في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ومباشرة بعد انقلاب الصخيرات، أطلق الملك الراحل الحسن الثاني، حملة تطهير شاملة، همّت وزراء في حكومة أحمد العراقي. وحسب الرواية التي راجت في تلك السنوات، والتي وثقها الباحث عبدالحي بنيس في كتابه: "موسوعة الحكومات المغربية"، فإن الجنرال محمد المذبوح، هو الذي اكتشف فساد هؤلاء الوزراء وأبلغ الحسن الثاني بذلك. كان المذبوح في زيارة إلى الولاياتالمتحدة للتحضير للزيارة الرسمية التي كان سيقوم بها الملك الراحل للعاصمة واشنطن، وهناك حصل على وثائق تثبت تورط مسؤولين مغاربة في قضية فساد وارتشاء مع شركة "بانام" الأمريكية للطيران، والتي كانت ترغب في تشييد فندق بمدينة الدارالبيضاء. هذا، وتفيد الوثائق بوجود عمولات ورشاوي، منذ سنوات الستينيات إلى بداية السبعينيات، تورط فيها مسؤولون مغاربة منهم وزراء، وأن كل مشروع استثماري من الخارج يخضع للمساومات بالمغرب. بعد عودة المذبوح إلى المغرب، أبلغ الملك بالقضية التي كان من بين المتورطين فيها مجموعة من الوزراء، إلا أن الملك أعطى أوامره في البداية بعدم متابعة المشتبه في تورطهم في القضية، لكنه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدها قصر الصخيرات بتاريخ 9 يوليوز 1971 قرر فتح ملف هذه القضية من جديد. وفي هذا الصدد تم اعتقال عدد من الوزراء في حكومة أحمد العراقي، بعدما أقيلوا في أواخر شهر أبريل 1971. إذ أظهر تقرير الاتهام، الذي بلغ إلى علم الشرطة القضائية، أن وزراء وموظفين سامين متورطون في الرشوة، وأن موظفا ساميا يُدعى عمر بنمسعود كان يلعب دور الوسيط، إذ تمكن عبر شركة سمسرة أسسها من استخلاص مبالغ مرتفعة من الشركات الأجنبية، التي كانت تفوز بالصفقات العمومية عن طريق السمسرة العلنية أو من خلال المناقصة، وكان يقتسم العمولات المالية التي يحصل عليها مع الوزراء والموظفين السامين المتهمين معه في هذه القضية، وكانت المبالغ تدفع لحساباتهم البنكية بالمغرب وبالخارج بالدولار، أو يأخذونها مباشرة في بعض الأحيان. ترأس أحمد الزغاري الجلسة في محكمة العدل الخاصة، التي حوكم أمامها الوزراء والموظفون السامون ورجال الأعمال المتهمون، في أول قضية فساد كبرى يشهدها المغرب المستقل، وتولى الادعاء العام فيها أحمد الوزاني، فيما قام بالتحقيق مع المتهمين القاضي حسن العوفير. بلغ عدد المتهمين14 شخصا، هرب منهم اثنان إلى الخارج وهما هنري هانسون وبرنارد ليفي، وتم إيداع الجميع السجن قبل أن يتم نقل بعضهم إلى المستشفى بناء على ظروفهم الصحية. المتهمون هم: مامون الطاهري، وزير المالية السابق، ومحمد الجعيدي، وزير التجارة والصناعة، ومحمد العيماني، كاتب الدول في الأشغال العمومية والنقل ومدير عام سابق لمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، وعبد الكريم الأزرق، وزير سابق للاقتصاد. أما الموظف السامي الوسيط عمر بنمسعود، فقد شغل عدة مناصب إدارية مهمة في بداية الاستقلال، قبل أن يقدم استقالته في سنة 1960 ويؤسس شركة للتسيير والتمثيل الدولي ويصبح من كبار رجال الأعمال بالمغرب. ومن