ربورتاج: عائشة شعنان ومنير عبد الرزاق غدا الثلاثاء على الساعة الحادية عشرة ونصف..ستعود مدينة مراكش ومعها المغاربة بالذاكرة إلى أربع سنوات خلت لتخليد ذكرى أليمة هزت مقهى هادئا في قلب المدينة الحمراء لتحول أركانه إلى برك دم ساخن أهدرت في لحظة غدر. غدا تحل الذكرى الرابعة للتفجير الدامي لمقهى أركانة الذي راح ضحيته 17 قتيلا ضمنهم مغاربة وأجانب…وغدا سيعود المراكشيون ومعهم عائلات جميع الضحايا الذين قضوا في الحادث بذاكراتهم إلى سنة حفر أحد أيامها بلون الدم في قلوب مكلومة فقدت عزيزا في الحادث المفجع. ما الذي تغير في هذه المدة؟ هل انمحت آثار الدمار من الأمكنة والأفئدة؟ عن نسيت المدينة يوما حزينا سجلت لون الدم في تاريخها القريب؟ اليوم24 وقف بمكان الحادث، وزار عائلات الضحايا والمعتقلين ليعيد تركيب قصة قتل "مول القيتار" ل17 شخصا في الذكرى الرابعة للحدث. هنا مراكش، أربعة أيام قبل حلول الذكرى الرابعة لتفجيرات مقهى أركانة المنتصب وسط ساحة جامع لفنا. كل شيء في المكان تغير، عدا وقع الفاجعة على قلوب المراكشيين عموما وعائلة الضحايا على الخصوص. استعادت ساحة جامع لفنا حياتها في المقابل توقفت حياة أناس آخرين لم يكن شبح الإرهاب بهم رحيما، منهم من رحل لدار البقاء ومنهم من يصارع ذكريات يوم مرعب تحولت إلى شبح يحل أمام أجساد أصحابها كلما أرخى الليل سدوله. مقهى أركانة…حداد دام أربع سنوات ! منذ أن فاحت رائحة الدم بمختلف أركانها، بقيت مقهى أركانة التي تحولت إلى أشهر من نار على علم، وصار اسم المقهى التقليدي البسيط عنوانا لنشرات أخبار قنوات دولية، "بقيت" في حداد ! لا زوار ولا زبائن ولا "فضوليون" ممن أرادوا دخول المقهى لاستكشاف أركانه تمكنوا من ذلك، فالمكان ظل في حداد طويل دام أربع سنوات..مدة طويلة علها تمحي آثار الدمار الذي شهده المكان في لحظة غدر. ذكرى هذه السنة يبدو أنها لن تكون مثل سابقاتها، فالمظهر الخارجي للمقهى يشي بأن فترة الحداد على وشك الانتهاء، وأن أركانة ستفتح أبوابها للحياة من جديد. حركة دائبة في كل الاتجاهات..عمال المقهى يتقلبون بين أركانه في خفة، فيما صاحبه يعكف على إعداد شيء ما فضل أن يحتفظ به لنفسه. تزامن فريق "اليوم24" لحظة تواجده أمام مقهى "أركانة"، باجتماع صاحبها مولاي مصطفى الادريسي مع العمال، الذين يسهرون على وضع اللمسات الأخيرة لإعلان افتتاحه في وجه الزبائن. المظهر الخارجي يبين أن أركانة لم تعد تلك البناية القديمة المتهالكة، بل صارت "معلمة" جديدة وسط الساحة الثراتية جامع لفنا، فمن مقهى بسيط وعادي جدا صار فضاء بارزا بثلاث طوابق، يجذب العين على بعد كيلومترات. الحركة وسط المقهى غير عادية، والترتيبات لافتتاحها قائمة على قدم وساق..