بايتاس: ولوج المغاربة للعلاج بات سريعا بفضل "أمو تضامن" عكس "راميد"    كلمة هامة للأمين العام لحزب الاستقلال في الجلسة الختامية للمؤتمر    مرصد يندد بالإعدامات التعسفية في حق شباب محتجزين بمخيمات تندوف    مكناس.. اختتام فعاليات الدورة ال16 للمعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    نهضة بركان إلى نهائي الكونفدرالية بعد فوزه ذهابا وإيابا على اتحاد العاصمة الجزائري بنتيجة 6-0    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    طنجة تسجل أعلى نسبة من التساقطات المطرية خلال 24 ساعة الماضية    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك للقفز على الحواجز    اتحاد العاصمة ما بغاوش يطلعو يديرو التسخينات قبل ماتش بركان.. واش ناويين ما يلعبوش    ماذا بعد استيراد أضاحي العيد؟!    الدرهم يتراجع مقابل الأورو ويستقر أمام الدولار    أشرف حكيمي بطلا للدوري الفرنسي رفقة باريس سان جيرمان    تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني الموجهة لمغاربة العالم    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    حماس تنفي خروج بعض قادتها من غزة ضمن "صفقة الهدنة"    جمباز الجزائر يرفض التنافس في مراكش    احتجاج أبيض.. أطباء مغاربة يطالبون بحماية الأطقم الصحية في غزة    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    طنجة.. توقيف شخص لتورطه في قضية تتعلق بالسرقة واعتراض السبيل وحيازة أقراص مخدرة    لتخفيف الاكتظاظ.. نقل 100 قاصر مغربي من مركز سبتة    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    بيدرو سانشيز، لا ترحل..    محكمة لاهاي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وفقا لصحيفة اسرائيلية    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    بلوكاج اللجنة التنفيذية فمؤتمر الاستقلال.. لائحة مهددة بالرفض غاتحط لأعضاء المجلس الوطني    بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور سعد الدين العثماني يكتب:الدين والسياسة تمييز لا فصل - الجزء الثاني
نشر في التجديد يوم 01 - 01 - 2008


ثالثا التمييز بين الدين والدنيا في نصوص العلماء
على عكس ما يظنه كثيرون ممن كتبوا عن علاقة الدين والسياسة في الإسلام وفي الحضارة الإسلامية، فإن التمييز بين الدين والدنيا أمر معروف بين الأصوليين والفقهاء المسلمين عبر التاريخ، مما تؤكده العديد من الشواهد والأدلة نذكر منها مايلي:
1 إن غالبية العلماء متفقون على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إلى جانب نبوته رئيس دولة، وذا مسؤولية سياسية، كما كان يتصرف بحكم بشريته تصرفات دنيوية. ولذلك فهم يميزون في تصرفاته صلى الله عليه وسلم بين ما هو للدين وما هو للدنيا، فهو يتصرف في الأولى بالوحي أو بالبيان الذي له حكم الوحي، بينما يتصرف في الثانية بالاجتهاد وبحكم بشريته. ولسنا هنا لنفصل هذا الأمر ومذاهب العلماء فيه. لكننا نضع بين يدي القارئ مجموعة من نصوصهم تميز بوضوح بين النوعين من تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وتذهب إلى أنه في أمور الدنيا التي تخضع للتجربة بشر ككل الناس، ومن ذلك مثلا:
أبو محمد ابن حزم يقول عن حديث تأبير النخل السابق: فهذا بيان جلي مع صحة سنده في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، ثم يستنتج وإننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الآجل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي.
أما القاضي عياض فيقول: أما أحواله في أمر الدنيا فقد يعتقد صلى الله عليه وسلم الشيء منها على وجه يظهر خلافه.
وبوب محيي الدين النووي لحديث تأبير النخل في شرحه لصحيح مسلم بقوله: وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي. ويقول: قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك.
