمي الذي انتظره أهالي المدينة لسنوات طويلة رأى النور مؤخرا، بجناح متخصص في مرض السيليكوز، إلا أن رحلة العلاج عصيبة جدا. ففي ظل ارتفاع نسب الفقر في المدينة، لا زال الأهالي يجدون صعوبة في نقل مصابيهم للعلاج في مستشفى المدينة، والتكفل بكل متطلباتهم الطبية، والتفرغ لمصاحبتهم في رحلة التطبيب تدوم لسنوات الكهولة كلها، حيث أن عددا من المرضى يمضون ما بين السنة والثلاث سنوات في المستشفى قبل الوفاة، في ظل استحالة العلاج النهائي من المرض. معاناة رحلة العلاج لا تمس المرضى وذويهم فقط، بل تتجاوزهم لتمس الأطباء كذلك، إذ أن انقطاع التيار الكهربائي عن المستشفى، يحول أجساد المرضى للون الأسود، ويؤدي لاختناقهم، بسبب توقف آلات الأوكسيجين. ويحكي الأطباء في شهادات مؤثرة، كيف شاهدوا مرضى يموتون أمام أعينهم ، إما بأجل دنى منهم، أو بسبب غياب الأوكسيجين وتأخر نقلهم لمستشفى آخر، أو لحالات ماتت بقصر ذات اليد، وعدم القدرة على توفير أدوية يجب أن تلازم كل مريض بالسيليكوز.