الخشب أضحى المكون الرئيسي لتفاصيل "أركانة الجديدة" التي تحمل لمسة تقليدية مراكشية محضة، بحسب ما عاينه "اليوم24" لحظة انتظار صاحبها من "اجتماعه" مع فريق العمل. "أنا براسي ما عارفش إنا نهار غادي تحل القهوة"، يرد صاحب أركانة على سؤال "اليوم24″، وهو يسارع خطاه نحو مكتبه غير بعيد عن المقهى، متهربا من الإجابة. المقهى خلعت رداءة الدم والدمار، وستفتح أبوابها للعموم قريبا بعد أن نفثت غبار لحظة غدر حولت أركانها وضيوفها إلى أشلاء ورماد..المكان تزين وصارت لحظة من ساعات صبيحة 28 أبريل ذكرى بدون أثر على المكان، فهل استطاع هذا التحول أن يلامس القلوب التي تلظت بالفاجعة أيضا؟ ! الحسين.. "شهيد" الجسد مع وقف التنفيذ ! الحسين إيضرضار، أحد ضحايا التفجيرات الإرهابية التي استهدفت مقهى أركانة، الرجل الذي كان يعمل نادلا لأكثر من عشر سنوات في المقهى، يتذكر الحدث الأليم وكأنه وقع لتوه. يقول لليوم 24 "قضيت زهاء شهرين في المستشفى خرجت بعدها لأجد حياتي تغيرت". حياة الحسين انقلبت رأسا على عقب..شبح حادث الماضي انضافت إليه محنة الحاضر مع ضنك العيش ليصير كتلة معاناة، فشبح البطالة مازال يطارده منذ أربع سنوات، وحتى التعويضات التي قدمتها له الدولة لم تكفيه لسد رمق أسرته. كلما تذكر الحسين "الخميس الأسود" ارتعدت فرائصه، صور أشلاء الضحايا مازالت عالقة بذهنه، وذوي الإنفجار لا زال مستقرا بأذنه. خرج الحسين من المستشفى بمائة غرزة في جسده متفرقة بين رأسه وبطنه وأربعة ملايين سنتيم كتعويضات على الحادث من الدولة يعدها ويعد ما عاشه فينطق قائلا "حسبي الله ونعم الوكيل". مبلغ يعتبره الحسين هزيلا مقارنة مع هول الفاجعة التي غيرت حياته، مؤكدا أن ملف أركانة وقعت فيه تلاعبات كبيرة، من ناحية الخبرة الطبية التي أشرفت عليها لجنة غير مختصة، بالإضافة إلى استفادة أشخاص لم يكونوا في مكان الإنفجار حينها. في منزل ياسين بوزيدي..الناذل الذي قدم مشروبا للعثماني فرد عليه بقنبلة ! تماما كما مقهى أركانة، صار اسم ياسين البوزيدي أشهر من نار على علم..الوصول إلى بيت البوزيدي، النادل المغربي الذي لفظ أنفاسه في تفجيرات أركانة سنة 2011، كما الوصول إلى أحد مآثر المدينة الحمراء، فأغلب المراكشيون يعرفون حومة "فران التراب" التي تسكنها عائلة البوزيدي. بيت ياسين صار مرتبطا في أذهان الناس بالحزن والألم من هول الفاجعة التي عاشها قاطنوه، فصورة الضحية ياسين ترسم في أذهان كل والج للمكان..صورة بدون ألوان بطلها استقر تحت التراب بطريقة مفجعة. رائحة الدم والحزن لم تفارق المكان بعد، فالأم التي انفطر قلبها مازالت تبكي سليلها الذي غادر دون أن يرسم قبلة الوداع على جبينها..