يعتبر الباحث في الثقافة الأمازيغية، الدكتور عمر أمرير، اختيار الكتابة عن السوسيين في الدارالبيضاء، ليس «نزعة» تحصر العصامية في المنحدرين منه، وتنفيها عن غيرهم من إخوانهم في كل ربوع المغرب.قصة هذا الكتاب كما يرويها الباحث أمرير، هي تحفيز لذاكرته في الدارالبيضاء على امتداد حوالي 40 سنة من مسار حياته فيها. منذ زمن طفولته، حيث سافر به والده – رحمه الله- من سوس، للدراسة فيها،عندما بدأ والده ممارسة التجارة مع شقيقه.منذ ذلك الزمن وإلى اليوم، سيجد الدكتور عمر أمرير في موضوع الكتابة أن من بين ما سجله شريط ذكرياته، أسماء لسوسيين مسلمين ويهود، انطلقوا من الصفر في ميادينهم، معتمدين على إمكانياتهم الذاتية، ومواهبهم الشخصية. وبلغوا أوج تفوقهم في حياتهم بتجارب إنسانية عميقة. بتوالي الأيام، سيلاحظ السيد برادة أن رواج المتجر يتضاعف بإيقاع عجيب، وأن الأرباح ترتفع بشكل كبير، لدرجة أن أنواعا من الأثواب التي تركها كاسدة، نفذت بعده من المتجر. بحدس تجاري يسرع الحاج برادة بإرسال أنواع السلع التي يخبره بوفتاس بحاجة المتجر إليها من فاس، ريثما ينهي المشاغل التي أرغمته على إطالة مدة غيابه. زاد ازدهار رواج المتجر بشكل غير مسبوق، مما جعل صاحبه المسافر يزيد اطمئنانا على محله، وطال به المقام حتى تجاوز أربعة أشهر، يكتفي خلالها ببعث السلع. بعد تلك الشهور عاد الحاج برادة من فاس إلى الدارالبيضاء، ليفاجأ بما آل إليه متجره من حسن التنظيم، وجودة العرض وكثرة الزبناء. علاوة على ذلك، أعجب بالجرد الدقيق الذي قدم به الشاب بوبكر جميع العمليات الحسابية يوما بيوم لمائة وعشرين يوما تولى أمر الصندوق، ولا حظ أن صاحبه ما كان ينفق إلا للضرورة، فلا إسراف ولا تبذير. وكانت المفاجأة الكبرى هي ضخامة صافي الأرباح التي وضعها بوفتاس أمام الحاج برادة، الذي بدت على ملامح وجهه علامات المفاجأة السارة بما يسمع ويرى. وبمجرد ما تسلم أرباح الأشهر الأربعة كاملة، وكانت أضعافا مضاعفة لما تصوره. رد الجميل بأحسن منه حيث قام بما يلي: أولا: دفع لبوفتاس الأجرة السخية التي وعده بها، عن مائة وعشرين يوما التي قضاها في المتجر. ثانيا: قسم الأرباح مناصفة وسلم نصفها لبوفتاس علاوة على الأجرة السابقة. ثالثا: ترك المتجر من جديد لبوفتاس ليس باعتباره أجيرا وحسب، بل شريكا مميزا. عاد الحاج برادة من الدارالبيضاء إلى فاس حيث تفرغ لشؤونه هناك، وفي نفس الوقت تولى تزويد شريكه بوبكر في الدارالبيضاء بكل الكميات التي يحتاجها المتجر المشترك. لم تنته سنة واحدة فقط على تلك الشركة، حتى صار الشريكان في حاجة لإلحاق مساعدين إضافيين فرضهم الرواج المطرد، وتدفق المزيد من الزبناء على متجرهما. لذلك اقترح الحاج برادة على بوبكر بوفتاس التفكير في تشغيل مساعدين سوسيين مثله. خلال تلك الفترة صادر درب كناوة مركزا تجاريا يحتكر استقبال جميع أنواع الملابس المغربية الأصيلة الواردة عليه من مدينة فاس، والموزعة منه على جميع متاجر جهات البيضاء، ثم باقي مدن المغرب نحو الجنوب. فلجأ بوبكر إلى إلحاق أخيه محمد بن حمو ليدربه على أصول البيع والشراء. وفعلا، لم تنته سنوات العقد الرابع حتى تمكن الشريكان الحاج برادة وبوبكر بوفتاس من اقتناء محل تجاري جديد في درب كناوة. هكذا ستأتي مرحلة تعاقدا معا مع شريك ثالث من سوس، وهو محمد بيهمان من القبيلة السوسية "أيت باها".. سرعان ما نتج عن ذلك التعاون الثلاثي فتح متجر آخر، كلفوا الشريك الجديد بتسييره. نجاحهم في تعاونهم ذاك أدى بهم إلى استقطاب رجل آخر أبان عن خبرته الغميسة في مجال بيع الملابس، إنه إبراهيم تازيت المنحدر من قبيلة آيت بونوح في أفلا ايغير بجبال الأطلس الصغير. لحق به فيما بعد مولاي مسعود أكرام السوسي الخبير بتجارتهم. تلك الشراكة المتطورة والمتعددة الأطراف، واكبها الاشتراك في محل تجاري آخر مع الحاج محمد بن عبد الجليل. بمجرد ما بدأ درب كناوة يعرف العاملات الأولى لفترات تراجع رواجه وبداية ركوده التجاري، سيبادر بوبكر بوفتاس وشركاؤه بالانتقال منه إلى درب عمر الذي يبدو أنه سيكون قطبا تجاريا واعدا يعوض كناوة في المستقبل. وذلك ما سيقع فعلا… لما سينتقل الإخوة بوفتاس من منزل داخل حي درب غلف القديم، ليقيموا في الفيلا الجديدة رقم 09 من ممر "دري بيرسي" في حي يعتبر من الأحياء الراقية في الدارالبيضاء، جوار درب غلف. ولما كانت مدينة الدارالبيضاء لا تتوفر – في تلك الفترة- على كثير من المرافق الضرورية، ونظرا لهذا الخصاص، فإن الإخوة بوفتاس كانوا يوفرون لزبنائهم الآتين من الجهات النائية كل ما من شأنه أن يساعدهم على البقاء في الدارالبيضاء وقتا كافيا في عهد تقل فيه وسائل الاتصال السريع، بالإضافة إلى انعدام ثقافة حجز غرفة في فندق، بل كان هناك من التجار الوافدين رجال تعتبر عاداتهم المبيت في الفندق غير لائق بهم. وهناك من يتحاشى دخول المطاعم فبالأحرى تناول وجباتها… من العادات الملازمة لتلك الضيافات، أداء الجميع صلاة الظهر جماعة في مسجد بوفتاس بعد بنائه، وكذلك يخرج إليه الجميع لأداء صلاة العشاء، شيد أيت بوفتاس ذلك المسجد الفسيح في حيهم سنة 1958 م. وصار السكان حينئذ يطلقون عليه اسم مسجد بوفتاس. وبعد زهاء خمسة وأربعين سنة، ونحن نبحث عن موقعه بين الأزقة، – لكونه مسجد لا تظهر صومعته القصيرة بسهولة رغم أنه ليس صغيرا- نقول صادفنا رجالا طلبنا منهم أن يدلونا على موقع مسجد في ذلك الحي. ولفت انتباهنا أن أولهم دلنا قائلا: "يوجد هناك جامع الشلوح في الزنقة الموالية".