2 والتمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي كثير في كتابات العلماء المسلمين. ومن ذلك ما أشار إليه العديد من الأصوليين في تعريف الإجماع إلى أنه اتفاق على أمر من أمور الدين.. أو على أمر من الأمور الدينية.. تمييزا له عن الاتفاق في الأمور الدنيوية. ويؤكد سعد الدين التفتازاني بأن الأحكام إما دينِية، وإما غير دينية. ومثل لهذه الأخيرة بالاتفاق على أمر طبي مثل أثر مادة مسهلة على الجسم، فإن الاتفاق أو الإجماع على ذلك لا أثر له في الشرع. أما الأحكام الدينية فإما أن تكون شرعية، أو غير شرعية. وإذا كان الحكم الشرعي هو ما لا يدرك لولا خطاب الشارع، فإن ما ليس كذلك فإدراكه إما بالحس أو بالعقل. وليس بالإجماع. وعلى الرغم من أن الأصوليين لم يتفقوا كلهم على هذا الأمر، لكن النقاش حول حجية الإجماع في الأمور الدنيوية أو الفرق في ذلك بين الحكم الديني والدنيوي معروف ومشهور لديهم.
3 ومن الذين ميزوا بوضوح بين مصالح الدين ومصالح الدنيا في كتاباتهم أبو إسحاق الشاطبي، إذ يعرف المصالح الضرورية ب أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين مع تأكيده على أن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق.
ويصنف، تبعا لأصوليين سابقين المقاصد الضرورية إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، حيث جعل الدين في مقابل أمور الدنيا نفسا وعقلا ونسلا ومالا. يقول: فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف عدم التدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش .
ثم يقرر أن أصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وما أشبه ذلك. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات. فاستعمل هنا الدين بمعناه الخاص، مقابل أمور من الدنيا هي العادات والمعاملات. هذا كله يؤكد على أن التمييز بين الدين والدنيا أمر معروف بدون نكير. وهم هنا يعنون المعنى الخاص للدين وإلا فإن حفظ تلك المقاصد بمجموعها تندرج ضمن حفظ الدين بمفهومه العام.
رابعا الغنى التنظيري لهذا التمييز:
وقد استعمل المنظرون المسلمون تعبيرات كثيرة للدلالة على هذا التمييز بين ما هو للدين وما هو للدنيا. ويعكس ذلك ثراء التنظير في الموضوع وتعدد وجهات النظر إليه بتعدد المرجعيات الأصولية والفقهية. ومن ذلك التعبيرات التالية:
1 التعبدي أو العبادي مقابل العادي
فأفعال المسلم كما يقول أبو إسحاق الشاطبي نوعان: أن تكون من قبيل التعبدات، وأن تكون من قبيل العادات23. فالتعبدي يحمل معنى الخضوع والقربة، بينما العادي قد يكون طاعة دون أن يكون قربة33. ويميز بينهما الشاطبي بعبارة أكثر تفصيلا. يقول: كلّ دليل ثبت فيها (أي في نصوص الوحي) مقيداً غير مُطلق وجٌعِل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلاً عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها، لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية. ثم يميز الدليل الراجع إلى معنى تعبدي عن الدليل الراجع إلى معنى معقول بقوله: كل دليل شرعي ثبت في الناس مطلقاً غير مقيّد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلّف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء المنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات .
وبهذا تصبح حياة الإنسان وأفعاله كلها عبادات كما أشرنا إليه سابقا؛ سواء منها ما تعبد الله به عباده من العبادات المتقرب بها إليه بالأصالة، كالإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات. أو من العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق. وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم. وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى. والأول هو حق الله على العباد في الدنيا، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم .43
وهذا التقسيم للأحكام الشرعية إلى عبادات وعادات مما درج عليه عموم المنظرين في الفقه الإسلامي.
ومن فوائد هذا التمييز في حياة المسلم أن النية شرعت في الأصل لتمييز العبادة عن العادة53. فالشأن التعبدي لا يصح إلا بالنية، بينما العبرة في الشأن العادي بالمصلحة أو المنفعة المترتبة عنه. ومن أمثلة ذلك أن الغسل يمكن أن يتردد بين ما يفعل قربة إلى الله كالغسل عن الأحداث، وما يفعل لأغراض العباد أي منافعهم ومصالحهم، مثل إذا اغتسل للتبرد أو التنظف أو الاستحمام أو المداواة أو غيرها. يقول العز بن عبد السلام: فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد63. ومن الأمثلة أيضا أن الإمساك عن الأكل والشرب يقع من المسلم تارة حمية وحفظا للصحة و تارة عزوفا لعدم القدرة على الأكل و تارة لأمور أخرى فيحتاج في الصيام الشرعي إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام لمقاصد غير عبادية.
