المشي على البيض رياضة وطنية؛ في السياسة كما في الاقتصاد، وقس على ذلك. الرجفة التي يشعر بها كل ذي منصب، وخز ضروري تعلمه التجارب، وليس المدارس. لا يمكن أن تتخلص من حذرك، وتضمن لنفسك مستقبلا. هناك لائحة طويلة لأولئك الذين كانوا يعتقدون أن بإمكانهم المشي على البيض دون تحطيمه، وهم الآن لا يشغلون أي وظيفة مفيدة. تسمح لك قاعدة التصرف وكأنك تمشي فوق البيض بحصانة ضمنية، فهي تزكي اسمك واحدا من هؤلاء الذين يفهمون اللعبة. وبالطبع، فإننا لا نتحدث عن تلك المستويات الصغيرة، مثل تلك التي يعتقد فيها رئيس جماعة ما أن مشيه فوق البيض، بتسليمه مصيره لرجال السلطة، سينجيه من الهلاك. لا يستفيق من ذلك الوهم حتى يجد اسمه بارزا في تقرير للمجلس الأعلى للحسابات. إدريس جطو لا يمشي فوق البيض. حسنا، يفعل ذلك لأن قائمة أهدافه عادة ما تكون منخفضة التكلفة. من يهتم لأمر رئيس جماعة، أو مدير مؤسسة أو شركة عامة، إن كان أفضل ما يمكن أن يفعلوه هو أن يدافعوا بشدة لكي يحصلوا على حق الجواب في تقرير أو في محكمة. تتذكرون قصة خالد عليوة؛ فهي مثال نموذجي عن هذه المعاملة الفتاكة. يشعر المسؤولون بالتهديد حينما يواجَهون بالمجلس الأعلى للحسابات. ولقد غذت وسائل الإعلام هذه السمعة الشرسة لقضاة بمقدورهم جعل كبير قوم أسفل سافلين إن شاؤوا. لكن التجاسر دائما ما تطوقه الحدود، وحينها يصبح المشي على البيض حكمة ذهبية. حدث ذلك بكل بساطة، ودون أي ضجيج، في مهمة المجلس الأعلى للحسابات لدى المكتب الشريف للفوسفاط. هذه شركة عمومية يبلغ حجم رقم معاملاتها السنوي حوالي 50 مليار درهم، أي حوالي نصف قيمة الناتج الداخلي الخام للبلاد برمتها، كما تحقق أرباحا تصل إلى حوالي 500 مليار سنتيم كل عام. في عشر صفحات كُتبت على مهل، على ما يبدو، لم تكن نتائج مهمة الافتحاص شيئا أفضل مما يمكن أن ينجزه تقني بسيط رميته وسط بيئة تكنولوجية معقدة، وطلبت منه أن يحرر رأيا تقييميا. وما حدث للمجلس الأعلى للحسابات، الذي يستطيع إبهارك بمقدار ما يعثر عليه في الجوانب المظلمة للتسيير في المؤسسات العمومية، هو أنه جعل للافتحاص أيضا مستويات طبقية. إذا كان الأمر يتعلق بمؤسسات تافهة، من حيث التقدير الاستراتيجي، أو بمديرين قابلين للاستغناء عنهم، كما هو حال الجميع تقريبا على ما يبدو، فإن أنياب هذا المجلس تظهر وهي تنغرس في جلد أهدافها بكل عدوانية. لكن حينما تتعلق القضية بالفوسفاط؛ وداعا لكل شيء. ليست الأنياب وحدها التي تختفي، ولكن أيضا كل قطع الأحجية التي تمثلها تلك الرواية الغامضة المسماة «حكامة». إننا نفهم السبب الذي جعل جطو ينشر تقريره الأبيض -من البياض الذي تزخر به صفحاته المعدودة- كما يمكننا أن نقتنع بأن المحاسب العمومي للبلد لم يكن ينوي أن يبيض صحيفة أحد بقيامه بهذا الصنيع. لكن، لمَ يجب أن يتحول كل شيء مرتبط بالمكتب الشريف للفوسفاط إلى أمر سري للغاية؟ الوظيفة التجارية، كما الاقتصادية، لمثل هذه الشركة ينبغي ألا تحاصر قدرتنا على تحديد المكاسب المجنية من الثروة الطبيعية الأكثر أهمية في البلاد. إذا كانت هناك نظرة أمنية أكثر عمقا، فإننا سنكون متفهمين أيضا، لكن ليفتحوا دفاترهم المحاسباتية لدى لجنة تشريع تتسم أعمالها بالسرية. سنشعر بالارتياح أكثر إزاء فكرة وجود مشرعين ممثلين للأمة بمقدورهم مراقبة شركة كهذه، حتى لو بقيت معلوماتها -إن كانت تتوافق مع النظرة السياسية للحكومة- في صدور بضعة رجال. لكن، أن يتخفى جطو وراء ذلك المبدأ الشرطي العام، والغارق في التضليل في كثير من الأحيان، أي القول إن للشركة حساسية تمنع من فتح دفاترها أمام الملأ، فإن مسعاه يزيد فقط خيبة الأمل لدى الناس. في التجربة المستقيمة، لم يكن على جطو أن يخفي شيئا من تقريره حول المكتب الشريف للفوسفاط. هذا ليس عمله، وليس مطلوبا منه التستر على أي أحد. عليه أن يراجع عقد عمله، ونظام عمل جهازه. سيكتشف سريعا أن التقديرات السياسية ليست من شأنه. كان عليه أن يسلم تقريره، ويترك عملية الحجب لمسؤولين تنفيذيين آخرين بعيدا عن المجلس الأعلى للحسابات. إن جطو يعرف حجم التقارير التي حررها موظفوه منذ بدأ المجلس في العمل والتي لم تَر النور، ونحن غالبا لا نسأل، لكننا أيضا لم نوجه التهمة إلى المجلس ولا إلى أي أحد آخر. لكن هذه المرة الوضع مختلف؛ لم يكن الحجب وظيفة هيئة رقابة. إننا على يقين من أن التقرير الأصلي موجود في مكان ما، وربما لن يصل إلى العموم يوما. بيد أننا نشك في أن موظفي المجلس كانت لديهم أصلا القدرة على الحصول على ما يشاؤون من المستندات لإنجاز عمل مفيد. ربما لم تكن عملية الحجب في نهاية المطاف سوى هروب ذكي من المأزق الحاصل، أي أن هناك من يمكنهم أن يجعلوا جطو نفسه يمشي على البيض. كم كان مخزيا أن يقدم المكتب الشريف للفوسفاط، بكل فخر وحبور، نتائجه المالية السنوية -المسموح بإعلانها- في اليوم نفسه الذي صدر فيه التقرير المُقلّص للمجلس الأعلى للحسابات. إننا لم نسع يوما إلى تنقيط عمل المجلس الأعلى للحسابات، ولا أيضا إلى وضع رئيسه في موضع تقييم. فقد كنّا دائما لا نحلق بالتوقعات خارج درجة المعقول. لكن على السيد جطو أن يفهم ويقدر حجم الهواجس، وهي كثيرة على كل حال. لقد رأيته مفعما بالحيوية وهو يشارك جيلا قديما مشاطرة تاريخ شخصيات من قيمة عبد الرحمان اليوسفي ومحمد بنسعيد آيت إيدير، بيد أنني لا أريد رؤيته يشعر بالمرارة إزاء تاريخه هو، كما حدث ذات مرة قبل عقد من الزمن، عندما كان يواجه مشكلة أراضيه الخاصة التي طوقتها شروط الطريق السيار.