يعتبر الباحث في الثقافة الأمازيغية، الدكتور عمر أمرير، اختيار الكتابة عن السوسيين في الدارالبيضاء، ليس «نزعة» تحصر العصامية في المنحدرين منه، وتنفيها عن غيرهم من إخوانهم في كل ربوع المغرب.قصة هذا الكتاب كما يرويها الباحث أمرير، هي تحفيز لذاكرته في الدارالبيضاء على امتداد حوالي 40 سنة من مسار حياته فيها. منذ زمن طفولته، حيث سافر به والده – رحمه الله- من سوس، للدراسة فيها،عندما بدأ والده ممارسة التجارة مع شقيقه.منذ ذلك الزمن وإلى اليوم، سيجد الدكتور عمر أمرير في موضوع الكتابة أن من بين ما سجله شريط ذكرياته، أسماء لسوسيين مسلمين ويهود، انطلقوا من الصفر في ميادينهم، معتمدين على إمكانياتهم الذاتية، ومواهبهم الشخصية. وبلغوا أوج تفوقهم في حياتهم بتجارب إنسانية عميقة. هو: محمد بن لحسن بن محمد بن أحمد بن داوود الوداني التونسي، "الأب جيكو". ولد سنة 1900م في مدينة تونس إبان هجرة والده السابق الذكر قبل حين في هذا الكتاب من قبيلة إيسافن السوسية إلى جامعة الزيتونة للدراسة أولا، ثم للتجارة، والتزوج في مدينة تونس أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وميلاد محمد صاحب هذه الترجمة في مدينة تونس سنة 1900م، وليس في الدارالبيضاء أو تارودانت أو قبيلة إيسافن كما شاع في الكتابات عنه. لما بلغ الطفل السنة الخامسة من عمره عام 1906م، ستتوفى والدته جنينة التونسية. وبسبب ذلك المصاب الجلل سيعود الوالد بيتيمه إلى المغرب، حيث سيقيم قليلا في مدينة الدارالبيضاء، قبل أن يفارقها ليستقر في مدينة الصويرة.. اعتنى الفقيه الحاج لحسن شخصيا بتعليم طفله محمد هذا في الصويرة، إلى أن بلغ سن التمدرس. ولما لم يجد الوالد في تلك المدينة مدرسة ابتدائية عصرية يلحق بها ولده، أدخله "مدرسة الرابطة اليهودية" التي يمكن للتلاميذ المسلمين متابعة دراستهم بها، وكان فيها ضمن رفاق محمد بلحسن من المسلمين، التلميذ بنمسعود الذي سيصير في كبره "الكاتب الخاص للملك محمد الخامس". صادف تقدم محمد بلحسن التونسي في دراسته داخل مدرسة الرابطة اليهودية، انتقال والده إلى مدينة الدارالبيضاء ليتعاطى التجارة فيها. وهناك ألحق ولده بليسي اليوطي يوم كان مقره عبارة عن مجموعة من غرف الدراسة، والمكاتب الإدارية المركبة من الألواح الخشبية، ليتفادى الجميع تأخر سير الدراسة، لأن جل التلاميذ من أبناء موظفين فرنسيين استقدمتهم الإقامة العامة الفرنسية التي يرأسها المارشال ليوطي. رغم السماح للمغاربة بإلحاق أبنائهم بذلك النوع من التعليم، إلا أن الاندماج فيه يصعب على من لم يستطع منهم إدراك مستوى متفوق في اللغة الفرنسية. وكان محمد بلحسن، وتلميذ مسلم آخر اسمه زروق، قد تمكنا من التكيف مع ذلك التعليم العصري في فوجهما، والجدير بالذكر أن رفيقه المغربي المسلم ذاك هو التلميذ زروق، الذي سيصير في كبره رئيس المجلس الأعلى للقضاء في عهد الملك الحسن الثاني. كان أحد رفاق محمد بلحسن في ليسي اليوطي من الفرنسيين التلميذ بلاشير روجيس الذي سيصير بدوره في كبره من كبار العلماء المستشرقين، ومن الذين ترجموا القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية. تابع محمد بلحسن التونسي دراسته في التعليم الفرنسي إلى أن حصل سنة 1918م على شهادته، واعتبرته بعض المصادر أول مغربي ينال تلك الشهادة بالمدارس الفرنسية في الدارالبيضاء يومئذ. خلال سنة 1922م رحل محمد بلحسن إلى الديار الفرنسية قصد دراسة الاقتصاد في الجامعة. هناك سيظهر أن طموحه الرياضي كان من بين أهم محفزاته على التفوق في مجال الدراسة. حيث كان إلى جانب انكبابه الجدي على تخصصه في الاقتصاد، يغتنم فرص العطل للعناية بلياقته البدنية، ويملأ وقت فراغه بلعب كرة القدم، أو المطالعة الحرة التي كان شديد الولع بها. علاوة على أنه كان يرفه عن نفسه بعد عناء المطالعة وتعب الدراسة بالذهاب لمتابعة أجود المقابلات الكروية في فرنسا. ويحرر مقالات خاصة بوصف أكوارها. والتعريف بلاعبيها، ويحلل خطط مدربيها، ويخلق لنفسه بذلك علاقات متميزة مع الصحفيين الرياضيين الأوربيين. بعد سنوات الدراسة، عاد الشاب بلحسن إلى المغرب حاصلا على دبلوم جامعي في تخصص الاقتصاد من جهة، ومكونا نفسه بعصاميته في رياضة كرة القدم ممارسة، وتنظيرا، وكتابة نقدية، من جهة ثانية. مع عشق المطالعة الحرة. اشتغل في منصب وكيل مفوض للقرض العقاري بالجزائر وتونس الموجود مقره في الدارالبيضاء، لمدة خمس عشرة سنة، أي من سنة 1932 إلى أواخر 1947م. لكي يحصل المرء يومئذ على ذلك المنصب الإداري الرفيع، ويحافظ على مكانته فيه طوال تلك السنوات، ومعناه أنه امرؤ يتمتع بتكوين وخبرة اقتصادية عالية وكفاءة نادرة في ممارسة عمله. بتوظيف محمد بلحسن– كما يسمى في تلك المرحلة من حياته- وباستقراره النهائي في مدينة الدارالبيضاء، سيواكب مسار حياته المهنية بكشفه عن الجوانب الخفية من تعدد مواهبه الأخرى التي سبق له أن اغتنم من أجلها أوقات الفراغ وأيام عطل السنوات التي قضاها في عنايته المميزة بدراسة الاقتصاد في الجامعة بفرنسا.