2 العبادي مقابل المصلحي:
أما أبو الوليد ابن رشد (ت 595 ه) فيتحدث عن العبادي في مقابل المصلحي حيث قال: والمصالح المعقولة لا يمنع أن تكون أساسا للعبادات المفروضة حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس37. وفي ربطه المصلحي بالأمور المحسوسة نظر، ولذلك فأدق منه تقسيم العز بن عبد السلام للطاعات إلى معقول المعنى مما ظهرت مصلحته، وغير معقول المعنى، يقول: المشروعات ضربان: أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته: ما ليس فيما ظهرت علته وفُهمت حكمته؛ فإن مُلابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالا للرب وانقيادا إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب38. وهذه التعريفات تتقاطع مع ما سبق من تقسيم إلى
تعبدي وعادي.
3 التعبدي مقابل التوصلي
وهذا التعبير نجده لدى فقهاء المذهب الجعفري (39). أما التعبدي فهو ما لا يتحقق الامتثال فيه إلا بوجود القصد والوعي ونية التقرّب به إلى اللّه تعالى، مثل الوضوء والصلاة والحج. والتوصلي هو الذي يكفي في امتثاله وإطاعته مجرّد حصوله من المكلّف ولو من غير التفات ووعي، ومن دون قصد التقرب به إلى اللّه تعالى، وذلك مثل وجوب تطهير اليد أو الثوب من النجاسة مقدِّمة للوضوء أو للصلاة، فإنَّه يكفي في امتثال هذا الواجب غسل اليد بالماء فتطهر ويتحقّق به الشرط، وكذلك مثل صلة الرحم وزيارة المريض ودفن الميت وأداء الدين وردّ السلام وغيرهما.
4 المطلوب ديانة مقابل المطلوب قضاء
فأحكام المعاملات في الفقه الإسلامي ذات اعتبارين اثنين: اعتبار دياني واعتبار قضائي(40). فالقضاء يحاكم العمل أو الحق بحسب الظاهر ووفق البينات التي ثبتت لديه، أما الديانة فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع. وقد نجد الأمر أو العمل الواحد يختلف حكمه في القضاء عنه في الديانة. والعبرة في تعلق الحقوق أمام الله بالحقائق وإن كان القضاء يجري ضرورة على الظاهر. فإذا حكم القاضي لإنسان بشيء بناء على سبب ظاهر، ولم يكن في الواقع حقا له، بأن كان الشهود كذبة، أو بسبب عدم كفاية الأدلة، أو لغير ذلك من الأسباب التي يعرف المقضي له أنها خلاف الواقع، فإن القضاء وإن اعتبر نافذا من الوجهة المدنية عملا بالظاهر ضرورة لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، لأن الحل والحرمة يجب أن يستندا إلى سبب صحيح في نظر الشرع وفقهه41.
والأصل في هذه التفرقة الحديث الصحيح الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار42.
وبناء على ذلك تختلف وظيفة المفتي عن وظيفة القاضي. يقول مصطفى الزرقا: فالقاضي يجري على الاعتبار القضائي للأعمال والأحكام، ولا ينظر إلى الاعتبار الدياني. أما المفتي فيبحث عن الواقع وينظر إلى الاعتبارين، فإن اختلف اتجاههما أفتى الإنسان بالاعتبار الدياني. فلا يجوز لأحد أن يأخذ مال الغير بلا سبب شرعي ولو حكم له به قضاء.
وقد تكون هناك أحكام دينية لكن لا يصدر في مثلها حكم قضائي. وذلك مثل الوعد الذي نص العلماء على وجوب الوفاء به ديانة فقط. يقول ابن عبد البر النمري: إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة ثم قال: ولا يقضى به43. ومن تأثيرات ذلك أن الشخص إذا وعد بشيء ثم توفي فإنه لا يحكم بأخذه من تركته، وإنما قالوا يجب الوفاء به تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف44 .