تمضي الأيام ويتعمق الجرح بقلب استل الإرهاب الغادر فرحته. معاناة الأم المكلومة تزداد كلما اقلت البصر صوب زوجها الذي نال منه المرض بعد الحادث، وتحول هو الآخر إلى "جثة"، فيما الأم بين نارين: جثة دفت بدون كلمة وداع تحت التراب، و"جثة" ثانية يمزق أحشاءها وهنها الذي تراكم بعد الحادث الأليم. تقول فاطمة مفتاح الأزهار، أم الضحية ياسين "ابني لم يكن عاديا كان منفردا عن أخوانه وأخواته، لم أشقى في تربيته نهائيا وحياته كانت جد يسيرة". لم تستطع الأم مغالبة دموعها أثناء الحديث، وفي تعقيبها عن التعويضات التي تلقتها من الدولة، تقول أم ياسين البوزيدي أن لا شيء سيعوض مكانة ابنها وسط العائلة والأسرار الصغيرة، إلا أن الأم أنصفت المسؤولين باعترافها أن التعويضات التي تلقتها كانت تعويضات محترمة لولا تدخل أحد المحامين الذي حصل على أتعاب خيالية. ادريس البوزيدي، أخ الراحل ياسين، قال إن أحد المحامين تدخل وأقنع زوجة الضحية بضرورة توكيله ليصلها حقها، قبل أن تفاجأ بحصول المحامي على مبلغ 30 مليون كأتعابه في القضية، الشيء الذي استنكره العائلة خصوصا أن الراحل ترك طفلتين أولى بهذا المبلغ من المحامي. أرملة ياسين بوزيدي..رحل الزوج وترك وجعا متجددا في قلوب بناته ! ليلى، الشابة السمراء ابنة سيدي قاسم، التي تركت عائلتها واستقرت في مراكش رفقة زوجها الراحل ياسين بوزيدي، لم تكن تعلم أن القدر يحمل لها متعب جمة..لم يخطر ببالها وهي تزف لابن مراكش بلباس أبيض أن حياته لن تدوم إلى جانبها، وأن من اختارته رفيقا للدرب سيقتل في لحظة قاسية تاركة فلذتي كبده في عهدتها..الأولى في سن السادسة والثانية لم يكتب لها أن تطالع وجه أبيها الذي صار جزءا من تاريخ مر للمغرب. بحلول الذكرى الرابعة لأحداث أركانة، تكون ليلى دخلت العام الرابع أيضا وهي أرملة، ومنذ ذلك الحين وهي تتخبط بين نارين، نار زوج غاب بدون سابق إنذار عن بيته، ونار سؤال حارق لبنتيها، ياسمين 10 سنوات ولمياء ثلاث سنوات ونصف، "أين أبي؟". مات ياسين، بكت ليلى ولازالت، ثم سرعان ما مسحت دموعها، وشمرت على ساعديها لمواجهة الحياة بتباث. تقول ليلى في حديث لليوم 24 "كنت أعيش حياة هادئة رفقة زوجي، إلى أن حل الخميس الذي غير كل شيء". تعود بذاكرتها التعبة إلى الوراء لتسمك بأول الخيط، فتقول "غادر ياسين البيت باتجاه مقهى أركانة، لكن وعلى غير عادته لم يتصل بي، أحستت بأن مكروها أصابه، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى وصل الخبر الصاعقة..لقد مات ياسين في حادث إرهابي". مشاهد دمار..دم..رؤوس وأجساد متناثرة، كل هذه الأمور زادت من وجع ليلى وهي تتابع نشرات الأخبار الوطنية والدولية ومئات الصور والتعاليق التي تناثرت هنا وهناك..وزاد الألم عندما رأت أمام عينها صورة عادل العثماني، الذي قدم له زوجها كأس عصير في مقهى أركانة، فرد عليه بقنبلة حولته إلى أشلاء ! آسفي..عائلات الضحايا تعاني وأيضا عائلات المتهمين ! تختلف ظروف عائلات الضحايا والمتهمين، لكن المعاناة تبقى واحدة، فعائلات الضحايا فقدت عزيزا في الحادث، فيما عائلات المتهمين فقدت أيضا أبناء من صلبها تحولوا بين عشية وضحايا إلى "إرهابيين" في نظر المجتمع والقانون. لا أحد تجرأ من المواطنين في مدينة آسفي على دلنا على بيوت المتهمين، رغم أن الكثيرون يعرونها حق المعرفة ! البداية كانت من حي مفتاح الخير، الحي الذي يقطنه المتهم الرئيسي في تفجيرات أركانة، عادل العثماني، الحي الهادئ أغلب قاطنيه من الطبقة المتوسطة. عائلة عادل العثماني معروفة وسط الحي، خصوصا أنها تملك مقهى عرفت وسط السكان ب"مقهى عادل أركانة"..