المعتقلين الآخرين، ناصر بلعربي، مدير سابق لمكتب رئيس الحكومة المغربية الراحل عبدالله إبراهيم، ومدير سابق للمكتب الوطني للأبحاث والمساهمات المعدنية وكاتب عام سابق في وزارة الخارجية. وإدريس بلبشير، موظف سام بالمكتب الوطني للأبحاث والمساهمات المعدنية، ومحمد البلغمي، رجل أعمال. قرر القاضي حسن العوفير إطلاق سراح اثنين من المتهمين مؤقتا وهما دافيد عمار، ومحمد العيماني بتاريخ 20 يناير 1972. ووجهت المحكمة تهمة الفساد واستغلال النفوذ إلى المتهمين الباقين. هذا، ويذكر بنيس في كتابه، أن من أسماء اليهود المغاربة المتورطين في محاكمة الوزراء، هناك "دافيد عمار" والإخوان "أوحنا" و"بيرنار ليفي"، و"سوسان"، و"مانتو" شريك "باروخ دهان"، وهما اللذان توجها إلى كندا ومن ثم إلى إسرائيل. ومن اليهود المتورطين، كذلك، "سويسا" الذي كان يوجد مكتبه بشارع علال بنعبدالله بالرباط. "والاستغراب الكبير هو أن كل اليهود المتورطين في فضيحة الوزراء يوجدون بالخارج، دفعة واحدة، قبل صدور الأوامر باعتقالهم". تولى الدفاع عن المتهمين نخبة من المحامين المعروفين، من بينهم أحمد رضا اكديرة، وعبدالكريم بنجلون ومحمد التبر، وعبدالرحيم برادة، وغيرهم. انطلقت جلسات استجواب المتهمين داخل المحكمة بتاريخ 11 أكتوبر 1972، ليتم إعلان الأحكام بتاريخ 15 دجنبر من السنة نفسها. وخلال الجلسات أجاب كل المتهمين بأنهم غير مذنبين إلا من اعترف بتسلم مبالغ مالية لدواعي "تشييد فيلات" أو لمواجهة مسؤوليات قانونية متعددة أو لتغطية نفقات سفر أو غيره، فيما اعتبر آخرون أنهم مجرد "ضحايا وأكباش فداء" يؤدون تبعات انقلاب الصخيرات. أدخلت القضية للمداولة قبل أن يتم النطق بالأحكام يوم 15 دجنبر 1972، حيث نطق القاضي أحمد الزغاري بالأحكام التالية: يحيى الشفشاوني، حكم عليه ب 12 عاما وغرامة 10000 درهم. مامون الطاهري، وزير المالية السابق، حكم عليه ب 10 سنوات وغرامة 10000 درهم. عمر بن مسعود، حكم عليه ب 8 سنوات وغرامة 9000 درهم. محمد الجعيدي، حكم عليه ب8 سنوات وغرامة 5000 درهم. عبدالحميد كريم، حكم عليه ب 4 سنوات وغرامة 9000 درهم. ناصر بلعربي، حكم عليه ب 4 سنوات وغرامة 5000 درهم. إدريس بلبشير، حكم عليه ب 4 سنوات وغرامة 5000 درهم. عبدالعزيز بنشقرون، حكم عليه ب 4 سنوات وغرامة 5000 درهم. كما أعلنت المحكمة أن المتهمين مدانون بتهمة الفساد واستغلال النفوذ، وعلى أن تتم مصادرة ممتلكاتهم إلى حين تسلم واستعادة الرشاوي. أما محمد العيماني، الوزير السابق، ودافيد عمار رجل الأعمال، فقد تم الإعلان من قبل المحكمة بأنهما مدانان بتهمة الفساد، غير أن المحكمة أطلقت سراحهما لأن مخالفتيهما ارتكبت قبل عام 1965، أي قبل تاريخ تشكيل محكمة العدل الخاصة. وتمت تبرئة عبدالكريم الأزرق ورجل الأعمال محمد البلغمي. كانت هذه أول قضية محاكمة للوزراء في المغرب تزامنت مع انقلاب الصخيرات واستهدف بها الحسن الثاني إطلاق حملة تطهير كبيرة، لكن هذه الحملة لم تصل إلى مداها، فبعد أشهر عدة من المرافعات وبعد صدور الأحكام، أطلق الملك سراح المدانين قبل إتمام عقوباتهم.