5 الديني مقابل المباح:
وهذا من أكثر التعابير دلالة على الوعي لدى عدد من العلماء بهذا التمييز. وهم يعنون بالدين هنا ما هو قربة وتشريع، فيؤكدون على ضرورة التفرقة بينه وبين ما ليس دينا ولا تشريعا، حتى لا يعبد الله بما لم يشرع. يقول ابن تيمية: وهذا أصل عظيم من أصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة، وطاعة وقربة واعتقادا ورغبة وعملا. فمن جعل ما ليس مشروعا، ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة، جعله دينا وطاعة وقربة، كان ذلك حراما باتفاق المسلمين (45). وقريب منه قول ابن قتيبة الدينوري: والسنة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب، ولو أن رجلا لم يأكل البطيخ بالرطب دهره وقد أكله رسول الله صلى الله عيه وسلم أو لم يأكل القرع وقد كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل إنه ترك السنة64. وهما يعنيان بالدين هنا معناه الخاص، أي ما هو قربة وتعبد.
6 ما هو لمصلحة الآخرة مقابل ما هو لمصلحة الدنيا
وهذا تعبير دقيق يفيد في وضع معيار للتفرقة بين ما هو ديني بالمعنى الخاص وما هو دنيوي. وقد استعمله العز بن عبد السلام بكثرة في كتابه المعروف قواعد الأحكام في مصالح الأنام. إن المصالح عنده ثلاثة أنواع أو أضرب: أَحدها: أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ، إذْ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ بِمَ يُخْتَمُ لَهُ ؟ (...) الضَّرْبُ الثَّانِي: مَصَالِحُ دُنْيَوِيَّةٌ (...)، الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَكُون لَهُ مَصْلَحَتَانِ إحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالْأُخْرَى آجِلَةٌ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّاتِ، فَإِنَّ مَصَالِحَهَا الْعَاجِلَةَ لِقَابِلِيهَا، وَالْآجِلَةَ لِبَاذِلِيهَا47. ومن المهم جدا الوقوف عند تأكيده المتكرر على أن الشرع (أو الدين) هو الذي يحدد مصالح الآخرة، بينما يتكلف الاجتهاد البشري بالتعرف على مصالح الدنيا، يقول: أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من
ذلك طلب من أدلته48. أما تلميذ العز بن عبد السلام شهاب الدين القرافي فقد أكد على أن التصرفات القضائية تكون فيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا، وذلك احترازا من مسائل الاجتهاد في العبادات ونحوها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الآخرة، فلا جرم لا يدخلها حكم الحاكم أصلا49. ولذلك فإن القول بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة هو من مهمة المفتي ولا شأن للقاضي به. كما أن ما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا يكون الحكم الفصل الواجب التنفيذ فيه للقاضي لا للمفتي. وهو شيء أكد عليه الكثيرون أثناء مناقشتهم للتفاعل الموجود بين الفتاوى والأحكام القضائية وضوابط كل منهما.
هكذا يظهر عمق الوعي بهذا التمييز بين الديني والدنيوي لدى علماء الإسلام عبر التاريخ، ولهذا في رأينا تأثير مباشر على علاقة الديني بالسياسي.
خامسا تمايز الدين والسياسة
ينبثق الإطار النظري لعلاقة الديني والسياسي من الإطار النظري لعلاقة الديني بالدنيوي، وهو الذي أبرزت الفقرات السابقة أنها علاقة مركبة، لا تتخذ طابعا ولا صيغة واحدة لدى المنظرين المسلمين مند العهد النبوي إلى اليوم. وهذا التنوع نجده أيضا لدى مختلف الشعوب والثقافات، ومختلف المدارس الفكرية والأيديولوجية. وقد أدى التنوع في معاني لفظ الدين وعدم أخذ ذلك بعين الاعتبار في كثير من الأحيان إلى الاضطراب وسوء التفاهم بين المدارس المختلفة، فكل يفهم من كلام الآخر خلاف ما يقصد. وخصوصا بسبب الخلط بين مستويي استعمال لفظ الدين، العام والخاص.
وهكذا فإن كثيرين يرون بأن العلاقة يجب أن تكون فصلا بين الديني والسياسي، وإقامة السياسة على أسس مدنية محضة، لا وجود فيها لإحالة على مقدس، بل يقصى الدين منها إقصاء. إن الشأن الديني عندهم شأن مطلق بينما السياسة شأن نسبي. وهم يبنون رأيهم في الغالب على أن الدين علاقة روحية بين العبد وربه، وحقيقته إيمان يستقر في الوجدان والقلوب.