اللقب الجديد الذي صار يطلق على عادل بعد الحادث الدامي. عائلات الضحايا لم تستطع لحد الآن محو تفاصيل الحادث من ذاكرتها، وكذلك عائلات المتهمين، الذين صار بعضهم يبحث عن الظل خوفا من نظرات الناس. تقول لطيفة، شقيقة عادل العثماني بنرفزة وصوت غاضب "النفسية ديالنا صعيبة خاصة مع اقتراب الذكرى الرابعة ديال الحادث"، مضيفة "لا يمكننا الحديث، فمحامي عادل طلب منا الصمت". غير بعيد عن بيت عائلة العثماني، وبالضبط بحي كورس الشهير وسط مدينة آسفي، تقطن عائلة عبد حكيم الداح، المتهم الثاني في تفجيرات أركانة والذي أدانه القضاء بحكم الإعدام. في بيت بسيط يشي مظهره بعسر الحال وقلة ذات اليد، يعيش أخ عبد الحكيم يحاول كل ليلة أن يركب تفاصيل قصة أشبه بالحلم..قصة تحولت شقيقه الذي كبر بين يده إلى متهم في جريمة هزت البلاد، فنال حكم الإعدام. عبد القادر الداح، أخ عبد الحكيم الداح، لم يترك خصلة حسنة إلا ونسبها لشقيقه، "سولو عليه الحومة كاملة ماكاينش الي يقول لك عبد الحكيم خايب"، "هداك عادل هو الي ورطو معاه أما عبد الحكيم داخل سوق راسو"، هكذا تكلم أخ المتهم الداح عن أخيه. يواصل عبد القادر حديثه عن اعتقال الأخ "الواعي المثقف" على حد تعبيره، بحسرة كبيرة، "الطريقة التي اعتقل بها عبد الحكيم كانت غريبة، غاب عن البيت ثلاثة أيام، إلى أن وصلنا خبر اعتقاله من وسط المدينة وهو على متن دراجته النارية"، يضيف عبد القادر. حكم الإعدام وحتى إن كان منصفا بالنسبة لعائلات الضحايا إلا أنه أثر في عائلات المتهمين، الذين يدافعون عن أبنائهم، وهذا حال أسرة الداح التي اعتبرت ابنها ضحية العثماني، لأن لاشيء كان يوحي أن عبد الحكيم إرهابي يمكنه أن يقتل أرواحا بريئة، على حد تعبير شقيقه المفجوع. أركانة..الجرح الذي لم يندمل بعد! أربع سنوات مرت على فاجعة انفجار مقهى أركانة، مدة كانت كفيلة لإقبار أحلام أسر فقدت عزيزا في الحادث الدامي، تماما كما قلبت حياة أسر أخرى صار تلاحقها دماء وأرواح الهالكين في الصحوة والمنام بعد أن تحولت أبناؤها إلى "إرهابيين" في أعين المجتمع والقانون. عادت ساحة جامع لفنا إلى أحوالها الطبيعية.. رقص وغناء وحكايات تروى. ومقهى أركانة هو الآخر نفض عنه غبار يوم أليم ويستعد ليفتح أبوابه قريبا للزبائن وعلى جدرانه صور الناذل ياسين البوزيدي، والأستاذ الجامعي أحمد منير و15 سائحا أجنبيا هلكوا على يد شاب دخل المقهى حاملا قيتارة في يد وقنبلة مدسوسة في "كوكوت"..واختار في النهاية أن يضغط على الثانية بعد أن ناصر العنف والقتل على لغة الموسيقى والحياة..وكلاهما كانا بين يديه !