حلقة اليوم من برنامج "حكايات من زمن فات" عن أحد الأئمة العظماء، والذي ملئ علمه أرجاء الأرض، إنه الإمام الشافعي، أو محمد بن إدريس بن العباس، كان افصيحاً شاعراً، ورامياً ماهراً، ورحالاً مسافراً، وكثرَ العلماءُ من الثناء عليه، حتى قال فيه الامام أحمد بن حنبل: «كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس»، وقيل أنه هو إمامُ قريش الذي ذكره النبي محمد (ص) بقوله: «عالم قريش يملأ الأرض علماً». ولد الإمام الشافعي عام 150ه عشت 767م، في غزة، لأسرة فقيرة، ولما مات أبوه انتقلت به أمُّه إلى مكة، وعُرف منذ صغره بالذكاء وحُسن الخُلق، ويروى عنه وهو صغير، أنه كان في مجلس علم للإمام مالك فجاء رجلٌ يسأله ويقول: "يا إمام قد قلت لزوجتي أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر، ففكر الإمام قليلا"، ثم قال: "ليس هناك أحلى من القمر، هذه طلقة ولا تعد لذلك، وبعد أن خرج الرجل من المسجد لحق به الشافعي"، وسأله: "بماذا سألت الإمام مالك وبماذا أجابك، لحرصه على العلم". فقال الرجل :"سألت الإمام عن قولي لزوجتي انت طالق إن لم تكون أجمل من قمر، فقال القمر أحلى من زوجتك، لذا فهي طالق". فقال: الإمام الشافعي لا، بل زوجتك أحلى من قمر. فغضب الرجل لغيرته على زوجته وقال له: وهل رأيتها؟ فقال له الشافعي نرجع للإمام ونستفتيه، فلما رجعوا إلى الإمام مالك: قال له الشافعي ان زوجة هذا الرجل أجمل من قمر، فالله تبارك وتعالى يقول: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" فقال الإمام: الحق أحق أن يتبع أخطأ مالك وأصاب الشافعي، ولما كبر الإمام الشافعي، كان أعلم الناس في قومه، فكره البعض هذا، وذات مرة أراد بعض الفقهاء احراجه أمام الخليف هارون الرشيد، فطلبوا منه أن يجيبهم على بعض الألغاز فقالوا له: ما قولك في رجل ذبح شاة في منزله ثم خرج لحاجة وعاد فقال لأهله: كلوا أنتم الشاة فقد حرمت علىٌ، فقال أهله: ونحن حرمت علينا كذلك؟ فأجاب: إن هذا الرجل كان مشركا ًفذبح الشاة على أسم الأنصاب، فلما خرج من منزله هداه الله تعالى إلى الإسلام فأسلم فحرمت عليه الشاة، وعندما علم أهله بإسلامه أسلموا هم أيضا فحرمت عليهم الشاة كذلك. فقالوا وما قولك في مسلمان عاقلان شربا الخمر، فوجب على أحدهما الحد والأخر لا؟ فقال: إن أحدهما كان بالغا ًوالآخر كان صبيا. فقالوا وما قولك في امرأتين التقتا رجلان .. فقالتا: مرحبا بابنينا وزوجينا وابني زوجينا؟ فقال: إن الغلامين كانا ابنيّ المرأتين فتزوجت كل واحدة منهما بابن صاحبتها، فكان الغلامان ابنيهما وزوجيهما وابني زوجيهما. فقالوا وما قولك في رجل كان يشرب الماء فشرب نصفه حلالاً، وحرم عليه بقية ما في القدح؟ فقال: إن الرجل شرب نصف القدح ورعف (تساقط الدم الفاسد من انفه) في الماء الباقي من القدح فاختلط الدم بالماء فصار محرما ًعليه. فقالوا صلىّ رجل، ولما سلم عن يمينه طلقت زوجته، ولما سلم عن يساره بطلت صلاته، ولما نظر إلى السماء وجب عليه دفع ألف درهم؟ فقال: كان الرجل متزوج من امرأة غاب زوجها، فلما سلم عن يمينه رأى زوج امرأته السابق فطُلقت زوجته منه، ولما نظر عن شماله رأى نجاسة في ثوبه فبطلت صلاته، ولما نظر الى السماء رأى الهلال وقد ظهر في السماء وكان عليه دين ألف درهم يستحق سداده في أول الشهر من ظهور الهلال. فقالوا ومال قولك في إمام كان يُصلى مع أربعة رجال في مسجد، فدخل عليهم رجل وصلى عن يمين الإمام، فلما سلم الإمام عن يمينه ورأى ذلك الرجل، وجب قتل هذا الإمام وعلى الأربعة المصلين الجلد ووجب هدم المسجد إلى أساسه؟ فقال: إن الرجل القادم كانت له زوجة وسافر وتركها في بيت أخيه، فقتل ذلك الامام هذا الأخ وادعى أن المرأة كانت زوجة المقتول فتزوج منها وشهد على ذلك الأربعة المصلون زوراً، وأن المسجد كان بيتا ًللمقتول فجعله الإمام مسجدا. فقالوا ومال قولك في رجلٌ أعطى لأمرأته كيسا ًمملوءً مختوما ًوطلب إليها أن تفرغ ما فيه بشرط ألا تفتحه أو تكسر ختمه أو تحرقه، وإن فعلت شيء من ذلك فهي طالق؟ فقال: إن الكيس كان مملوءً بالسكر أو الملح وما على المرأة إلا أن تضعه في الماء فيذوب ما فيه.. إلى هنا لم يستطيع خليفة هارون الرشيد إخفاء إعجابه من ذكاء الشافعي، فطلب الشافعي أن يسأل هؤلاء الفقهاء سؤالا. وقال لهم: مات رجل عن 600 درهم فلم تنل أخته من هذه التركة إلا درهماً واحداً، فكيف النظر في توزيع التركة؟ فنظر العلماء بعضهم إلى بعض طويلاً ولم يستطع أحدهم الاجابة على السؤال وأخذ العرق يتصبب من جباههم ، ولما طال بهم السكوت قال الخليفة: قل لهم الجواب يا شافعي. فقال الشافعي: مات هذا الرجل عن ابنتين وأم وزوجة واثنى عشر أخاً وأخت واحدة. فأخذت البنتان الثلثين ومقدارهما "400 درهم"، وأخذت الأم السدس ومقداره "100 درهم"، وأخذت الزوجة الثمن ومقداره "75 درهم" وأخذ الاثنا عشر أخا 24 درهم، فتبقى درهم واحد أخذته الأخت. واشتهر الإمام بكتابة الشعر وكان من أشهر ما كتب: عيب زماننا والعيب فينا *** ومال زماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب *** ولو نطق الزمان لنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعض عيانا وله أيضاً: دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ *** وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ وَلا تَجْزَعْ لنازلة الليالي *** فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً *** وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا *** وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء *** فَكُلُّ عَيْب يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ ولا تر للأعادي قط ذلا *** فإن شماتة الأعداء بلاء ولا ترجُ السماحة من بخيلٍ *** فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ وله الكثير من الكلمات المأثورة التي أصبحت تُردد كحكم ومنها: ما حك جلدك مثل ظفرك *** فتول انت جميع امرك ما طار طير وارتفع *** الا كما طار وقع ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت اظنها لا تفرج وتوفى الإمام الشافعي ودفن بالقاهرة في أول شعبان، يوم الجمعة سنةَ 204ه / 820 م.