وفي المقابل يجعل كثيرون تلك العلاقة وصلا تاما وترابطا ماهويا، بجعل العمل السياسي عملا دينيا بالمعنى الخاص، انطلاقا من أن الدين الإسلامي دين شامل لا يمكن عزل السياسة عنه.
والظاهر أن أغلب الخلاف ناتج عن عدم ضبط المفاهيم أو المصطلحات. فكثيرون عندما يسمعون عبارة (فصل الدين عن السياسة) يفهمون منها فصل السياسة عن القيم والأخلاق، وتركها فريسة الأهواء وأنواع الدجل والكذب، أو عزلها عن حقائق العدل والمساواة وحب الخير للناس ومراعاة مصالحهم. بينما لا يعني بها آخرون من المدافعين عنها إلا عدم اعتبار القرار السياسي ذا قدسية وقطعية دينية لا تقبل الاختلاف وفي مستوى الوحي الإلهي.
وفي رأينا أن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليس هو الفصل القاطع، وليس هو الوصل والدمج التامين، بل هو وصل مع تمييز وتمايز. ونحن هنا نستعمل عبارة شهاب الدين القرافي التي دافع عنها في كتابه: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، بالتمييز بين تصرفات الرسول بوصفه نبيا، وبين تصرفاته بوصفه رئيسا للدولة.
والسبب في ذلك هو أنه لا يمكن إقرار فصل تام بين الدين والسياسة في أي مجتمع من المجتمعات، لأن الدين حاضر لدى الفرد المنتمي إلى المجتمع سواء كان مسلما أو غير مسلم، متدينا أو غير متدين حاضر في لاوعيه وفي ثقافته التي تشربها. كما أن الدين أي دين يطرح منظومة قيمية ومعيارية ويوجه للأهداف العليا التي يريد أن تسود الحياة وتوجه مسيرة الحضارة، مثل العدل والحرية والمساواة والشفافية والشورى وتكريم الإنسان وغيرها، وما ينتظره الدين من الناس المؤمنين به هو أن تنعكس هذه القيم المعيارية في علاقاتهم الدنيوية وفي عملهم السياسي. وبالتالي فإن الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية.
إن تبني التمييز بين الدين والسياسة لا الفصل التام ولا الوصل إلى حد التماهي، هو الذي سيمنع من التنكر للإنجازات التي حققتها البشرية في مجال الفكر السياسي، ويمكن من الاستفادة من تطوراته، ويفسح المجال في نفس الوقت ليكون الدين معينا للقيم الأخلاقية والفكرية، بحيث يتم استصحاب هذه القيم في الممارسة السياسية استصحابا يثريها بالمعاني الإنسانية السامية. كما يمكن أن يبقى الدين كما كان باستمرار طيلة تاريخنا القديم والحديث محفزا للإصلاح السياسي، ومعالجة الظواهر السلبية في الحياة الانسانية.
مُوجِّهات التمييز بين الدين والسياسة (...) التمييز بين الدين والسياسة ينبني إسلاميا على جملة موجهات هي: إن الدين هو ما كان مطلوبا لمصالح الآخرة، أي ما هو مطلق من تعاليم وأحكام في الدين. بينما أحكام السياسة يدخل ضمن ما هو مطلوب لمصالح الدنيا. فهي ليست دينا بالمعنى الأول، أي ليست وحيا ولا أحكاما مطلقة. لكنها دين بالمعنى الثاني، أي خاضعة لرؤية الدين العامة للإنسان وللمجتمع، وملتزمة بمبادئه وأخلاقه وإطاره العام. إن مقام رئاسة الدولة (أو الإمامة) إذن مقام دنيوي، يسمي شهاب الدين القرافي ما يصدر عنه من سياسات وإجراءات وقرارات تصرفات بالإمامة، وتكون خفيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنياح احترازا من مسائل الاجتهاد في العبادات ونحوها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الآخرة، فلا جرم لا يدخلها حكم الحاكم أصلا، وبالتالي فإن الحكم الديني المحض يصدر عن مقام الإفتاء، بينما القرار السياسي يصدر عن الجهة المؤهلة، من رئاسة للدولة أو مستويات المسؤولية الأخرى فيها. إن لكل تصرف من التصرفات المختلفة عند القرافي مستند مختلف. فالفتيا تعتمد الأدلة الشرعية، والقضاء يعتمد الحجاج أو الأدلة
المقدمة من قبل المتخاصمين. وتصرف الإمام (أو التصرف السياسي) يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة وهي غير الحجة، أي غير الدليل الشرعي. وقد وضح ذلك قائلا: اعلم أن العبادات لا يدخلها الحكم ألبتة، بل الفتيا فقط، فكل ما وجد فيه من الإخبارات فهي فتيا فقط، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة، ولا أن هذا الماء دون القلتين، فيكون نجسا، فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله، بل ما يقال في ذلك إنما هو الفتيا إن كانت مذهب السامع عمل بها، وإلا فله تركها، والعمل بمذهبه.50 وهكذا يظهر أن شؤون الدين بالمعنى الخاص هو من مهمة المفتي أو غيره من المختصين أو المكلفين بالمهام الدينية، بينما القرار السياسي هو من مهمة المختصين أو المكلفين بالمختصين أو المكلفين بالمسؤوليات السياسية. ومما يميز الفتيا عن التصرف السياسي، أن الفتيا إخبار عن الحكم الشرعي، وهو غير ملزم. أما التصرف بالإمامة (أو التصرف السياسي) فهو ملزم. ومن هنا ورد القول: إن الحكم إلزام والفتيا إخبار.51 ولذلك فإن فتاوى المفتين يمكن أن تختلف، وقد تتعارض، ولا حرج. وللمسلم أن يختار منها انطلاقا من ثقته بمفت معين في دينه أو علمه، أو
انطلاقا من اقتناعه بالأدلة التي يستند إليها. بينما التصرف السياسي الذي يأتيه المكلف بالمسؤوليات السياسية فهو ملزم، لأن السلطة السياسية بحكم تعريفها نفسه مفوض لها إلزام مواطنيها بسياساتها وقراراتها التي تهدف من حيث المبدأ حفظ أمن واستقرار المجتمع وتحقيق مصالحه. سادسا الخلاصة إن استيعاب العلاقة الحركية والمتجددة بين الدين والسياسة يؤدي إلى الوعي بالتمايز بينهما دون أن يتطور ذلك إلى تنابذ وتنافر، مما هو مساعد لتأسيس تجربة حضارية جديدة للمجتمعات الإسلامية. ويمكن أن ينتج عن هذا النمط من العلاقة، التي قد تختلف من مجتمع مسلم لآخر، إعادة تأسيس العلاقة بين الدعوي والسياسي داخل الحركة الإسلامية بما يزيد عطاءها الفكري والحضاري وكسبها السياسي والاجتماعي ثراء وتجذرا.
32 الاعتصام (1/79).
33 الزركشي: منثور القواعد (2/367)
34 الشاطبي. الموافقات. 2/164.
35 العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام (1/207)، الزركشي: المنثور في القواعد (3/290)، الحافظ العلائي: المجموع المذهب في قواعد المذهب (1/260)
36 العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام (1/207).
37 بداية المجتهد (1/17)
38 العز ابن عبد السلام: قواعد الأحكام ، ص19
39 انظر مثلا: آية الله جعفر السبحاني الموجز في أصول الفقه. وانظر مثلا: محمد جواد مغنية: أصول الفقه في ثوبه الجديد، ص 60 64.
40 مصطفى أحمد الزرقا: المدخل الفقهي العام (1/58)
41 نفسه (1/57)
42 رواه البخاري في كتب (المظالم الشهادات الحيل الأحكام القضاء) ومسلم في كتاب الأقضية، وأبو داود في كتاب الأقضية، والنسائي في كتاب آداب القضاة، الترمذي في كتاب أبواب الأحكام، وابن ماجه في كتاب الأحكام، ومالك في الموطأ كتاب الأقضية، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام، وأحمد في المسند وغيرهم ب
43 التمهيد: 3/207
44 فتح الباري: 5/290
45 الفتاوى (31/38)
46 تأويل مختلف الحديث، ص 48
47 قواعد الأحكام (1/43)
48 قواعد الأحكام (1/10)
49 القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص 35.
50 القرافي: الفروق 4/48
51 القرافي: الإحكام، ص 13


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.